أحسنوا جوار النّعم فإنّها وحشيّة (1)
أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ الذي لم يتَّخذْ ولداً ولم يكنْ له شريكٌ في المُلكِ ولم يكنْ له وليٌّ من الذُلِّ وكبِّرْهُ تكبيراً، عددَ كلِّ شيءٍ، ومِلأَ كلِّ شيءٍ، وزِنةَ كلِّ شيءٍ، وأضعافَ ذلك أضعافاً مضاعفةً أبداً سرمداً كما ينبغي لعظمتِه. سبحانَ ذي المُلكِ والمَلكوتِ، سُبحانَ ذي العزَّةِ والجبروتِ، سبحانَ الحيِّ الذي لا يموتُ، سبحانَ المَلكِ القُدُّوسِ، سبحانَ القائمِ الدائمِ، سبحانَ الحيِّ القَيُّومِ، سبحانَ العليِّ الأعلى، سبحانَه وتعالى، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه.
أُوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى الله، فإنَّها نجاةٌ لأهلِها في الدنيا، وفوزٌ لهم في معادِهم في الآخرةِ، وخيرُ ما تواصى به العبادُ، وأقربُه من رضوانِ اللهِ، وخيرُ الفوائدِ عندَ اللهِ، وبتقوى اللهِ بلَغَ الصالحونَ الخيرَ، ونالوا الفضيلةَ، وكرُموا على اللهِ خالقِهم يقول الله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾(1).
وردَ في المأثورِ عن الإمامِ أبي الحسنِ عليِّ بنِ موسى الرضا (ع) أنَّه قال يُوصي أحدَ شيعتِه: "يا عليُّ أحسِنوا جوارَ النِعَمِ فإنَّها وحشيَّةٌ، ما نأتْ عن قومٍ فعادتْ إليهم"(2).
ومعنى قولِه (ع): "أحسِنوا جوارَ النِعَمِ" هو أنَّ مَنْ حَظيَ بنعمةٍ من نِعمِ الله تعالى فهو مكلَّفٌ بالحمايةِ والرعايةِ لها والتحفُّظِ عليها، فذلك هو معنى أنْ يُحسنَ جوارَها. فأنْ أُحسنَ الجوارَ لأحدٍ هو أنْ أُحافظَ على ما ألتزمتُ به معه من جِوارِه وحياطتِه، فأنْ أُجيرَ أحداً يعني أنْ أحميَه وأُدافعَ عنه، ولا أُسلمَه، ولا أخذلَه، فذلك هو معنى أنْ أُحسنَ جوارَه، وفي مقابلِ الإحسانِ لجوارِه هو التفريطُ في جوارِه، وذلك بالتخلِّي أو التواني والتهاونِ في حمايتِه والذودِ عنه، وعدم الدفعِ بما يليقُ للشرورِ والأذى وكيدِ الأعداءِ عنه، فينشأُ عن هذا التفريطِ أنْ يقعَ هذا الذي أجرتُه في المحذورِ الذي كان يَخشاهُ فاستجار بي لدفعه وعدم الوقوع فيه. وكذلك فإنَّ معنى أنْ أُحسنَ جِوارَ جيراني هو أنْ أرعاهم، وأُراقبَ أحوالَهم، وأنْ أنظرَ في شؤونِهم، فأقضي ما يحتاجونَه لو كنتُ قادراً على قضائه، وأسعي في قضاءِ ما لا أقدرُ بنفسي على قضائه، عندئذٍ أكونُ قد أحسنتُ الجِوار لجيراني، وفي مقابلِ ذلك التفريطُ في جِوارِ جيراني، وذلك بإهمالِ الرعايةِ لهم، وعدم الاهتمامِ بشأنِهم، والسعي في الرفعِ من عوَزهم والتنفيسِ عن الضيقِ الذي ألمَّ بهم، فذلك هو معنى التفريطِ في الجِوار لهم.
فالإمامُ (ع) يُشبِّه النعمةَ بالجارِ أو بالمستجيرِ الذي لجأَ واستجار بك يبتغي حمايتَك ويرجو أن تذودَ عنه، وترعاه، وتكفيَه شرورَ عدوِّه. فمفادُ كلامِ الإمام (ع) هو إنَّ هذه النعمةَ التي منحَك اللهُ تعالى إياها هي بمثابةِ رجلٍ ضعيفٍ استجار عندك، فإنْ أحسنتَ جوارَه كنتَ قد أدَّيتَ حقَّاً هو عليك فتكون مستحقاً للجزاء، كذلك هي النعمة التي منحك اللهُ إيَّاها إنْ أحسنتَ جوارها، وذلك بحسن تدبيرها والرعاية لها عن الضياع فحينذاك تكون قد التزمت بحقٍّ هو عليك وتكون ثمرته هي أن لا يسلبك الله هذه النعمة بل قد يحبوك بمثلها وأضعافها وإن فرطت في حفظها وأسأت في تدبيرها عرضتها للزوال.
بعد ذلك أفاد الإمام (ع) أنَّ النِعمَ التي يمنحُها اللهُ تعالى لعبادِه وحشيَّةٌ. فما معنى وصفِ النِعمِ بالوحشيَّة؟
إنَّ توصيفَ الإمامِ (ع) نِعمَ اللهِ تعالى بالوحشيَّة فيه تشبيهٌ لها بالطيورِ الوحشيَّةِ والبهائمِ الوحشيَّة في مقابل الطيور والبهائم الداجنةِ المعبَّر عنها بالأهليَّة. فالطيرُ الوحشي هو الذي ينفر من الإنسانِ إذا اقترب منه فهو لا يأمنُ الإنسان بطبعه بل يخشاه ويحذرُ منه، وكذلك هو الحيوانُ الوحشيُّ فإنَّه ينفرُ لمجرَّد اقترابِ الإنسانِ منه حذراً من وقوعِه في قبضتِه، والوحشيُّ من الحيواناتِ والطيورِ لو أتَّفقَ أنْ أمسكَه الإنسانُ فحبسَه فإنَّه إنْ شاء الاحتفاظَ به حتى لا ينفرَ وحتى لا يهرب فإنَّ عليه مراقبتَه، والإحكِامَ لحبسه، أمَّا إذا ما فرَّط في مراقبتِه ولم يُحسنْ حبسَه، فوجدَ هذا الحيوانُ أو هذا الطيرُ فرصةً ومهرباً فإنَّه ينفر ويهربُ ثم لا يعود. فالإنسانُ والطيرُ الوحشيُّ كلٌّ منهما يُراقبُ الآخر، فالإنسانُ يُراقبُ الطيرَ حتى لا يفرَّ منه، والطيرُ يُراقبُ الإنسانَ يبتغي غفلتَه لينفرَ منه.
فالإمامُ (ع) أرادَ أن يقولَ بأنَّ العلاقةَ بين النِعمِ الإلهيَّةِ وبين الإنسانِ التي يَحظى بها أشبهُ شيءٍ بعلاقةِ الإنسانِ بالطيرِ الوحشيِّ الذي وقعَ في يدِه، إنْ أحسنَ تدبيرَ حبسِه تمكَّنَ من الإبقاءِ عليه في حوزتِه وتحت يدِه، وإنْ فرَّط وغفِل وتهاونَ ولم يكترثْ فإنَّ الطيرَ يُراقبُ غفلتَه، ويرصدُ أيَّ فرصةٍ سانحةٍ ليَفِرَّ منه، فإذا تمكَّن من الفرارِ لم يعُدْ إليه. "أحسنوا جِوارَ النِعمِ فإنَّها وحشيَّةٌ ما نأتْ -أي ما ذهبتْ وزُويتْ- عن قومٍ فعادتْ إليهم". وهذا المعنى قد أفاده العديدُ من أئمةِ أهل البيت (ع) بصيغٍ مختلفة:
يقول الإمامُ عليٌّ (ع) فيما يُروى عنه: "احذروا نِفارَ النعم"(3). فالنِعمُ تنفرُ كما يَنفرُ الطيرُ الوحشيُّ فإيَّاكم أنْ تتوهَّموا أنَّكم إذا حظيتم بنعمةٍ فإنَّكم قادرونَ على التحفُّظ عليها أبداً، قد تكونُ في يدِك اليوم، وترى يدَك خِلْواً منها غداً، فتسعى بأقصى جُهدِكَ من أجل العثور عليها واسترجاعِها ولكن دون جدوى، "احذروا نفار النعم فما كلُّ شاردٍ مردود"(4) فالشيءُ الذي ينفرُ منك فتضيِّعَه ليس من الضروريِّ أن تُدركَه وأنْ تعثرَ عليه.
وورد عن النبيِّ الكريمِ (ص) أنَّه قال: "احسِنوا مجاورةَ النِعمِ، لا تَملُّوها ولا تُنفِّروها، فإنَّها قلَّما نفَرتْ من قومٍ فعادتْ إليهم"(5).
وورد عن الإمام الصادق (ع): "أحسنوا جوارَ النعم، واحذروا أنْ تنتقلَ عنكم إلى غيرِكم، أما إنَّها لم تنتقلْ عن أحدٍ قطُ فكادتْ أن ترجعَ إليه"(6). فهي إنْ انتقلت عنك لم تكدْ ترجعُ إليك، فاحذر.
عندما لا يُحسن الإنسان تدبير هذه النعمة التي حظي بها، عندما لا يُؤدِّي الإنسان حقَّ النعمة التي مُنح إياها، عندما يُبدِّدها، ويُبذِّرها، ويُسرف في صرفها، ولا يكترث في أيِّ موردٍ يضعها، عندما يتساهل في حياطتها، وحمايتها، ورعايتها، وتنميتها، واستثمارها، فإنَّها تزول، فإذا زالت لم تعد أو لا تكاد تعود، هكذا أفاد أهل البيت (عليهم السلام) على أنَّه قد ورد في الروايات عن الرسول (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) إنَّ لله نقمات ولله غضبات. فقد يغضبُ الله عزَّوجل على مَن لم يُحسن تدبير النعمة التي مُنح إياها، ويغضب على من لم يُؤدِّ حقَّ النعمة التي مُنح إياها، فإذا غضب عليه سلبها منه، فإذا سلبها لم تعُد.
وقد ضربَ لنا القرآنُ مثالينِ في ذلك بل وأكثر:
المثال الأول: قوم سبأ: هؤلاءِ -كما أفاد القرآن- كانت لهم في اليمن جنتانِ تحوط قراهم التي تربو على العشرِ قرى، وتمتدُّ مساحتُها مسيرة عشرةِ أيامٍ يقطعُها الإنسان من أقصاها إلى أقصاها، وفي ذلك تعبيرٌ عن سعةِ المساحةِ التي تمتدُّ فيها تلك الجنتان، ﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾(7)، هاتانِ الجنتانِ كانت أشجارُهما متَّصلةً وملتفَّةً حتى لا تكادُ الشمس تظهرُ من وراءِ الأشجارِ لكثافتِها، وكانت تلك الأشجارُ متنوعةَ الثمارِ حتى إنَّهم لم يكونوا بحاجةٍ إلى التزوُّد من محلٍّ آخر لمؤنِهم وحوائجِهم، فما في هذه الأشجارُ من ثمارٍ متنوعة كانت تكفيهم وتزيدُ عن حاجتهم، وكان حول هاتينِ الجنتينِ نهرٌ أو أنهارٌ، ومياه، وكانتِ الأمطارُ تأتيهم منتظمةً، فكانوا يعيشون في رغدٍ من الحياة. كان أحدُهم يقطعُ الطريقَ من أول قريةٍ إلى آخرِ قريةٍ مسيرَ عشرةِ أيامٍ آمناً، كما أفادت الآيات، فلم يكونوا يخشون حيواناتٍ ضارية، ولا وجودَ لهوامٍّ قاتلةٍ يحذرونها، ولم يكن ثمة من قطَّاعِ طرقٍ يخشونَهم على أنفسِهم وأموالِهم، فكانوا في رغدٍ من العيش آمنين، وتلك هي أعظمُ نعمةٍ يحظى بها الإنسانُ، فأنْ ينعمُ الإنسانُ في بلده بالأمن على نفسِه وعيالِه وأموالِه وتكونُ أرزاقُه مكفولةً ومسكنُه موفَّراً، فتلك هي أعظمُ نعمةٍ يطمحُ إليها كلُّ أحد.
هؤلاءِ لم يؤدُّوا حقَّ هذه النعمةِ، فإذا جاءهم نبيُّهم يدعوهم للتوحيدِ أعرضوا عنه، ولم يعبؤوا بدعوتِه، وإذا أمرهم بالعدلِ والإحسانِ وإكرامِ الضيفِ لم يمتثلوا أوامره ولم يكترثُوا بتوصياتِه، ولأنَّ كبراءهم كانوا يتمنَّونَ لو لم تكنْ هذه البساتينُ متَّصلةً، ولم يكن فيها فضلٌ ينتفعُ منه الفقراءُ والمحتاجونُ والعابرون، وكانوا يتمنونَ لو أن كلَّ هذه الخيراتِ لهم وحدهم دون سواهم. لذلك كلِّه غضِبَ الله عزَّ وجلَّ عليهم، ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾(8) فالله تعالى يُمهل ويُملي ويستدرج، فإذا غضِبَ انتقم، ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾(9).
يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ﴾(10)، فإنَّ الله سبحانه لا يحاسبُكم على ما تأكلونَ من رزقِه، وما تشربون، ولكنَّ عليكم أنْ تشكروا، فذلك هو أحدُ مصاديقِ أداءِ حقِّ النعمة، ﴿ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾(11) ماذا تريدون أكثر ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ / فَأَعْرَضُوا﴾(12) فحين أعرضوا أيَّ شيءٍ أصابهم؟ ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾(13) سيلٌ جارفٌ لم يبقِ ولم يذر، فأهلك مزارعَهم وحقولَهم بل وبيوتهم، ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾(14) استهزاءً بهم، لأنَّ البدلَ كان شيئاً مزرياً مقزِّزاً، أي شيءٍ أعطاهم بدل تلك الجنتين، جنتين ولكن ذواتى أُكُلٍ خَمْطٍ، أشجار تُثمر ثماراً مرَّةً، قبيحةَ الطعم، لا يكاد يأكلها المرء فيُسيغُها، ولكنَّه يتجرَّعُها ولا يكادُ يُسيغها لبشاعةِ طعمها ﴿ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ﴾(15)، يعني أشجار ذات ثمارٍ قبيحة الطعم وهذا هو الخمط وأشجار أخرى طويلة، وعريضة ولكنَّها لا تُثمر ﴿ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ﴾(16) ورأفةً بهم قال: ﴿وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾(17) يعني انَّه تعالى منحهم شجر السدر وهو الذي يُثمرُ النبَق، ولكنه قليل أما الكثير فهو الأشجار ذات الأكل الخمط مضافاً إلى الأشجار التي لا تثمر، فذلك هو بدل تلك الجنتينِ المتنوعةِ الأشجارِ، المتصلة، وبدل ذلك الأمان ليس ثمة من قطاع طرق، ولا من حيوانات ضارية، ولا من هوام، بدل ذلك العيش الرغيد أصبح عيشهم منكوداً منحوساً كئيباً بائساً، ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم﴾(18) بماذا؟ ﴿بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾(19). هذا مثال ضربَه القرآنُ للمؤمنينَ والعقلاء.
والمثال الآخر: ورد في سورة القلم قال تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾(20) أصحاب الجنَّة هم أبناء رجلٍ صالحٍ كان له بستانٌ متميزاً، مليئاً بالأشجار، والثمار، والمياه العذبة، وكان هذا الرجلٌ الصالحُ -كما ورد في الروايات- عطوفاً، كريماً، سخيَّاً، فكان في يوم الحصاد من كلِّ عامٍ يحصدُ شيئاً من ثمارِ زروعِه له ولعيالِه لمؤنةِ سنة، ويتركُ الباقي لفقراءِ بلدتِه، يأمرُهم بأنْ يدخلوا جنتَه فيجنوا ويحصدوا تلك الثمارَ لهم ولعيالِهم، وما يزيدُ مما كان قد حصَدَه لنفسِه ولعيالِه يصرفُه أيضاً على فقراءِ بلدِه، فكان هذا الرجلُ الصالحُ مصداقاً لمَن أحسنً جِوارَ النِعم، لذلك بارك اللهُ تعالى في رزقِه فكانت جنتُه تزداد في كلِّ عامِ إثماراً ونضارة ويزداد ماؤها عذوبةً وكثرة.
وحين كبُر وتقدَّمت سنُّه أوصى أبناءَه بانتهاجِ طريقه لكنَّهم لم يلتزموا وصيتًه فبُعيد رحيلِه إلى ربَّه اجتمعوا وعقدوا العزم على منعِ الفقراء من حصادِ جنتِهم متذرِّعينَ بدعوى انَّ سلوك والدِهم كان مجافياً للرشُدِ والتعقُّلِ بل هو من السفَهِ كما زعموا، فأولى بحصاد جنتِهم عيالُهم وأطفالُهم ولهذا اجتمعت كلمتهم على تفريقِ الحصادِ بينهم ومنعِ الفقراءِ من كثيرِه وقليلِه، لكنَّ فقراء بلدتهم كانوا تعوَّدوا الإحسانَ من أبيهم فكانوا يتوقَّعونه من أبنائه، ولهذا فهم ينتظرون أيام الحصادِ بفارغِ الصبر وذلك هو ما دفع بالأبناء إلى التوافق على حصد الثمار سرَّا وتفريقه بينهم، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا﴾(21) عقدوا العزم وأقسموا ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ / وَلَا يَسْتَثْنُونَ / فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ / فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾(22)، هم أرادوا أنْ يصرموا النخيلَ والثمار سرَّاً لكنَّها تصرمت بحريقٍ هائلٍ فأصبحت كالليلِ الصريمِ المظلمِ من شدَّةِ تفحُّمِها، ﴿فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ﴾(23)، كل منهم يوقظ الآخرَ ويَستحثُّه على المسارعة لصرم الحصادِ قبل أنْ يلتفتَ الفقراءُ فيضطرونَ للصدقةِ عليهم ﴿فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ / أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ / فَانطَلَقُوا﴾(24) سريعاً ﴿وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾(25) ويتكاتمون ويتنابسون في حديثِهم حتى لا يشعرَ بهمُ الفقراء ﴿أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ / وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ / فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ﴾(26) لعلَّنا أخطئنا الطريقَ فليست هذه هي جنتنا ﴿إِنَّا لَضَالُّونَ﴾(27)، فقال أحدُهم لسنا ضالِّين ولا مضيِّعين ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ / قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ / قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا﴾(28) الآن قالوا سبحان الله، ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ / فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾(29) هذا هو المَثَلُ الآخرُ الذي ضربَه القرآنُ الكريمُ لنفارِ النِعمِ عندما لا نُحسنُ تدبيرَها.
أما كيف نُحسنُ تدبيرَ النعمة؟ وكيف نتحفَّظُ عليها حتى لا تزولَ؟ فهو ما سوف نتحدَّث عنه فيما بعدُ إن شاء الله تعالى.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ / إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(30)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
27 من ربيع الأوّل 1437هـ - الموافق 8 يناير 2016م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- سورة آل عمران / 198.
2- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 448.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 325.
4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 325.
5- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 74 ص 171.
6- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص 246.
7- سورة سبأ / 15.
8- سورة الزخرف / 55.
9- سورة الزخرف / 55.
10- سورة سبأ / 15.
11- سورة سبأ / 15.
12- سورة سبأ / 15-16.
13- سورة سبأ / 16.
14- سورة سبأ / 16.
15- سورة سبأ / 16.
16- سورة سبأ / 16.
17- سورة سبأ / 16.
18- سورة سبأ / 17.
19- سورة سبأ / 17.
20- سورة القلم / 17.
21- سورة القلم / 17.
22- سورة القلم / 17-20.
23- سورة القلم / 21.
24- سورة القلم / 21-23.
25- سورة القلم / 23.
26- سورة القلم / 24-26.
27- سورة القلم / 26.
28- سورة القلم / 27-29.
29- سورة القلم / 29-30.
30- سورة النصر.