﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ (2)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، نحمَدُك تباركتْ أسماؤك، وتعالى ذكرُك، وقهرَ سلطانُك، وتمَّت كلماتُك، تباركتَ وتعاليتَ، أمرُك قضاءٌ، وكلامُك نورٌ، ورضاك رحمةٌ، وسَخطُك عذابٌ، تباركتَ وتعاليتَ، تقضى بعلمٍ، وتعفو بحلمٍ، وتأخُذُ بقدرةٍ، وتفعلُ ما تشاءُ. تباركتَ وتعاليتَ، واسعُ المغفرةِ، شديدُ العقابِ والنقِمةِ، قريبُ الرحمةِ، سريعُ الحسابِ على كلِّ خفيَّةٍ، الحاضرُ لكلِّ سريرةٍ، الشاهدُ لكلِّ نجوى، اللطيفُ لِما يشاءُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).
أُوصيكمْ عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى الله والاستقامةِ على دينِه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾(1) وقَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ، وعَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ، وعَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ، ثُمَّ إِيَّاكُمْ وتَهْزِيعَ الأَخْلَاقِ وتَصْرِيفَهَا، واجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً، ولْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ، فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ، فمَا من عَبْدٍ يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ، ولَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، ولَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"(2).
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(3) صدق الله مولانا العلي العظيم.
قُلنا في جلسةٍ سابقة أنَّ معنى الهَون بِحسب مدلولِه اللغوي هو الرِّفْقُ واللّينُ، وذلك في مقابلِ الهُون بضمِّ الهاءِ، والذي يعني الهَوانَ والصَغارَ والمذلّة، وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ﴾(4) فعذابُ الهُونِ هو العذابُ بالتصغيرِ والتحقيرِ والتوهينِ، ومفادُ الآيةِ هو انَّ الجَزاءَ يومَ القيامةِ يكونُ من سِنخ العملِ، فالعذابُ الذي سينالُ المستكبرينَ في الآخرة مناسبٌ لما كانوا عليه في الدنيا، فحيثُ كان سلوكُهم وكانت سجيتُهم في الدنيا الاستكبارَ والتجبُّرَ والاستعلاءَ لذك صارَ عذابُهم في الآخرةِ هو الصغارّ والهوانَ، فهذ هو معنى ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ وهو معنى قولِه تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾(5) أي إنَّ عليكَ أنْ تُقاسِيَ مرارةَ العذابِ المَهينِ والمُذِلِّ بعد أن كنتَ عزيزاً تستطيلُ بعزَّتِك على مَن هم دونَك.
وقد استعملَ القرآنُ الكريمُ كلمةَ الهُون بمعنى الهَوانِ والذُلِّ في قولِه تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ / يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (6) فقولُه تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾، أي على مذلَّةٍ.
والآيةُ الشريفةُ كانت بصددِ التوصيفِ لظاهرةِ كانتْ فاشيةً في العصرِ الجاهلي، فكانَ أحدُهم إذا بُشِّر بالأنثى وأنَّ زوجتَه قد وَضعتْ له بنتاً اسودَّ الأفقُ في عينِه وإربدَّ وجهُه وامتلئ قلبُه غيضاً وتأسُّفاً وخجَلاً، لذلك فهو لا يخرجُ إلى محافلِ الرجال خشيةَ أنْ يسألوه فيُعيِّروه أو يجدُ في وجوهِهم ما يُعبِّرُ عن استصغارِهم لشأنِه، فهو يتوارى عنهم، فإمَّا أنْ يُسافرَ مدةً ينسى معها الناسُ ولادةَ زوجتِه أو يجلسُ في بيتِه حزيناً كئيباً بائساً: ﴿مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ فهو يعتبرُ ولادةَ زوجتِه بأنثى أمراً مُسيئاً ومعيباً ومشيناً لذلك يظلُّ في حيرةٍ من أمرِه أيَّ شيءٍ يصنعُ بهذا الطالعِ السيءِ الذي ألمَّ به ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ فالمولودُ الذي أنجبتَه زوجتُه فلذةٌ من كبدِه يشدُّه إليها انَّها ابنتُه لكنَّها أُنثى يَستصغرُه الناسُ بِها، فماذا يصنع؟ هل يتجاوزُ الأعرافَ ويستسلمُ لمشاعرِ الحبِّ الذي يَشدُّه لابنتِه، فيُمسكُها ويُبقيها على قيدِ الحياةِ ويتجرَّعُ الهَوان بذلك أو يُكابرُ مشاعرَه فيدسُّ ابنتَه في الترابِ وينفي عن نفسِه الخزيَ والعارَ ويرعى بذلك الأعرافَ السائدة، تلك هي الحيرةُ التي تتملَّكُه حين يُبشَّرُ بالأنثى، فهو بين محذورينِ، فإمَّا أن يستجيبَ لمشاعرِه وعاطفتِه التي تُلحُّ عليه بالرعايةِ لابنتِه والاحتضانِ لها والإبقاءِ عليها، فيقبلُ حينذاكَ بالضيمِ والهَوان أو يحتفظُ بكبريائِه وعزَّتِه فيحفرُ قبراً لابنته فيدسُّها فيه، ثم إنَّ القرآنَّ الكريمَ وصفَ هذه الحالةَ وهذه الثقافةَ التي كانت سائدةً بقوله: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ فأيُّ ثقافةٍ بائسةٍ وجائرةٍ هذه التي تفرضُ على الإنسانِ للاحتفاظ بكرامتِه أنْ يدفنَ ابنتَه وفلذةَ كبدِه وهي حيَّةٌ في التراب.
ويحسنُ في المقامِ أن أُشيرَ استطراداً إلى انَّ بعضَ الكتَّاب تبعاً لبعضِ المؤرخينَ قلَّلَ من شأنِ هذه الظاهرةِ، وادَّعى انَّ وأدَ البناتِ في العصر الجاهلي لم تكنْ سوى قضايا فرديةٍ لا تُكادُ تذكر، واعتمدَ في ذلك على ما ذكرَه بعضُ المؤرخينَ انتصاراً للعربِ وسعياً منه لسترِ ما يُتاحُ سترُه من سوآتِهم وتقليلاً من شأنِ الإسلامِ الذي تمكَّن من القضاءِ على الكثير من مثل هذه الظواهرِ المُشينَةِ، وقد غفِلَ هؤلاءِ انَّ القرآنَ الكريمَ هو مَن تصدَّى لتوثيقِ هذه الظاهرةِ في العديدِ من الآياتِ، فلحنُ هذه الآياتِ وتكرارُ التشنيعِ على هذه الظاهرةِ في العديدِ من الآياتِ، وتنويعُ وسائلِ المعالجةِ لها يكشفُ ذلك كلُّه عن أنَّ هذه الظاهرةَ كانت فاشيةً في الوسطِ العربي وذاتَ جذورٍ ثقافيَّةٍ.
والأمرُ الآخرُ الذي تَحسنُ الإشارةُ إليه في المقامِ هو إنَّ الإسلام عالجَ هذه الظاهرةَ من خلالِ منظومةِ القيمِ التي أصًّلها واستبدلَ بها القيمَ السائدةَ في العصرِ الجاهلي، وكان من تلك القيمِ التي أَرْسى دعائمَها هو حقُّ الإنسانِ في الحياةِ منذُ صيرورتِه في عالمِ الأرحامِ، ولهذا حرَّم شديداً على الأبوينِ فضلاً عن غيرِهما إجهاضَ الجنينِ، وفرضَ عقوباتٍ جنائيةً على كلِّ من يَقترفْ هذه الجريمةَ البشِعةَ، والعجيبُ انَّ المتبجِّحينَ بالرعايةِ لحقوقِ الإنسانِ في الغربِ تكادُ تتَّفقُ الدوائرُ السياسيةُ عندَهم على مشروعيَّةِ الإجهاضِ، وأنَّ من حقِّ المرأةِ أن تُجهِضَ جنينَها اختياراً متى ما رغِبتْ وإنْ كان الجنينُ في آخرِ مراحلِ أطوارِه، ولهذا يقفُ المرءُ مذهولاً أمامَ الإحصائياتِ السنويَّةِ لعمليَّاتِ الإجهاضِ الرسميَّةِ، وأما غيرُ الرسميَّة فهي تفوقُ الرسميَّةَ بمراتب، وبذلك عادَ وأدُ البناتِ في حُلَّتِه الجديدةِ تحتَ رعايةِ وتشريعِ دُعاةِ الحضارةِ والحمايةِ لحقوقِ الإنسانِ.
بعد هذا الاستطرادِ نَعودُ إلى موضعِ الحديث حول الفرق بين كلمة الهُونِ بضمِّ الهاء والتي وردت في قوله تعالى: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾ وبين كلمةِ الهَون بفتحِ الهاء والتي وردتْ في قولِه تعالى: ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ فالأُولى والتي هي بضمِّ الهاءِ تعني الهَوانَ والمذلَّةَ والصَغارَ، وأمَّا الثانيةُ والتي هي بفتحِ الهاءِ فتعني بحسبِ مدلولِها اللُغويِّ الرِفقَ واللينَ، فحينما يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ فإنَّ ذلك ليس معناه أنَّهم يَمشونَ على الارضِ أذلاءَ مُحتقرينَ، فإنَّ العزةَ للهِ ولرسولِه وللمؤمنين، فعبادُ الرحمنِ هم أهلُ العزَّةِ والأنفَةِ والكرامةِ، فالمرادُ من قولِه تعالى: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ أحدُ معنيين:
الأول: انَّهم يمشونَ على الأرضِ بتواضعٍ دونَ تكلُّف ولا استعلاءٍ.
والثاني: أنَّهم يُخالطونَ الناسَ برِفقٍ ولينٍ وسعةِ صدر.
فالاحتمالُ الأولُ: لمفادِ الآيةِ المباركةِ هو انَّها بصددِ بيانِ الصِّفةِ التي تكونُ عليها مِشيةُ عبادِ الرحمن، فصفةُ مِشيتهم أنَّها هيِّنةٌ ليس فيها تبخترٌ ولا تجبُّرٌ كما هي مِشيةُ المتكبِّرين.
والاحتمالُ الثاني: أنَّ الآيةَ بِصددِ البيانِ لطبيعةِ الخُلُقِ العامِّ الذي يَعتمدُه عبادُ الرحمنِ في مُخالطةِ عمومِ الناس، فهم يتعاملونَ مع الناسِ على أساسِ الرِفق واللِينِ في مختلفِ الشئونِ، فالمرادُ من المَشي بناءً على الاحتمالِ الثاني هو السيرةُ وطبيعةُ السلوكِ، وليس المرادُ من المشيِ هو المشيَ المتعارَفَ، فمفادُ الآيةِ بناءً على ذلك هو انَّ سيرةَ عبادِ الرحمنِ مع الناسِ قائمةٌ على أساسِ الرِفقِ واللِينِ. هذا هو الاحتمالُ الثاني، ولعلَّ كلا الاحتمالينِ مرادٌ من الآيةِ الشريفةِ.
ونبدأ أولاً بالحديثِ عن الاحتمالِ الأولِ للآية: وهو أنَّ المُرادَ مِن الآيةِ هو التوصيفُ للكيفيَّةِ التي ينبغي أنْ تكونَ عليها مِشيةُ المؤمن.
يقولُ تعالى: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ أي يمشونَ مشياً هيِّناً مسترسلاً ليس فيه تكلُّفٌ ولا تصنُّع، وليس فيه تَبخْتُرٌ، ولا إستِعلاء، وليس فيه ما يُعبِّر عن الإستكبار والخُيَلاء.
والملاحظُ أنَّ الآيةَ الشريفةَ لم تقلْ يمشونَ على الأرض (مشياً هيِّناً)، رغمَ انَّ المشيَ ينبغي أنَّ يُوصفَ (بالهَيِّن) أي بإسم الفاعل، لكنَّ الآيةَ وصفتْه بالمصدرِ، والغرضُ من ذلك ظاهراً هو المبالغةُ والتعبيرُ عن أنَّه ينبغي الحرصُ على أنْ يكونَ المشيُ فيه كمالُ الهَونِ وكمالُ التواضعِ والتلقائية.
فعندما يُستعاضُ عن وصفِ الشيءِ باسمِ الفاعلِ، إلى الوصفِ بِالمصدرِ يكونُ ذلك لغرضِ المبالغةِ كما يُقال: "زيدٌ كرمٌ أو زيد هو الكرم"، فإنَّ الغرضَ من ذلك هو التعبيرُ عن أنَّ زيداً متَّصِفٌ بأعلى درجاتِ الكرَمِ حتى انَّه لو تجسَّدَ الكرمُ لكانَ زيداً، وهذا بخلاف ما لو قلنا: زيدٌ كريمٌ، فإنَّ معنى ذلك أنَّ زيداً متصفٌ بملكةِ الكرمِ وهذا يصدقُ جتى لو كان زيدٌ واجداً لمرتبة دانية من ملكة الكرم، أما حين نريدُ التعبيرَ عن انَّ زيداً واجدٌ لأعلى مراتبِ الكرَمِ فإنَّ المناسبَ أنْ نقول: زيدٌ هو الكرَمُ.
وهذا هو منشأُ توصيفِ سَودةَ بنتِ عَمارة لعليِّ بن أبي طالب (ع) بِأنَّه العدلُ، فهذه المرأةُ الصالحةُ حين دخلتْ على معاويةَ فكانت بينهما مشادةٌ كلاميَّةٌ تهدَّدها فيها معاويةُ باستئصالِ قبيلتِها فأجابته بحزمٍ ثم بكت ثم قالت:
صلَّى الإلهُ على روحٍ تضمَّنها ** قبرٌ فأصبحُ فيه العدلُ مدفونا
قد حالفَ الحقَّ لا يبغي به ثمناً ** فصارَ بالحقِّ والإيمانِ مقرونا(7)
فهي تقولُ انَّ المدفونَ في غريِّ النجفِ ليس هو جثمانَ عليٍّ بل المدفونُ هو العدلُ، فعليٌّ هو العدلُ، والعدلُ هو عليٌّ، فحينَ دُفنَ عليٌّ صار العدلُ هو المدفونُ. فذلك هو معنى فأصبحُ فيه العدلُ مدفوناً.
فمحَلُّ الشاهدِ من هذه القضيةِ هو انَّ هذه المرأةَ العربية- قد وصفتْ عليَّاً (ع) بِالمصدر، يعني بالعدلِ فلم تقل: "عليٌ عادل" وإنَّما قالت "عليٌّ هو العدل" وذلك لغرضِ التعبيرِ عن أنَّ الموصوفَ بالعدلِ واجدٌ لأعلى مراتبِ العدل.
كذلك هو الآيةُ الشريفة قالتْ: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ أي مشياً هوناً ولم تقلْ: "الذين يمشون على الأرض مشياً هيِّناً" والغرضُ من ذلك ظاهراً هو المبالغةُ في الحضّ للمؤمنِ على أنْ تكونَ مِشيتُه بين الناس واجدةً لأعلى مراتبِ التواضعِ، فليس فيها أدنى مرتبةٍ مِن مَراتبِ التصنُّعِ أو التبختُرِ والاستعلاءِ والكبرياءِ.
وقد ركَّز القرآنُ الكريمُ في العديدِ من الآيات، وكذلك هي الرواياتُ الكثيرةُ الواردةُ عن الرسولِ الكريم (ص) وأهلِ بيتِه (ع) أولتْ اهتماماً متميَّزاً بموضوعِ المشي وكيفيَّتِه فميَّزت بين المِشيتين، مِشيةِ التواضعِ، ومِشيةِ التكبُّرِ والتبختُر، فحضَّت على المِشية الأُولى ونهتْ وشدَّدتِ النكيرَ على الثانية. ذلك لأنَّ المِشية تكشفُ عن هويَّةِ صاحبِها، فالكثيرُ مِن المَلَكاتِ النفسانيَّةِ التي ينطوي عليها الإنسانُ يُمكنُ استكشافُها مِن خلال مِشيتِه، وكذلك من خلالِ بعضِ سلوكياتِه، وأهمُ هذه السلوكياتِ الكاشِفةِ عن واقعِ حال صاحبِها وعن واقعِ ما ينطوي عليه مِن ملكاتٍ حميدةٍ أو سيئةٍ هي المِشيةُ.
فحين تجدُ إنساناً يمشي متبختراً كالطاووس، مستعلياً شامخاً بأنفِه، ناظراً في عِطفَيه، لا يكادُ ينظرُ إلى الناسِ إلا بعينٍ حاقرةٍ، ولا يبذلُ السلامَ ولو فعلَ فمِن أقصى خَيشومِه، وقد يكتفي بأنْ يُشير بإصبعِه دون يدِه، وقد ينظرُ مِن طرفٍ ذاهلٍ غيرِ مكترث، وقد لا ينظرُ لمن سلَّمَ أو يسلِّمُ عليه استهانةً به، ويكتفي من التحيةِ بأقصرِها وأجفاها، فمثلُ هذا المخلوقِ مبتلى بعاهةٍ في نفسِه.
فليستِ العاهةُ منحصرةً في أنْ يُصابَ الإنسانُ في بعضِ أعضائِه بعطَبٍ، ثمة الكثيرُ من الناسِ ينبغي أنْ يُصنَّفوا ضمنَ ذوي الاحتياجاتِ الخاصَّة وإنْ كانتْ كلُّ أعضائِهم سليمةً ومعافاة، فالعاهاتُ النفسيَّةُ أشدُّ إعاقةً للإنسانِ عن بلوغِ حاجاتِه من المُعاقِ في جسدِه، لذلك فهو أحوجُ للرعايةِ من المُبتلى بعاهةٍ في جسدِه، وليس من عاهةٍ نفسيةٍ أبلغُ في الإعاقةِ من التكبُّر، وأحدُ أهمِّ الكواشِفِ عن حالةِ التكبُّرِ هو المشيُ، لكنَّه قد لا يمشي مِشيةً تجدُ فيها تبختراً ورغم ذلك فإنَّ عاهتَه لا تَخفى، فإنْ أسعفتْه مِشيتُه لم تُسعفْه قسماتُ وجهِه ولحظاتُ عينِه وسقطَاتُ لسانِه المعبِّرةُ عن أنسِه بذاتِه وامتهانِه لغيرِه واعجابِه بخصالِه واغتباطِه بما عندَه، أسألُ الله لي ولكم العافية.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(8)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
25 من ربيع الآخر 1437هـ - الموافق 05 فبراير 2016م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- سورة فصلت / 30.
2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 68 ص 287.
3- سورة الفرقان / 63.
4- سورة الأحقاف / 20.
5- سورة الدخان / 49.
6- سورة النحل / 58-59.
7- "صلى الإله .. لا يبغي به بدلا .. "بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 41 ص 119.
8- سورة العصر.