الصبر جامع لمنظومة القيم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّه الْخَافِضِ الرَّافِعِ، الضَّارِّ النَّافِعِ، الْجَوَادِ الْوَاسِعِ، الْجَلِيلِ ثَنَاؤُه، الصَّادِقَةِ أَسْمَاؤُه، الْمُحِيطِ بِالْغُيُوبِ، ومَا يَخْطُرُ عَلَى الْقُلُوبِ، الَّذِي جَعَلَ الْمَوْتَ بَيْنَ خَلْقِه عَدْلاً، وأَنْعَمَ بِالْحَيَاةِ عَلَيْهِمْ فَضْلاً، فَأَحْيَا وأَمَاتَ، وقَدَّرَ الأَقْوَاتَ، أَحْكَمَهَا بِعِلْمِه تَقْدِيراً، وأَتْقَنَهَا بِحِكْمَتِه تَدْبِيراً، إِنَّه كَانَ خَبِيراً بَصِيراً، هُوَ الدَّائِمُ بِلَا فَنَاءٍ، والْبَاقِي إلى غَيْرِ مُنْتَهًى، يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْضِ ومَا فِي السَّمَاءِ، ومَا بَيْنَهُمَا ومَا تَحْتَ الثَّرَى، أَحْمَدُه بِخَالِصِ حَمْدِه الْمَخْزُونِ بِمَا حَمِدَه بِه الْمَلَائِكَةُ والنَّبِيُّونَ، حَمْداً لَا يُحْصَى لَه عَدَدٌ ولَا يَتَقَدَّمُه أَمَدٌ، ولَا يَأْتِي بِمِثْلِه أَحَدٌ، أُومِنُ بِه وأَتَوَكَّلُ عَلَيْه وأَسْتَهْدِيه وأَسْتَكْفِيه وأَسْتَقْضِيه بِخَيْرٍ وأَسْتَرْضِيه، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه أَرْسَلَه بِالْهُدَى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه ولَوْ كَرِه الْمُشْرِكُونَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وآلِه

عبادَ الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله في سرِّ أمرِكم وعلانيتِه، وعلى أيِّ حالٍ كنتم عليها، وليعلمِ المرءُ منكم أنَّ الدنيا دارُ بلاءٍ وفناء، والآخرةُ دارُ جزاءٍ وبقاء، فمَنِ استطاعَ أنْ يؤثرَ ما يبقى على ما يفنى فليفعلْ، فإنَّ الآخرةَ تبقى، والدنيا تفنى، رزَقنا اللهُ وإيَّاكم بصراً لما بَصَّرنا، وفهماً لما فهَّمنا حتى لا نُقصِّر عمَّا أمرَنا ولا نتعدَّى إلى ما نهَانا

من وصايا الإمام الجواد (ع):

أما بعدُ ففي المأثورِ عن الإمامِ الجوادِ (ع) أنَّ أحدَّهم استوصاهُ فسأله الإمامُ (ع): "و تقبل؟"، فقال نعم. فأوصاه بقوله (ع): توسَّدِ الصبرَ، واعتنقِ الفقر، وارفضِ الشهوات، وخالفِ الهوى. واعلم أنَّك لن تخلوَ من عينِ الله، فانظرْ كيف تكون"(1).

لماذا افتتحَ الإمام وصيته بالصبر؟

لعلَّ ذلك نشأَ عن أنَّ الصبرَ مفتاحُ كلِّ فضيلة، فلا تُمنحُ الفضائلُ والكمالاتُ إلا بالصبرِ، ومرادُ الإمامِ (ع) من قوله توسَّدِ الصبر، هو إنَّ على المؤمنِ والعاقلِ أنْ يجعلَ مستندَه الذي يتكأُ عليه، وملجأَه الذي يأوي إليه في كلِّ نازلةٍ هو الصبرُ، ذلك لأنَّه لا منجى من أثرِ البلاءِ أو المصيبةِ إلّا به؛ فالإنسانُ عند المصيبةِ بين خيارين فإمَّا أنْ ينهارَ فيجزعَ، وإما أنْ يلتجئَ إلى الصبر، وحينئذٍ يكونُ قد إلتجئ إلى ركنٍ وثيق.

وحتى يتَّضحُ مفادُ قول الإمام (ع) لابد وأنْ نقفَ على معنى الصبرِ، وأنْ نقفَ على المواردِ التي يحسُنُ فيها الصبرُ، والمواردِ التي لا يحسُنُ فيها الصبرُ.

معاني الصبر:

أ- الصبر على المكاره والمصائب

الصبر يعني التحمُّلَ للمكروه بسعةِ صدرٍ ودونَ جزع، فالمقابلُ للصبر هو الجزع.

فعندما ينتابُ الإنسانَ مكروهٌ أو تنزلُ به نازلة أو يُصابُ بمصيبةٍ، فيتحمَّلها ويتلقَّاها بسعةِ صدر فهو صابر، وحينما يتلقَّاها بجزعٍ، وينهارُ عندها ويضعُفُ فهو جازع. فالجزعُ بناءً على هذا التفسير يكون مقابلاً للصبر، هذا هو معنى الصبر، وفي الواقع هو معنىً من معاني الصبر، ولعلَّه بعنايةٍ يكونُ التحمُّلُ للمكروه معنىً جامعاً لمفهوم الصبر.

ب- الصبر عن الملذات

والصبر أيضا يعني كبحَ النفسِ وصدَّها عن المرغوب إذا كان هذا المرغوبُ قبيحاً. فالإنسانُ يرغبُ في كثيرٍ من الأشياء، لكنَّها قد تكونُ قبيحةً أو مستهجنةً، أو يكونُ الطريقُ إليها مُستقبَحاً أو مُستهجناً، فحين يكبحُ نفسَه عن تحصيل هذه المرغوبات يكونُ صابراً، وحين يصدُّ نفسَه عن مساورة هذه الملذَّاتِ يكونُ صابراً.

ج- الصبر عن المعصية

فقد يجدُ الإنسانُ نفسَه توَّاقةً لمساورة بعضِ المحرَّمات فهو حين يحبسُها حتى لا تنساقَ فتقارفُ تلك المشتهياتِ المحظورة يكون صابراً. وقد يكونُ المحبوب الذي تهشُّ إليه النفسُ مباحاً في نفسِه، ولكنَّ الطريقَ إليه مُحرَّم، فهو حين ينأى بنفسِه عن ذلك المرغوب ويعزُبُ عنه، لأنَّ الطريق إليه محرمٌ فهو أيضا صابر.

إذن، فالصبرُ يكونُ تحمُّلاً للمكروه، ويكونُ كبحاً للنفسِ وصدَّا لها عن تحصيلِ المرغوب إذا كان المرغوبُ مُستقبَحاً أو مُستهجَناً.

فضيلة الصبر:

وقد أشادتِ الآياتُ والرواياتُ بالصبر إشادةً متميِّزةً، فلا تكادُ تقفُ على سجيَّةٍ من سجايا الخيرِ قد تمَّ الثناءُ عليها والحثُّ على التحلِّي بها كما تجدُه في سجيَّةِ الصبر.

فالقرآنُ الكريمُ قد أشادَ بالصبرِ في أكثرَ من سبعينَ آية، منها قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾(3)، ويقول اللهُ تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ / الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ / أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾(4)، وقال جلَّ وعلا في سورة الزمر: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(5).

وقد ورد في الصحيح عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنَّه كان بصددِ بيان معنى هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(6)، فقَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُومُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ- أي جماعة من الناس- فَيَأْتُونَ بَابَ الْجَنَّةِ فَيَضْرِبُونَه، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الصَّبْرِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: عَلَى مَا صَبَرْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَصْبِرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّه -فلم نُهملْ فريضةً، ولم نُغفل حقَّاً علينا لله أو للناس، أمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، وتكبَّدنا من ذلك أشقِّ العناءَ والعنَت، وصُمنا، وصلَّينا، وأدَّينا الحجّ، وأخرجنا زكاةَ أموالِنا والحقوقَ التي فرضَ اللهُ على الناسِ إخراجَها من أموالِهم، وهل صبرتم على أمرٍ آخر؟ فيقولون كنَّا- نَصْبِرُ عَنْ مَعَاصِي اللَّه -فلم نرتكب ما حرَّمه الله تعالى وإن هشَّت النفس إلى شيء منها، فكنَّا نجاهدُ أنفسَنا ونكبحُها- فَيَقُولُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: -لملائكته- صَدَقُوا أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ وهُوَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾(7). (8)

فالصابرون لا يُحاسبون، ذلك لأنَّ الله تعالى قد وعدَهم أنْ يُوفِّيَهم أُجورَهم دون مساءلةٍ، فحيث أنه تعالى قد وعدهم لذلك فإنَّ إنجازَه لهم لوعدِه حتميٌّ قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾(9) ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حديثا﴾(10).

الصبر جامع الكمالات والفضائل

ولعلَّ منشأَ هذا التميُّز الذي يمنحُه اللهُ تعالى لعبادِه الصابرين يومَ القيامة هو انَّ الصبرَ في واقعِه مفتاحٌ لكلِّ فضيلة، بل يُمكن الترقَّي والقولُ بأنَّ الصبر هو الجامعُ لمنظومة الكمالاتِ والفضائل!

فالكمالاتُ الإنسانية هي مثلُ الشجاعةِ والسخاء، ومثلُ الزهدِ، والعفَّة، والحِلْم والعلم، والمروَّة والشهامة، وحسن الخلق، والعفوِ والتسامح.. هذه هي الكمالات التي ينبغي لكلِّ إنسانٍ مؤمن، بل لكلِّ عاقل -وإن لم يكن من أهلِ الإيمان- أن يتمثَّلها، ولو تأمَّلنا حقيقة هذه الكمالات لوجدناها تعنى الصَّبر، أو لوجدناها مظهراً من مظاهرِ الصبر؛ فالشجاعُ مثلاً هو من يصبرُ على مواجهةِ التحدِّيات فلا ينكِلُ ولا يتقهقرُ ولا تَنالُ الأهوالُ من عزيمتِه وإنْ جلَّت، فالشجاعة إذن نحوٌ من أنحاء الصبر. والعفَّةُ هي أنْ تسمو النفسُ فلا تُصغي لدواعي الرغبةِ المستهجنة أو المستقبحة، فعفةُ الفرجِ مثلاً تعني كفَّ النفس وحبسَها عن مقارفةِ الفواحش، وعفَّةُ البطنِ تعنى كبحَ النفسِ عن أكلِ الحرام وإن لذَّ وعن التعدِّي على حقوقِ الآخرين رغم نزوعِ النفس بطبعها إلى الاستكثار من الأموال والإمتيازات، فإذا حبسَ الإنسانُ نفسَه عن كلِّ ذلك فهو عفيف، فالعفةُ إذن مظهرٌ من مظاهرِ الصبر.

ولو تأمَّلنا سجيةَ الحلم، وبحثنا عن حقيقتِها لوجدنا أنَّها تعني فيما تعني سعةَ الصدر، فالحليمُ هو من يتَّسعُ صدرُه لحماقاتِ الآخرين وأخطائِهم فلا يُقابلُ سفاهةً بسفاهة رغم نزوع نفسه لمقابلةِ الإساءةِ بمثلِها أو بأشدَّ منها، ورغمَ قدرتِه على ذلك لكنَّه ينأى بنفسه ويُروِّضها على التغاضي والتجاوز، فالحلمُ إذن والذي هو سيِّدُ الأخلاق يعني التحمُّلَ لأذى الآخرين وتجاوزاتِهم فهو مظهرٌ من مظاهرِ الصبر.

وهكذا هو الشأنُ في الزهدِ فحينما لا تكونُ مبالياً بزخارفِ الدنيا، ولا تُنساقُ مع مغرياتِها، ولا تنهارُ عند ملذاتِها، ولا تقبلُ بالذلِ والهوانِ في سبيل تحصيلِ أسبابها، فأنتَ زاهد. فالزهدُ في حقيقته مظهرٌ من مظاهرِ سجيةِ الصبر.

فلا تكادُ تجدُ إنساناً مولَعاً بزخارفِ الدنيا وزينتِها، إلا وتجدُه ينطوي على نفسٍ مَهينة تستمرئُ الضِعةَ الصَغار، ذلك لأنَّها نفسٌ مسكونةٌ بداءِ الجشع، والجشعُ هو الذي يبعث في الإنسانِ الحُرصَ على طلبِ المزيدِ رغم أنَّ ما في يدِه يفوقُ حاجتَه، ولهذا فهو يُذِلَّ نفسَه للسلطان مثلاً طمعاً في نوالِه، ويتخضعُ لذوي الجاهِ والثراء رجاءَ رفدِهم وصِلاتِهم، فحبُّ الدنيا يخلقُ في النفسِ الجشعَ، والجشعُ ينتهى بالإنسانِ غالباً إلى أن يُذلَّ نفسه ويمتهنَها، فالشراهةُ والجشعُ هما طريقُ الإنسان إلى المهانة والمذلة. وأما حين يترفَّع الإنسانُ عن ذلك ويحبسُ النفسَ عما تهواه فإنَّه يكون حينئذٍ زاهداً، فالزهدُ هو مكابرةُ النفس وصدُّها عن الانسياقِ حيثُ مقتضياتُ الرغائبِ والمشتهياتِ المذلة أو المستهجنة وذلك لا يتمُّ إلا بالصبر، فالزهد إذن مظهرٌ من مظاهر الصبر. وهكذا هو الشأن في سائر الكمالات.

فالعلمُ مثلاً لا يُتاحُ إلا بالصبر، فلا يمكنُ تحصيلُه إلا بمغالبةِ النفسِ وترويضِها على مداومةِ الحضور لمجالس الدرس ومعاهد التعليم، وترويضِها على تجشُّمِ أعباء التركيزِ، والمطالعةِ، والمتابعةِ، وملاحقةِ المعلومات، والتأمُّلِ فيها، والتدبُّر في نتائجها ومقتضياتها، وكلُّ ذلك منافٍ لما يرغبُ إليه الإنسانُ بطبعه من الخلودِ للراحة والنزوعِ لأسبابِ الاستجمامِ والترويحِ عن النفس، كالخروجِ مع الأصدقاء، وارتياد المنتزهات وتعاطي اللعبِ واللهو، فإذا قبِلَ الإنسانُ لنفسه الاشتغالَ بذلك طيلة وقته أو أكثرَه فليس له أنْ يمنِّي نفسه بما عليه روَّاد العلم والمعرفة وذوي الهممِ العالية، لأنَّ الوجدانَ لملكة العلم يقتضي الترك للهو واللعب، والكثير مما تهشُّ إليه النفس، والعكوفَ على القراءة والكتابة، وحضورِ الدرس، والتأمُّلِ في مطالبه، والملاحقةِ لمبانيه، والمتابعةِ لشوارده في مصادره، وكلُّ ذلك لا يُتاح إلا بالصبر.

إذن فكلُّ كمالٍ يُرادُ تحصيلُه فإنَّ سرَّه، ومفتاحَه، ومطيَّتَه هو الصبر. فلا يُتاح الوصولُ لأيِّ كمالٍ ما لم تكن النفسُ مستعدةً لتحمُّلِ أعباءِ الوصول لذلك الكمال، وهذا هو معنى التوسُّدِ والاستناد على الصبر الذي أفاده الإمامُ الجوادُ (ع) فمنشأُ افتتاحِ الإمام وصيتَه بتوسُّد الصبر هو انَّ الصبر طريقُ الوصولِ للفضائلِ، وهو الجامعُ لمنظومةِ القيمِ والكمالات.

نقيض الصبر هو الجامع لمساوئ الصفات

ونقيضُ الصبرِ هو الجامعُ لمساويء الصفات؛ فحين يفتقدُ الإنسانُ ملكةَ الصبر فإنَّه لن يقوى مثلاً على مقاومةِ ما ترغبُ إليه النفس بمقتضى طبعها، وذلك ما سيقودُه للقبول بالذل والهوان إذا وجد انَّ الإشباعَ لنهمِه ورغباته لا يتمُّ إلا بسلوكِ هذا الطريق، فمثلُ هذا الرجلِ يرى أنَّ القبول بالصَغار والتحقير أهونُ عليه من فواتِ درهمٍ يأملُ في تحصيله.

قصة ودرس

يُروى انَّ الإمام الصادق (ع) كان يسعى بين الصفا والمروة على دابةٍ له، وكان أحدُ الولاةِ الأمويين جالساً على كرسيٍّ قد نُصبَ له في ناحيةٍ من المسجد الحرام وحوله رجالُه، فبصُر بالإمام الصادق (ع) وهو يسعى على دابته بين الصفا والمروة، ومعه عددٌ من أصحابه، فحدَّثَ الوالي نفسه لو يُتاحُ له النيل والتصغير من مقام الإمام (ع). فقادته هذه الأمنيةُ إلى أن يدفعَ بأحد رجاله ليفتعلُ مع الإمام خصومةً فيلجئُه للاحتكام عنده لفصل الخصومة، وبذلك يكونُ قد أدرك غايتَه بحسب توهُّمِه فسواءً حكم للإمام أو عليه فإنَّه سوف يكونُ في موقع القاضي ويكونُ الإمام في موقع الخصمِ لسوقيٍّ وضيع، وذلك ما ينتجُ بحسب توهمه الحطُّ من مقام الإمام (ع).

ذهب ذلك الرجلُ فأمسك بزِمامِ الدابَّةِ التي عليها الإمام (ع)، وقال يا أبا عبدالله، هذه دابتي، كيف تصعدُ على دابتي دون إذنٍ مني؟ فقال له الإمامُ هذه دابتك؟! قال نعم. فنزلُ الإمام الصادق (ع) عن دابَّته وأمر برفع السرج عنها وخلَّى بينه وبينها فقال الرجل ولكن ربما لم تكن لي، دعنا نذهبُ إلى الوالي فنحتكمُ عنده فقد يحكم لك بالدابة. فأبى الإمامُ (ع) أن يذهب معه ومكَّنه من الدابةِ وانصرف.

تأملوا، لو أنَّ ذلك وقع لرجلٍ يحبُّ المال، والمالُ عنده أحظى من شرفِه، وأرجحُ من مروءتِه، فما الذي سوف يفعلُه في مثلِ هذا الموقف؟ سوف يحرصُ على أن لا يخسرَ دابتَه وإنْ اقتضى ذلك النيلَ من مرؤتِه، فالتحفظُ على الدابَّةِ أولى عنده من التحفظِ على وقارِه وسمته، لكنَّ الإمامَ (ع) ليس كذلك، فالدنيا بما في سمائها وأرضِها أحقرُ عنده من جناحِ بعوضة. ولهذا عزَّ على سلاطينِ الجور أن يجدوا ما ينالوَن به من المقامِ السامي لأهل البيت (ع)

والمتحصلُ مما ذكرناه انَّ كلُّ خصال الشّر، منشؤها عدمُ الصبر، فنقيضُ الصبر جامعٌ لمنظومة الخصال السيئة، وفي المقابل فإنَّ الصبرَ جامعٌ لمنظومةِ القيم والسجايا الحميدة، ولهذا كان الصبرُ من الإيمان بمنزلةِ الرأسِ من الجسد كما أفادَ أهلُ البيت (ع).

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ  / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(11)

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

4 من ذي الحجّة 1436هـ - الموافق 18 سبتمبر 2015م

جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز


1- تحف العقول عن آل الرسول ( ص ) -ابن شعبة الحراني- ص 456.

2- سورة البقرة / 155.

3- سورة آل عمران / 146.

4- سورة البقرة / 155-157.

5- سورة الزمر / 10.

6- سورة الزمر / 10.

7- سورة الزمر / 10.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج 2 ص 75.

9- سورة التوبة / 111.

10- سورة النساء / 87.

11- سورة العصر.