العقلُ الذي تُعرَضُ عليه الروايات لتمييزها
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما هو المقصود من العقل الذي تُعرَض عليه الروايات لتمييز الحجَّة منها من غير الحجَّة؟
ثم إنَّ العقل يختلفُ عند الناس فبعضُهم يقبلُ عقلُه مضمونَ روايةٍ وبعضُهم لا يقبلُ عقلُه مضمونَها، فكيف يتمُّ التمييزُ بشيءٍ هو محلُّ خلافٍ بين الناس؟!
الجواب:
المقصودُ من العقل -الذي تُعرضُ عليه الروايات لتمييز الحجَّةِ منها من غير الحجَّة- هو المدرَكاتُ العقليَّة البديهيَّة التي لا يختلفُ العقلاءُ في صحَّتها وصوابيَّتها مثل استحالة اجتماع النقيضين واستحالة ارتفاعهما، ومثلُ قبح الظلم، ومثلُ القضايا المدرَكة بالوجدان أو المُدرَكات الحسيَّة كحرارة الشمس وبرودة الثلج، فلو جاءت رواية مناقِضة صريحاً لما يُدرِكه العقلُ الفطري البديهي فإنَّ ظاهرَها يكون ساقطاً عن الاعتبار والحجيَّة، فإمَّا أنْ تُطرح الرواية من رأس أو تُؤول، فلو وردتْ روايةٌ وكان ظاهرها جواز قتل الطفل أو سلب أموالِه أو معاقبة المجنون فإنَّ مثل هذه الرواية لا يُمكن قبولُها ولابدَّ من البناء إمَّا على أنَّها مكذوبة أو أنَّ ظاهرها غيرُ مراد، وذلك لمنافاة ظاهرِها مع ما يُدركه العقلُ الفطريُّ من قبح تشريع الظلمِ وتسويغه.
وهكذا لو وردت روايتان صحيحتان من حيثُ السند وكانت احداهما صريحةً -مثلاً- في صحة بيع السفيه والأخرى صريحةً في فساد بيع السفيه، فإنَّ مثل هاتين الروايتين لا يُمكن الحكمُ بحجيَّتهما معاً، لأنَّ مؤدَّاهما هو صحةُ بيع السفيه وعدمُ صحَّتِه في ذات الوقت وهو من اجتماع النقيضين، ويستحيلُ جعل الحجيَّة للمتناقضين، ولذلك يقطعُ العقل إمَّا بكذب إحدى الروايتين وعدم صدورِها أو أنَّها لم تصدرْ لبيان الحكم الواقعي، فإحداهما غيرُ المعيَّن ساقطٌ عن الحجيَّة قطعاً بحكم العقل، وأمَّا تحديد أيِّهما الساقط عن الحجيَّة، فهو ليس من شئونات قاعدة استحالة اجتماع النقيضين، فهذه القاعدة العقليَّة تقفُ عند حدود الإدراك لاستحالة أنْ يكون الشارع قد جعل الحجيَّة لكلا الروايتين، وأما أيُّ الروايتين بنحو التعيين هي الساقطة عن الاعتبار والحجيَّة فذلك خارجٌ عن حدود ما تقتضيه هذه القاعدة العقليَّة، فالعقلُ هنا حكَم بعد عرض الروايتين عليه بعدم ثبوت الحجيَّة لاحدى الروايتين لا على نحو التعيين، ومنشأُ ذلك هو ادراكه بضرورة وبداهة استحالة اجتماع النقيضين واستحالة جعل الشارع الحجيَّة للنقيضين.
وكذلك لو وردت روايةٌ وكان مفادُها أنَّ الإنسان العاقل المُلتفت مجبورٌ في كلِّ ما يفعل، فكما أنَّ جريان الدم في عروقِه لم يصدر باختياره فكذلك هو الشأن فيما يكتبُه مثلاً أو يقولُه أو يسعى إليه وهو ملتفت.
لو وردت روايةٌ بهذا المفاد فإنَّها تكونُ ساقطةً عن الاعتبار قطعاً، وذلك لمنافاتِها مع ما يُدركه العقلُ الفطري، فإنَّ كلَّ انسان يُدرك بالوجدان أنَّ أفعاله الصادرة عنه في ظرف الالتفات اختياريَّة وليس مجبوراً ولا مقسوراً عليها، فكلامُه وتنقُّله وزواجُه وما يكتبُه وما يرتكبُه من معاصٍ وما يفعلُه من طاعات كلُّها تصدرُ منه عن ارادةٍ واختيار، فهو يُدرك بالوجدان أنَّ حركة الدم في عروقِه مثلاً تختلفُ عن حركتِه إلى السوق، فالأولى ليست اختياريَّةً له بل هي من فعل غيرِه، وأمَّا الثانيةُ فهي اختياريةٌ له أي أنَّها صدرتْ عن محضِ ارادتِه، وكان له أنْ لا يفعلَها ويختارَ فعلاً آخر غيرها.
وحيث إنَّ مفاد الرواية -بحسب المثال- منافيةٌ لهذا المُدرَك العقلي الوجداني لذلك فهذا المفاد ساقطٌ عن الاعتبار، فإمَّا أنْ تُطرح الرواية من رأس أو تُصرف عن ظهورها الأولي إلى معنىً يتناسبُ مع ما تقتضيه النصوصُ الأخرى ولا يتنافى مع ما يقتضيه المُدرَكُ العقليُّ البديهي.
هذا هو المراد من العقل الذي تُعرَضُ عليه الروايات لتمييز الحجَّة منها من غير الحجَّة من هذه الجهة، وليس المقصود من العقل القضايا الظنيَّة أو الاستحسانيَّة والذوقيَّة التي يختلفُ عليها العقلاء، فإنَّ القضايا الظنيَّة لا تصلحُ لتمييز ما هو الحجَّة من الروايات من غير الحجَّة.
ومن هنا يجبُ التثبُّت قبل ردِّ الرواية، فإنَّ الكثيرَ ممَّا يُسمَّى عند الناس عقلاَ هو في واقعِه لا يعدو الاستحسان الناشىء عن مقدِّمات ظنيَّة أو ذوقيَّة تتباين فيها الأنظار تبعاً لاختلاف الرواسبِ الثقافية والتربويَّة والنفسيَّة. فهذه ليست هي المقصود من العقل الذي تُعرَضُ عليه الروايات لتمييزها بل التعبير المناسب لها هو أنَّها قناعات، ولذلك لا يصحُّ تحكيمها وردُّ الرواية لمجَّرد منافاة مضمونِها لمثل هذه القناعات. والذي يصحُّ به ردُّ الرواية هو منافاتها لما يُدركُه العقلُ الفطري الذي لا يختلفُ عليه العقلاء على اختلاف مشاربِهم وأديانِهم أو تكون الرواية منافية لقضية برهانيةٍ مقدماتُها مُدرَكة بالعقل الفطريِّ البديهي، وأمَّا إذا لم تكن منافية لشيءٍ من ذلك فلا يصحُّ ردُّها من جهة العقل، نعم قد تسقطُ الروايةُ عن الاعتبار أو يُحرَز عدمُ صدورِها لمنشأٍ آخر غير العقل كما لو كانت منافيةً لظاهر القرآن أو السنَّة القطعيَّة أو كان رواتُها من الوضَّاعين أو غير ذلك من المناشىء المذكورة في محلِّها والمُبرهَن عليها في مظانِّها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور