﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وله الحمدُ على حُسنِ فعالِه، وعظيمِ جلالِه، وأوضحِ برهانِه. وله الحمدُ زنةَ الجبالِ ثقلا، وعددَ الماءِ والثرى، وعددَ ما يُرى وعددَ ما لا يُرى، والحمد لله الذي تفرَّدَ بالحمدِ ودعا بِه، فهو وليُّ الحمدِ ومنشئُه، وخالقُه وواهبُه، ملَكَ فقهَر، وحكمَ فعدَل، وأضاءَ فاستنَارَ، وهو كهفُ الحمدِ وقرارُه، ومنه مبتداهُ وإليه منتهاه، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).
فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، ومَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وبَادِرُوا الْمَوْتَ وغَمَرَاتِهِ وامْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ، وكَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ ومُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ.
عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ، وأَنْتُمْ والسَّاعَةُ فِي قَرَنٍ، وكَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وأَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا، ووَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا ﴿وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَراً﴾(1) قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وانْقَطَعَ الْعِتَابُ، وزُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ واطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، ورَضُوا الْمَثْوَى والْقَرَارَ، الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً والْجَزَاءَ ثَوَاباً ﴿وكانُوا أَحَقَّ بِها وأَهْلَها﴾(2) فِي مُلْكٍ دَائِمٍ ونَعِيمٍ قَائِمٍ، فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ، وبِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ، وبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ، ومَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ، وكَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ، فَلَا رَجْعَةً تُنَالُونَ ولَا عَثْرَةً تُقَالُونَ، اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وإِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وطَاعَةِ رَسُولِهِ، وعَفَا عَنَّا وعَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ.
قال اللهُ تعالى في محكم كتابِه المجيد بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(3) صدق الله مولانا العلي العظيم.
تحدَّثنا فيما سبقَ حولَ الفقرةِ الأولى من هذه الآيةِ المباركة، والحديثُ بعدها يقعُ حولَ قولِه تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾، أي إنَّ من سجايا وصفاتِ عبادِ الرحمنِ أنَّهم إذا خاطبَهم الجاهلونَ كان جوابُهم وكانتْ ردَّةُ فعلِهم هي السلام، والمراد من السلامِ في الآيةِ لا يتمحَّضُ في التحيَّةِ كما سيأتي.
وأما ما هو المرادُ من الجاهلينَ في الآيةِ المباركة؟
فالجوابُ انَّ الجهلَ يُستعملُ تارةً في مقابلِ العلمِ والمعرفة، فالجاهلُ بناءً على ذلك هو غيرُ العالمِ، وحيثُ انَّ كلَّ انسانٍ مُدركٍ يعلمُ بأشياءَ ويجهلُ أشياءَ أخرى لهذا فكلُّ انسانٍ فهو عالمٌ وهو في ذاتِ الوقتِ جاهلٌ، فهو عالمٌ بالإضافةِ إلى ما تعلَّمه وأدركَه، وجاهلٌ من جهةِ مالم يتعلَّمْه ولم يُدركْه من معارفَ وحقائقَ، وعليه فالجهلُ من المفاهيمِ الإضافية، ولهذا يصحُّ وصفُ كلِّ انسانٍ بالجاهل وإنْ كان قد تعلَّم الكثيرَ من العلومِ وأتقنَها، فهو وإنْ كان عالماً بلحاظِ تلك العلومِ والمعارفِ التي تعلَّمها وأدركَها لكنَّه يظلُّ جاهلاً بعلومٍ أخرى كثيرة لم يتعلَّمها، وجاهلاً بحقائقَ كثيرةٍ لم يُدركْها، فالإنسانُ لا يُحيطُ بكلِّ العلومِ والحقائقِ، وهذا ما يُصحِّحُ وصفُه بالجاهلِ من جهة مالم يعلمْهُ ولم يدركْهُ. فالطبيبُ العالمُ بالقضايا الطبيَّة يصحُّ وصفُه بالجاهلِ من جهةِ القضايا الدينيَّة مثلاً، والعالمُ بالقضايا الدينيَّة يصحُّ وصفُه بالجاهلِ من جهةِ القضايا الطبيَّة وهكذا هو الشأنُ من جهة سائرِ العلومِ والمعارفِ.
نعم يَستعملُ العرفُ وصفَ الجاهلِ غالباً أو كثيراً في غير المتعلِّم لشيءٍ من العلومِ ولا يُسمِّي العرفُ المتعلِّمَ لشيءٍ من العلومِ جاهلاً، فالجاهلُ في الاستعمالِ السائدِ هو غيرُ المتعلِّم لشيءٍ من العلومِ، ولكنَّ هذا الاستعمالَ مبنيٌّ على التسامحِ، إذ ما من أحدٍ إلا وهو جاهلٌ من جهةِ ما لا يعلمُه وإنْ كان قد تعلَّم الكثيرَ من العلوم.
وعلى كلِّ تقديرٍ فليس المرادُ من الجهل في الآيةِ هو المقابلُ للعلمِ بل المرادُ من الجهلِ هو المقابلُ للحلْمِ والحكمةِ والرُشدِ، فالسفاهةُ والحماقةُ والتهوُّرُ والتسرُّعُ في الأحكامِ والغضبُ غيرُ المبرَّرِ والخفَّةُ والعجلةُ وكلُّ ما هو منافٍ لمقتضى الحكمةِ والرُشدِ فهو من الجهلِ، والمتَّصفُ بواحدٍ من هذه الخِلالِ بحيث تكونُ سجيةً له يصحُّ وصفُه بالجاهلِ وإنْ كان كثيرَ العلمِ، وعلى خلافِ ذلك الحليمُ الرشيدُ فإنَّه لا يصحُّ وصفُه بالجاهلِ وإنْ كان أميَّاً لم يتعلَّمْ شيئاً من العلومِ.
وهذا المعنى للجهلِ هو المتعارفُ استعمالُه في كلامِ العربِ، فهم إنَّما يُطلقونَ وصفَ الجاهلِ على السفيهِ والأحمقِ وضعيفِ العقلِ ومن يكثُرُ منه صدورُ الأفعالِ المنافيةِ للرُشدِ، كما انَّهم يصفونَ كلَّ فعلٍ منافٍ لمقتضى الرشدِ بالجهالةِ، فالغضبُ غيرُ المُبرَّرِ جهالةٌ، وتبذيرُ المالِ جهالةٌ، والحكمُ على الآخرينَ دونَ تثبُّتٍ جهالةٌ، والتسرُّعُ في اتِّخاذِ القرارِ دونَ تروٍّ جهالةٌ، والإساءةُ للناسِ بغيرِ وجهِ حقٍ جهالةٌ، وكلُّ هذه الأفعالِ إنَّما وُصفتْ بالجهالةِ لأنَّها منافيةٌ لمقتضى الرُشدِ.
وقد استعملَ القرآنُ كلمةَ الجهالةِ فيما يُقابلُ الرُشدِ والحكمةِ في قولِه تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(4) فالمرادُ ظاهراً من الجهالةِ في الآيةِ المباركةِ هو المعنى المقابلُ للرُشدِ، فالرُشد يقتضي عندما يطرقُ سمعَك خبرٌ أنْ لا ترتِّبَ عليه من أثرٍ قبل التثبُّت والتروِّي والنظرِ، والمقابل للتثبِّتِ والتروِّي هو التسرُّعُ والمبادرةُ لترتيبِ الأثرِ وذلك هو ما وصفتْه الآيةُ بالجهالةِ، فالجهالةُ في الآية ليست بمعنى عدمِ العلمِ بل هي بمعنى السفاهة الباعثة على التهوُّرِ والمبادرةِ على غيرِ تثبُّتٍ.
وكذلك فإنَّ معنى الجاهلينَ في قولِه تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾ هم السفهاءُ والحمقى والذين ينقصُهم النضجُ والرُشدُ، والذين يُبادرون أفعالَهم عن وحيٍ من مشاعرِهم وانفعالاتِهم، فجلُّ أفعالِهم تصدرُ انسياقاً مع مشاعرِ الغيظِ والغضبِ أو الحقدِ والحسدِ أو الحبِّ المفرِطِ أو الرغبةِ الجامحةِ وغيرها من المشاعر التي عبَّرت عنها بعض الروايات بجنود الجهل ذلك لأنَّ الجهالات والحماقات إنما تنشأ عن إغراء هذه المشاعر.
ومع اتَّضاح معنى الجهلِ والجاهلينَ يتضحُ أنَّ مؤدى الآيةِ المباركةِ هو انَّ عبادَ الرحمنِ لا يُقابلونَ اساءاتِ وجهالاتِ الحمقى أو سيئي الخُلقِ بمثلِها بل يقابلونَها بالصفحِ أو الإعراضِ والتغافُلِ أو بالسدادِ من القولِ.
فإذا خاطبهم الجاهلون بالفاحشِ من القولِ وبالقبيحِ منه كالسُبابِ والشتيمةِ أو خاطبوهم بما يثقلُ عليهم سماعُه كالتنقُّصِ والإزداءِ فإنَّهم لا يقابلونَ الفُحش بالفحشِ ولا الازدراءَ بالازدراءِ بل يُقابلونَ ذلك إمَّا بالإعراضِ بناءً على أنَّ المرادَ من قوله: ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ هو الحكايةُ لحالِهم، فلسانُ حالِ عباد الرحمنِ في ظرف الجهل عليهم القول: بأنَّنا لا نجاهلُكم فلا نبادلُ الجهلَ بالجهلِ والسَفهَ بالسَفهِ بل نُتاركُكم فنسلمُ سلاماً أي نسلمُ من تماديكم في الجهالةِ تسلُّماً، فليس المراد من السلامِ هو التحية بل هو من السلامةِ، وقد يكون المرادُ من ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ هو انَّهم يقولونَ سداداً من القولِ يسلمونَ فيه من الإثمِ والمعصيةِ كما ربَّما يشهدُ لذلك قولُه تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾(5) ولعلَّ المرادَ من قولِه: ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ هو مقابلةُ شتمِ الجاهلين وتنقُّصِهم بالتحيَّةِ العمليَّة وهي الصفحُ أو بها وبالتحيَّةِ القوليَّة كما ربّما يؤيِّدُ ذلك قولُه تعالى مخاطباً رسولَه (ص): ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(6) فعبادُ الرحمنِ لا يدفعونَ السيئةَ بمثلِها بل يدفعونَها بالتي هي أحسنُ، والتي هي أحسنُ هو الصفحُ والجميلُ من القولِ.
ولنا كذلك في إبراهيمَ (ع) أُسوةٌ حسنةً كما أفادَ القرآنُ الكريمُ، فقد كان لإبراهيمَ شيخِ الأنبياءِ (ع) عمٌّ شديدَ الشِركِ والجحودِ، فكانَ إبراهيمُ يُحاورُه سعياً منه في هدايتِه، وقد توسل لذلك بمختلف وسائلِ الإقناعِ، فهو تارةً يتوسَّلُ بالبرهانِ، وتارةً بالتحذيرِ والتخويفِ من عاقبةِ الشركِ واتِّباعِ الشيطانِ وأخرى بالترغيبِ إلى الهدى، وكان يُخاطبُه بمنتهى الرفقِ واللينِ وبأقصى درجاتِ التبجيلِ والتقديرِ لكن ذلك كلَّه لم ينتهِ إلى طائلٍ بل إنَّ عمَّه هذا كان يُقابلُ التبجيلَ بالتوهينِ ويُقابلُ رِفقَ إبراهيمَ بالجفوةِ والتهديدِ إلا انَّ ذلك لم يدفعْ إبراهيم إلى تعنيفِه حتى بعد يأسِه من استجابتِه، وقد أجملَ القرآنُ ما كان بينَ إبراهيمَ وعمِّه من حوارٍ، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا / إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا / يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا / يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا / يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾(7) لاحظوا مستوى الرفقِ واللينِ والإشفاقِ الذي كان يطفحُ من خطابِ إبراهيمَ لعمِّه، وكان مضافاً لذلك يُخاطبُه بمنتهى التأدُّبِ والتقديرِ، فكان يُصدِّرُ كلَّ فقرةٍ من كلامِه بقولِه: ﴿يَا أَبَتِ﴾ رغم انَّه كان عمَّاً له ولم يكن أباه، فبأيِّ شيء قابلَ هذا الرجلُ نصيحةَ إبراهيمَ واشفاقَه؟! قابَلَ ذلك بالتعنيفِ والغليظِ من القولِ والتهديدِ: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾(8) فقد هدَّده بالإيذاءِ إنْ لم ينتهِ ثم طردَه وكأنَّه طلبَ منه أنْ لا يُريه وجهَه، وكلُّ ذلك يبعثُ بطبعِه على الغيظِ لكنَّ إبراهيمَ تجرَّع الغيظَ وأجابَ عمَّه بمنتهى الرفقِ، وقابل وعيدَ عمِّه بالرجمِ بالوعدِ لعمِّه بالاستغفارِ له: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾(9) ولأنَّك ترغبُ في مهاجرتي وأن أعتزلَكم فسأنزلُ عند رغبتكِم: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾(10) قال ذلك بعدَ يأسِه من هدايتِهم.
وذلك عينُه هو ما كان من شأنِ الرسولِ الكريم (ص) قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾(11) فليتسعْ صدرُك لجهالاتِهم وحماقاتِهم والفاحشِ من أقوالِهم وأعرضْ عنهم واهجرْهم، وليكنْ هجرانُك جميلاً، فقد يهجرُ الإنسانُ مَن أخطأ في حقِّه واجترأ عليه ولكنَّه يهجرُه ويُعرضُ عنه بنحوٍ لو كانَ قد ردَّ على السفيهِ سفاهتَه بمثلِها لكانَ أيسرَ على السفيهِ من طريقةِ هجرانِه وقطيعتِه، فهو لا يلقاهُ مثلاً إلا بوجهٍ عابسٍ مكفهِر ولا ينظرُ إليه إلا شزراً، وقد يتنقَّصه في غيبته ويدعو الناسَ إلى قطيعتِه ومصارمتِه، مثلُ هذا الهجرانِ منافٍ لهدي النبيِّ (ص) فالقرآنُ إنَّما أمرَ بالهجرانِ الجميلِ الذي لا يمنعُ السفيهَ لو ثابَ إلى رشدِه أن يرجعَ إلى من أخطأ في حقِّه فيتعاملُ وكأنَّ شيئاً لم يقعْ بينهما.
وخلاصةُ الكلامِ أنَّ قولَه تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ فيه بيان لكيفيَّة التعاطي مع مطلقِ جهالاتِ الجاهلينَ وحماقاتِهم، فالآيةُ بصددِ التمثيلِ لكيفيةِ التعاطي مع الجاهلينَ وما يصدر عنهم من أذىً واساءات، فقد لا يكون الأذى ولا تكونُ الإساءةُ بالخطابِ، فقد تكونُ الإساءةُ بالسلوكِ والمعاملةِ، وقد يفعلُ السفيهُ أو سيء الخلُقِ ما يضرُّ بمصالحِك أو موقعِك في الناسِ، فقد يغتابُك وينالُ من عرضِك أو يسعى عليكَ بوشايةٍ أو يُسفِّهُ رأيَك في غيبتِك أو يعملُ على الحطِّ من قدرِك فالذي ينبغي أنْ تكونَ عليه ردةُ فعلِ عبادِ الرحمنِ هو الإعراضَ والتغافلَ والصبرَ وسعَة الصدرِ والدفعَ بالتي هي أحسنُ، فذلك هو مؤدَّى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ وهو مؤدَّى قولِه تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(12) وهو مؤدَّى قولِه تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾(13).
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(14)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
1 من جمادى الآخِرة 1437هـ - الموافق 11 مارس 2016م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- سورة الزمر / 73.
2- سورة الفتح / 26.
3- سورة الفرقان / 63.
4- سورة الحجرات / 6.
5- سورة القصص / 55.
6- سورة فصلت / 34.
7- سورة مريم / 41-45.
8- سورة مريم / 46.
9- سورة مريم / 47.
10- سورة مريم / 48.
11- سورة المزمل / 10.
12- سورة فصلت / 34.
13- سورة المزمل / 10.
14-سورة النصر.