مشروعيَّة السجودِ على التربة الحسينيَّة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
السؤال:
لماذا يسجدُ الشيعة على التربة الحسينيَّة، ولماذا لا يجيزون السجود على السجاد وغيره من الأجسام كما يفعلُه الكثيرُ من المسلمين؟
الجواب:
التربة الحسينيَّة التي يجعل منها الشيعة موضعًا للسجود في صلواتهم لله عزَّ وجلَّ ليست سوى طينٍ متَّخذٍ من جوانب قبر الحسين (ع) وقد تُتخذ من عموم أرض كربلاء، فهم إذن يسجدون على الأرض، أي أنَّ الشيعة بسجودِهم على التربة الحسينية يكونون قد اعتمدوا أحوط الأقوال والاجتهادات، إذ أنَّ المسلمين وإنْ اختلفوا فيما يصحُّ السجودُ عليه في الصلاة إلا أنَّهم اتفقوا على جواز ومشروعيَّة السجود على الأرض.
وحتى يتثبَّت السائلُ الكريم من صدقِ دعوانا، وأنَّ مشروعية السجود على الأرض موردٌ لاتِّفاق عموم المسلمين ننقلُ له بعضَ الأقوال الصادرة عن علماءِ السُنَّة ثم نردفُها بالروايات الواردة من طرقِهم.
1- ذكر ابنُ رشد القرطبي تحت عنوان حكم الصلاة على غير الأرض: "اتفقوا على الصلاة على الأرض واختلفوا في الصلاة على الطنافس وغير ذلك مما يُقعدُ عليه على الأرض .."(1).
2- ذكر ابن قدامة في كتابه المُغني تحت عنوان ولا تجب مباشرة المصلِّي بشيءٍ من الأعضاء، "والمستحبُّ مباشرةُ المصلِّي بالجبهة واليدين ليخرجَ من الخلاف ويأخذَ بالعزيمة"(2).
فوضع الحائل بين الجبهة وبين الأرض لمَّا كان موردَ خلافٍ، لذلك كان الاستحبابُ -بحسب قوله-هو أنْ يُباشر بجبهتِه وجهَ الأرض ليَخرج بذلك عن الخلاف.
3- قال ابنُ حجر العسقلاني في مقام الشرح لرواية أنس بن مالك: قال كنَّا نصلِّي مع النبيِّ (ص) فيضع أحدُنا طرفَ الثوبِ من شدَّةِ الحرِّ في مكان السجود، قال ابنُ حجر: وفيه إشارةٌ إلى أنَّ مباشرة الأرض عند السجود هو الأصلُ لأنَّه علَّق بسطَ الثوب بعدم الاستطاعة(3).
بمعنى أنَّه كلَّما صحَّ السجودُ عليه من غير الأرض إنَّما هو للرخصة -بنظره- وإلا فالسجودُ بحسب الأصل لا يكونُ إلا على الأرض.
هذا بعض ما ورد في كلمات فقهاء السُنَّة، ولولا أن المسألة من الوضوح بنحوٍ ترقى لمستوى الضرورة الفقهيَّة لأسهبنا في نقل أقوالِ العلماء المُعبِّرة عن الاتِّفاق على مشروعيَّة السجود على الأرض.
وأما الروايات:
روايات السنَّة في مشروعية السجود على الأرض:
فمنها: ما ورد في صحيح البخاري بسنده إلى جابر بن عبد الله: أنَّ النبيَّ (ص) قال: "أُعطيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرعبِ مسيرة شهر، وجعُلَتْ ليَ الأرضُ مَسجدًا وطهورًا"(4).
ومعنى الرواية أنَّ مُطلق وجهِ الأرض جُعل موضعًا للسجودِ وهي كذلك جُعلت موضعًا للطهور.
ومنها: ما ورد أيضًا في صحيح البخاريِّ بسنده إلى أبي سلمة قال: انطلقتُ إلى أبي سعيد الخُدري فقلتُ: ألا تخرجُ بنا إلى النخل نتحدَّث، فخرج، فقال: قلتُ: حدِّثني ما سمعتَ من النبيِّ (ص) في ليلةِ القدر؟ قال: اعتكفَ رسولُ الله (ص) عشرَ الأول من شهر رمضان واعتكفنا معه .. وكان سقفُ المسجدِ جريدَ النخل، وما نرى في السماء شيئًا فجاءت قزعةٌ فأُمطرنا، فصلَّى بنا النبيُّ (ص) حتى رأيت أثرَ الطين والماء على جبهة رسولِ الله (ص) وأرنبتِه ..(5).
ومنها: ما رواه مسلمٌ في صحيحِه في باب كراهةِ مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة، روى عن مُعيقِب قال: ذكر النبيُّ (ص) المسح في المسجد، يعني الحصى قال (ص): "إنْ كنتَ فاعلًا فواحدة"(6) وروى أيضًا بسنده عن مُعيقب أنَّ رسولَ الله (ص) قال: في الرجل يسوِّي الترابَ حيثُ يسجد قال: "إنْ كنتَ فاعلًا فواحدة"(7).
والروايتان صريحتان في أنَّ السجود إنَّما كان على الحصى والتُراب، وأنَّه لا ينبغي مسحُ الترابِ أو الغبار عن الحصى إلا مرَّة واحدة وهكذا لا ينبغي تسويةُ التراب الذي يُراد السجود عليه إلا مرَّةً واحدة.
ومنها: ما ورد في مسند احمد روى عن وائل بن حُجر رأيتُ النبيَّ (ص) إذا سجدَ وضعَ جبهتَه وأنفَه على الأرض(8).
ومنها: ما رواه البيهقي في سُننه عن ابنِ عباس أن النبيَّ (ص) سجَد على الحجَر(9).
ومنها: ما ورد في المصنَّف وكنز العمال أنَّ عائشة قالت: ما رأيتُ رسولَ الله (ص) متقيًا وجهَه بشيءٍ(10).
ومنها: ما ورد في مجمع الزوائد عن أبي هريرة قال: سجَد رسولُ الله (ص) في يومٍ مطيرٍ حتى أنَّي لأنظرُ إلى أثرِ ذلك في جبهتِه وأرنبتِه(11).
ومنها: ما ورد في السُنن الكبرى أنَّ أنس قال: كنَّا مع رسولِ الله (ص) في شدَّة الحرِّ فيأخذُ أحدُنا الحصباء في يدِه فإذا برد وضعَه وسجدَ عليه(12).
ومنها: ما ورد في سُنن البيهقي أنَّ خبَّاب بن الأرت قال شكونا إلى رسولِ الله(ص) شدَّة الرمضاء في جباهنا وأكفِّنا فلم يشكنا(13).
ومنها: ما في كنز العمال روى عن خالد الجهني، قال: رأى النبيُّ (ص) صهيبًا يسجدُ كأنَّه يتقي التراب، فقال له: "ترِّب وجهَك يا صهيب"(14)، وورد أنَّه (ص) قال في مورد آخر: "يا رباح ترِّب وجهَك"(15).
ونقل عن أمِّ سلمة أنَّها قالت: رأى النبيُّ غلاماً لنا يُقال له (أفلح) ينفخُ إذا سجَد فقال: "يا أفلحُ ترِّب"(16).
هذا بعضُ ما تيسَّر لنا نقلُه من الروايات الواردة من طُرق السنَّة والمعبِّرة عن أنَّ رسولَ الله (ص) كان يسجدُ على الأرض ويأمرُ بذلك رغم أنَّ السجود على غيرِها كان مُتاحاً له (ص) ولهم.
ونرى من المُناسب استكمالاً للفائدة نقلَ بعض ما ورد من عمل الصحابة والتابعين في هذا الشأن.
1- ورد في المصنَّف لعبد الرزاق عن أبي أمية أنَّ أبا بكر كان يسجدُ أو يصلِّي على الأرض مُفضيًا إليها(17).
2- أورد البيهقي في سُننه عن جابر بن عبد الله الأنصاريِّ، قال كنتُ أصلِّي مع النبيِّ (ص) الظهر، فآخذُ قبضةً من الحصى فأجعلُها في كفِّي ثم أُحوِّلُها إلى الكفِّ الأُخرى حتى تبرُدَ ثم أضعُها لجبيني حتى أسجدَ عليها من شدَّةِ الحرِّ(18).
3- ذكر ابنُ حجَر في كتابِه فتح الباري شرح صحيح البخاري: أنَّ عروةَ بنَ الزبير يكرهُ الصلاةَ على شيءٍ دونَ الأرض(19).
4- ورد في المُصنَّف وفي الطبقات الكبرى: أنَّ مسروق بن الأجدح من أصحاب ابنِ مسعود لا يُرخِّص في السجود على غيرِ الأرض حتى في السفينة، وكان يحملُ في السفينةِ شيئًا يسجدُ عليه، وذكر أبو عبيدة أنَّ ابن مسعود لا يسجدُ أو قال لا يُصلَّي إلا على الأرضِ(20).
5- ذكر ابنُ حجر في كتابة فتح الباري: أنَّ عمرَ بنَ عبد العزيز لا يكتفي بالخُمرة بل يضعُ عليها الترابَ ويسجدُ عليه(21).
وبما نقلناه لك يتبيَّنُ أنَّ ما عليه الشيعةُ من السجود على التربة الحسينيَّة هو المناسب لمقتضى الاحتياط، إذ هو القدرُ المتيقَّن مما يصحُّ السجود عليه، وما عداه موردٌ للخلاف كما ذكر ذلك ابنُ رشدٍ(22) وغيرُه، وهو مقتضى الأصل، إذ أنَّ ما عداه لو صحَّ السجود عليه لكان من باب الرُّخصة كما أفاد ذلك ابنُ حجر العسقلاني(23).
لماذا يسجد الشيعة على التربة الحسينيَّة؟
وأمَّا لماذا يسجد الشيعة على تربة الحسين (ع) دون سواها فجوابُه أن الشيعة لا يرون لزومَ السجود على التربةِ الحسينيَّة، وإنَّما يستحبُّون ذلك تيُّمنًا وتبرُّكًا بسبطِ رسولِ الله (ص) وإلا فهم يسجدون على كلِّ تراب أو حجرٍ أو طينٍ طاهر.
ولتوثيقِ ما ندَّعيه من أنَّ الشيعة يسجدونَ على مُطلق وجهِ الأرض ولا يرونَ لزومَ السجود على تربةِ الحسين (ع) ننقلُ لك بعضَ أقوالِ علمائهم في هذا الشأن ثم نُردفُه بنقل بعضِ الروايات المُعتمدة عندَهم والواردةِ عن أهل البيت (ع).
1- ذكر الشيخُ أبو جعفرٍ الطوسي في كتاب الخلاف مسألة رقم 109 (وضعُ الجبهةِ على الأرض في حال السجود فرضٌ، ووضع الأنفِ سنَّة، ثم قال: (دليلُنا إجماعُ الفرقة)(24).
2- ذكر الشيخ محمد بن حسن النجفي في كتابه جواهر الكلام: "لا يجوزُ السجودُ اختياراً على ما ليس بأرض" ثم قال: "إجماعًا مُحصَّلًا ومنقولًا مُستفيضًا بل مُتواترًا .. بل يُمكنُ دعوى ضرورةِ المذهب عليه"(25).
3- ذكر الشيخ أحمد النراقي في كتابة مستند الشيعة في بحث السجود: (ولكنَّ هاهنا أصلًا آخر هو عدمُ جوازِ السجود إلا على الأرضِ أو ما أنبتته شرعًا، حصل ذلك الأصلُ بالإجماع المحقِّق والمَحكي في المُعتبر، والتذكرةِ، والمدارك وغيرها والأخبار ..)(26).
واضحٌ أنَّ هذه النصوص صريحةٌ في أنَّ السجود يكونُ على مطلقِ الأرض فلا اختصاص بنظر الاماميَّة لبقعةٍ على أُخرى، فكما يصحُّ بنظرهم السجودُ على تربةِ الحسين (ع) يصحُّ السجودُ عندهم على غيرِها.
4- ذكر صاحبُ الحدائق: انَّ أفضلَ أفراد الأرضِ في السجودِ التُربةُ الحسينيَّة على مُشرِّفها أفضلُ الصلاةِ والسلامِ والتحيَّة ..(27).
وقريبٌ من هذه العبارة وردتْ في مُستند الشيعةِ للشيخ النراقي(28).
وبمجموع هذه النصوص يتبيَّنُ لك أنَّ السجود على التُربةِ الحسينيَّة ليس لازماً، نعم هو أفضلُ أفراد ما يُسجَدُ عليه مِن الأرض، والمُستندُ المُعتمدُ عندَهم لدعوى استحباب السجودِ على تُربةِ الحُسين (ع) هو ما ورد مِن رواياتٍ عن أهل البيت (ع).
منها: ما أوردَه الطبرسي في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحبِ الزمان (ع) أنَّه كتب إليه يسألُه عن السجدةِ على لوحٍ من طين القبر -يعني قبر الحسين- هل فيه فضلٌ؟ فأجاب (ع) "يجوزُ ذلك وفيه الفضلُ"(29).
ومنها: ما أوردَه محمدُ بن الحسن الطوسي في المصباح بإسناده عن معاوية بن عمَّار قال: كان لأبي عبد الله (ع) خريطةُ ديباجٍ صفراء فيها تُربةُ أبي عبد الله (ع) فكان إذا حضرتْه الصلاةُ صبَّه على سجَّادتِه وسجَد عليه(30).
ومنها: ما أوردَه الحسنُ بن محمد الايلمي في الإرشاد قال: كانَ الصادقُ (ع) لا يسجدُ إلا على تُربةِ الحسين (ع) تذلُّلاً لله واستكانةً إليه(31).
وبهذه الروايات وبما نقلناه من أقوالِ فقهاءِ الشيعة يتأكَّدُ للسائل الكريم أنَّ السجود على التُربة الحسينيَّة إنَّما هو لكونها من أفراد الأرض وأنَّه لا فرق بينها وبين غيرِها من جهة مشروعيَّة السجود عليها، نعم السجودُ على التُربة الحسينية فيه فضلٌ.
ولعلَّ واحداً من مناشيء الفضل هو إنَّ اتِّخاذَ تُربةِ الحسين (ع) والسجودَ عليها يُساهم في توثيق علاقةِ الحب والولاءِ لسيِّد الشهداء الذي قال عنه رسول الله (ص): "أحبَّ اللهُ من أحبَّ حُسيناً"(32).
محض افتراء:
إنَّ ممَّا هو مستغرَبٌ بل ومستبشَعٌ ما يدَّعيه البعضُ من أن الشيعة يتَّخذون مِن تُربة الحسين (ع) وثناً يعبدونَه من دون الله تعالى، وهو محضُ افتراء، وسوف نُقاضيهم عند الله تعالى يوم يقوم الناسُ للحساب.
فالشيعةُ لا يسجدون إلا لله جلَّ وعلا، وهم إنَّما يسجدونَ على تُربة الحسين (ع) ولا يسجدونَ لها، وفرقٌ بين السجودِ للشيء والسجودِ عليه، ولعمري هذا واضحٌ بيِّنٌ إلا أنَّ النفوس إذا ما تلبَّدت واحتقنت بالأضغان نفَّست عنها بما تتوهَّمُ أنَّه يُخفِّف من غلوائِها إلا أنَّها ستظلُّ تحتقنُ كلَّما تنفَّست.
والذي لا ينقضي منه العجبُ (وانْ عشتَ أراكَ الدهرُ العجيبَ) أن يُرمى الشيعةُ بمثل هذه العظائم وكأنَّهم يعيشون في جزرٍ نائية!! أو يتكلَّمون بلغةٍ لا يفهمُها أحدٌ أو ليس لهم حضورٌ ظاهرٌ في كلِّ بقاع الأرض، وكأنَّهم لا مساجد لهم ولا محافل أو ليس لهم كتبٌ تملأ الآفاق وتضجُّ منها المكتبات بصنوفِ اللغات، نعم يُدرِكُ الآخرون أنَّ للشيعة كلَّ ذلك إلا أنَّ ما يُبرِّرُ الفريةَ عليهم أنَّ ذلك هو السبيلُ الوحيد للترويح عمَّا يعتلجُ في النفس المُثقلَة بالأضغان.
وكيف كان فإنَّ ما قدَّمناه وإنْ كان يصلحُ لدفع هذه الفِرية إلا أنَّه واستكمالاً للفائدة نرى من المناسبِ أنْ ننقلَ لكم ما يجبُ قولُه وما يُستحبُّ في سجود الصلاة وسجود الشكر وسجود التلاوة عند الشيعة ليتبيَّن للسائل الكريم مستوى الجناية التي اقترفها مثيرو الشبهة.
الذكر في سجود الصلاة:
1- محمد بن الحسن الطوسي بسندٍ متصل إلى هشام بن سالم قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن التسبيح في الركوع والسجود؟ فقال: " تقولُ في الركوع سبحان ربِّيَ العظيمِ وفي السجود سبحان ربِّي الأعلى، الفريضةُ من ذلك تسبيحةً، والسُنَّةُ ثلاث، والفضلُ سبع"(33).
2- محمد بن الحسن الطوسي بسندٍ متَّصلٍ إلى أبي بكر الحضرمي، قال: قلتُ لأبي جعفر (ع) أيُّ شيءٍ حدُّ الركوعِ والسجود؟ قال: "تقولُ: سبحان ربِّي العظيمِ وبحمدِه ثلاثاً في الركوع، وسبحان ربِّي الأعلى وبحمدِه، ثلاثاً في السجود، فمن نقصَ واحدةً نقصَ ثلثَ صلاتِه، ومَن نقصَ اثنتين نقصَ ثلثي صلاتِه، ومَن لم يُسبِّح فلا صلاةَ له"(34).
3- محمد بن الحسن بسندٍ متَّصلٍ إلى معاوية بن عمَّار قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع) أخفُّ ما يكونُ من التسبيح في الصلاة، قال، "ثلاث تسبيحات مترسِّلاً، تقول سبحانَ اللهِ سبحانَ اللهِ سبحانَ الله"(35).
4- محمد بن الحسن بسندٍ متَّصلٍ إلى داوود الابزاري عن أبي عبد الله (ع) قال: "أدنى التسبيح ثلاثُ مرات وأنتَ ساجد لا تعجلْ بها"(36).
5- محمد بن الحسن بسندٍ متَّصلٍ إلى سماعة قال: سألتُه عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن؟ قال: نعم -إلى أنْ قال- ومَن كان يقوى أن يُطوِّلَ الركوعَ والسجودَ فيطوِّل ما استطاع يكون ذلك في تسبيحٍ لله وتحميدِه وتمجيدِه والدعاءِ والتضرُّع فإنَّ أقربَ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه وهو ساجد ..(37).
6- محمد بن الحسن بسندٍ متَّصل إلى هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (ع) قال: قلتُ له يُجزي أنْ أقول مكان التسبيحِ في الركوع والسجود: لا إله إلا الله والحمد الله والله أكبر فقال (ع): "نعم، كلُّ هذا ذكرُ الله"(38).
هذه بعض الروايات الواردة في ذكر الركوع والسجود، وقد أفتى بمضمونها فقهاءُ الشيعة، لاحظ ما أفاده الشيخُ الطوسي في الخلاف والمبسوط والنهاية، وما أفادَه العلامةُ الحلِّيفي كلِّ كتبه مثل كتاب تبصرة المتعلِّمين وكتاب تذكرة الفقهاء، ولاحظ ما أفاده المحقِّق في الشرائع وكتابه المختصر النافع، ولاحظ ما ورد في كتاب جواهر الكلام للنجفي والحدائق الناظرة للبحراني والعروة الوثقى لليزدي ومنهاج الصالحين للسيد الخوئي وتحرير الوسيلة للإمام الخميني.
وإنْ شئتَ فراجع ما يقعُ في يديكَ مِن كُتب الشيعة المتصدِّية لبيان أحكامِ الصلاة تحت عنوان وجوب الذكر في الركوع والسجود.
الذكر في سجود الشكر:
وردت رواياتٌ عن أهل البيت (ع) تبلغُ أو تفوق حدَّ التواتر مفادُها استحبابُ أنْ يَسجد المكلَّف بعد الصلاة شكراً لله تعالى، وورد عنهم (ع) مجموعةٌ من الأدعيةِ والأذكار أفادوا أنَّه يستحبُ للمكلَّف أنْ يأتيَ بما تيسَّر منها في سجوده.
منها: ما ورد في العلل بسندِه إلى الإمام الرضا (ع) قال: "السجدةُ بعد الفريضة شكراً لله عزَّ وجل على ما وفَّق له العبدَ من أداء فرضِه، وأدنى ما يُجزي فيها من القول أنْ يقال: شكراً لله، شكراً لله ثلاث مرات، قلتُ فما معنى قوله: شكراً لله؟ قال: يقولُ هذه السجدةُ مني شكراً لله على ما وفَّقني له في خدمتِه وأداء فرضِه، والشكرٌ موجبٌ للزيادة، فإنْ كان في الصلاة تقصيرٌ ولم يتم بالنوافل تمَّ بهذه السجدة"(39).
ومنها: ما ورد في المصباح عن عليِّ بن الحسين (ع) انَّه كان يقولُ في سجدةِ الشكر مائة مرَّة الحمدُ لله شكراً، وكلَّما قاله عشرَ مرات قال: "شكراً للمُجيب، ثم يقولُ: ياذا المنِّ الذي لا ينقطعُ أبداً ولا يُحصيه غيرُه عدداً، وياذا المعروفِ الذي لا ينقطعُ أبداً، يا كريمُ يا كريمُ يا كريمُ، ثم يدعو ويتضرَّعُ ويذكرُ حاجتَه"(40).
الذكر في سجود التلاوة:
المراد من سجود التلاوة هو السجود الذي يجبُ على المكلَّف إيقاعُه عند تلاوتِه أو استماعه لآياتِ السجدة، وفقهاء الإمامية يُفتون بعدم وجوب قراءة ذكرٍ خاص إلا أنَّه يستحبُّ الإتيان أثناء السجود بالأذكار المأثورة والتي منها ما رواه الكلينيُّ بإسناده عن أبي عبيدة الحذَّاء عن أبي عبد الله (ع) قال: "إذا قرأ أحدُكم السجدة من العزائم فليقلْ في سجوده: سجدتُ لك تعبُّداً ورقَّاً لا مُستكبراً عن عبادتك ولا مُستنكِفاً ولا مُستعظِماً بل أنا عبدٌ ذليلٌ خائفٌ مستجير"(41).
ومنها: ما رواهُ الشيخُ الصدوقُ في الفقيه قال: رُوي أنَّه يقولُ في سجدة العزائم: "لا إله إلا الله حقَّاً حقَّا، لا إله إلا الله إيماناً وتصديقاً، لا إله إلا الله عبوديَّةً ورِقَّاً، سجدتُ لك يا ربِّ تعبَّداً ورِقَّاً لا مُستنكِفاً ولا مُستكبِراً، بل أنا عبدٌ ذليلٌ خائفٌ مستجير، ثم يرفعُ رأسه ثم يُكبِّر"(42).
وبما نقلناهُ وبما تقدَّم يتبيَّن لكلِّ من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد واقعُ ما نحنُ عليه من عبوديَّةٍ خالصةٍ لله عزَّ وجل، كما يتبيَّن به مستوى الظلمِ والتجنِّي الذي يُمارسُه البعضُ في حقِّنا مُتوهِّماً أنَّه بذلك يُدخلُ الوهنَ علينا وكأنَّه لم يسمعْ قولَه تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾(43) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾(44).
عدم مشروعيَّة السجود على غير الأرضِ وما أنبتتْ:
وأمَّا لماذا لا يُجيز الشيعةُ السجودَ على غير الأرض وما أنبتتْ فذلك لأنَّ الروايات المعتَمَدة عندهم والواردة عن أهل البيت (ع) نهتْ عن السجودِ على غيرِ الأرض وما أنبتتْ من غيرِ المأكول والملبوس، فما يجوزُ السجودُ عليه عندَهم وتبعاً لأئمة أهل البيت (ع) هو مُطلق وجهِ الأرض مِن ترابٍ وحجرٍ والنباتات إذا لم تكن من جنس المأكولِ والملبوس، وعليه فلا يجوزُ عندهم السجودُ على مثل الصوفِ والشعرِ والجلودِ والمعادنِ وكذلك القطن والكتان، لأنَّهما وإن كانتا مما أنبتته الأرض إلا أنَّهما لمَّا كانا من جنس الملبوس كان السجودُ عليهما منهيَّاً عنه.
واستكمالاً للفائدة ننقل لكم بعض الروايات المتصدِّية لبيان هذا الحكم:
1- روى الشيخ الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنه قال لأبي عبد الله (ع): أخبرني عمَّا يجوز السجودُ عليه وعمَّا لا يجوز، قال (ع): "السجودُ لا يجوز إلا على الأرضِ أو على ما أنبتت الأرض إلا ما اُكِلَ أو لُبِسَ، فقال له: جعلتُ فداك ما العلَّة في ذلك؟ قال: لأنَّ السجودَ خضوعٌ لله عزَّ وجلَّ، فلا ينبغي أنْ يكون على ما يُؤكلُ ويُلبسُ، لأنَّ أبناء الدنيا عبيدُ ما يأكلونَ ويلبسون، والساجدُ في سجودِه في عبادةِ اللهِ عز وجل، فلا ينبغي أنْ يضع جبهتَه في سجودِه على معبود أبناءِ الدنيا الذين اغترَّوا بغرورِها"(45).
2- روى الشيخ الطوسيُّ بإسنادِه عن محمَّدِ بن مسلم عن أبي جعفرٍ (ع) قال: "لا بأس بالصلاة على البوريا والخصَفة وكلُّ نباتٍ إلا الثمرة"(46).
3- روى الكلينيُّ بإسناده عن الفضيلِ بن يسار ويزيدَ بنِ معاوية جميعاً عن احدِهما (ع) قال: "لا بأس بالقيام على المصلَّى من الشجر والصوف إذا كان يسجدُ على الأرض، وإنْ كان من نباتِ الأرض فلا بأس بالقيام عليه والسجودِ عليه"(47).
وثمة رواياتٌ أُخرى كثيرة وردت في هذا الشأن، وهي منشأُ التزامِ الإماميَّة بعدم مشروعيَّة السجود على غير الأرض وما أنبتت، حيث أنَّهم يعتقدون بحجَّيَّة ما يردُ عن أهل البيت (ع) نظراً لكونِهم الثقلَ الثاني الذين أمَرَ رسولُ الله (ص) بالتمسُّك بهم والأخذِ عنهم حيثُ ورد في الحديث المتواتر "إنِّي مخلِّفٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهلَ بيتي ما أن تمسكتُم بهما لن تضلُّوا بعدي أبدا وإنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"(48) وغيرها من الروايات، وكذلك الآيات(49) الدالَّة على حجيَّة ما يثبتُ صدورُه عن أهل البيت (ع).
على أنَّ جواز السجود على غير الأرض ليس موردَ وفاقٍ بين علماءِ السُنَّة فهم مختلفون فيما يصحُّ السجود عليه من غير الأرض كما ذكر ذلك ابنُ رشد القرطبي في كتابه بداية المجتهد قال: "واتَّفقوا على الصلاة على الأرض واختلفوا في الصلاة على الطنافس وغير ذلك ممَّا يُقعد عليه على الأرض، والجمهورُ على إباحة السجود على الحصير وما يُشبهه مما تنبتُه الأرض والكراهيَّة فيما بعد ذلك وهو مذهب مالك بن أنس"(50).
فالمسألةُ إذن من المسائل الفرعيَّة التي اختَلفَ فيها الاجتهاد، وليس لأحدٍ أنْ يفرض اجتهادَه على غيرِه.
والحمد لله رب العالمين
من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة
الشيخ محمد صنقور
21 / صفر / 1427هـ
1- بداية المجتهد ونهاية المقتصد -ابن رشد القرطبي- ج1 / ص63.
2- المغني -ابن قدامة الحنبلي- ج1 / ص223.
3- فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج1 / ص493.
4- صحيح البخاري كتاب التيمّم باب 1 / ج2.
5- صحيح البخاري وأخرجه مسلم ص1167.
6- صحيح مسلم في باب كراهة الحصى وتسوية التراب، وأخرجه البخاري في صحيحه ص1207.
7- صحيح مسلم باب 12 كتاب المساجد.
8- مسند أحمد بن حنبل ص315، 317، أحكام القرآن ج3 / ص36.
9- سنن البيهقي ج2 / ص102.
10- المصنَّف ج1 / ص397، كنز العمال ج4 / ص212.
11- مجمع الزوائد ج2 / ص126.
12- السنن الكبرى ج2 / ص106.
13- سنن البيهقي ج2 / ص105.
14- كنز العمال، رقم الحديث: 19810.
15- كنز العمال، رقم الحديث: 19777.
16- كنز العمال، رقم الحديث: 19776.
17- المصنَّف ج41 / ص397.
18- سنن البيهقي ج1 / ص439، مسند أحمد ج3 / ص327، النسائي ج2 / ص204، أبو داوود ج1 / ص110.
19- فتح الباري في شرح صحيح البخاري -ابن حجر العسقلاني-.
20- المصنَّف ج1 / ص397، الطبقات الكبرى.
21- فتح الباري في شرح صحيح البخاري.
22- بداية المجتهد ونهاية المقتصد -ابن رشد القرطبي- ج1 / ص63.
23- فتح الباري في شرح صحيح البخاري -ابن حجر العسقلاني- ج1 / ص493.
24- كتاب الخلاف -الشيخ أبي جعفر الطوسي- ج1.
25- جواهر الكلام -الشيخ محمد حسن النجفي- ج8 / ص411.
26- مستند الشيعة -الشيخ أحمد النراقي- ج5 / ص244.
27- الحدائق الناضرة -الشيخ يوسف البحراني- ج7 / ص260.
28- مستند الشيعة -الشيخ أحمد النراقي- ج5 / ص266.
29- الوسائل باب 16 من أبواب ما يسجد عليه / ح2.
30- الوسائل باب 16 من أبواب ما يُسجد عليه / ح3.
31- الوسائل باب 26 من أبواب ما يسجد عليه / ح2.
32- صحيح الترمذي في مناقب الحسن والحسين (ع) ج2 / ص307، صحيح ابن ماجة في باب فضائل أصحاب رسول الله (ص)، ورواه البخاري في صحيحه في الأدب المفرد في باب معانقة الصبي، ورواه الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين ج3 / ص177، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده ج4 / ص172 ورواه ابن الأثير في أسد الغابة ج2 / ص19، ج5 / ص130. وفي كنز العمال قال: أخرجه ابن عساكر عن أبي رمثة "حسين مني وأنا منه وهو سبط من الأسباط أحبَّ الله من أحبَّ حسينًا الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة" ج6 / ص221.
33- الوسائل باب 4 من أبواب الركوع / ح1.
34- الوسائل باب 4 من أبواب الركوع / ح5.
35- الوسائل باب 5 من أبواب الركوع / ح4.
36- الوسائل باب 6 من أبواب الركوع / ح4.
37- الوسائل باب 6 من أبواب الركوع / ح4.
38- الوسائل باب 7 من أبواب الركوع / ح1.
39- الوسائل باب 1 من أبواب سجدتي الشكر / ح3.
40- الوسائل باب 6 من أبواب سجدتي الشكر / ح4.
41- الوسائل باب 4 من أبواب قراءة القرآن / ح1.
42- الوسائل باب استحباب الدعاء في سجود التلاوة / ح2.
43- سورة المجادلة / 11.
44- سورة الحج / 38.
45- الوسائل باب 1 من أبواب ما يُسجد عليه / ح1.
46- الوسائل باب 1 من أبواب ما يسجد عليه / ح9.
47- الوسائل باب 1 من أبواب ما يسجد عليه / ح5.
48- حديث الثقلين حديث متواتر ذكر ابن حجر في الصواعق ص136 "ولهذا الحديث طرقٌ كثيرة عن بضع وعشرين صحابيًا لا حاجة لنا ببسطها" وقال السمهودي كما أفاد المناوي في فيض الغدير: ج3 / ص14 "وفي الباب ما يزيد عن عشرين من الصحابة". هذا وقد رواه مسلم في فضائل الصحابة في باب فضائل عليِّ بن أبي طالب عن يزيد بن حيان، ورواه بأسانيد أخرى عن زيد بن أرقم، ورواه الترمذي في صحيحه ج2 / ص308 بأكثر من طريق، ورواه الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين بطرق متعددة ج3 / ص109 وج3 / ص148، ورواه أحمد في مسنده ج4 /471، ج5 / ص181، ج4 / ص366، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار ج4 / ص368، ورواه النسائي في الخصائص ص21، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء ج9 / ص64، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج9 / ص163-164 ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة ص75، ورواه المتقي الهندي في كنز العمال ج / 48. وقال: أخرجه ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر، ورواه ابن الأثير الجزري في أسد الغابة ج2 / ص12، ورواه السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية المودة في سورة الشورى وقال أخرجه ابن الأنباري في المصاحف ورواه غير هؤلاء وهم كثير.
49- آية التطهير وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ فهي صريحة في عصمة أهل البيت (ع) وقد تواترت الروايات الواردة من طرق السنة أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فقد روى ذلك مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل البيت (ع)، ورواه الترمذي في صحيحه ج5 / ص30، 328، والحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين ج3 / ص133، 147، 158، ج2 / ص416، تلخيص المستدرك لذهبي بذيل المستدرك، المعجم الصغير للطبراني ج1 / ص65، 135، شواهد التنزيل للحسكاني في الحنفي ج2 / ص11، 92 وقد نقلها بطرق كثيرة، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص4، ترجمة الإمام علي (ع) من تاريخ دمشق لابن عساكر ج1 / ص185، ج250، 282، 320، 321، 322. كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص54، 372، 375، أسد الغابة -ابن الأثير- ج2 / ص12 و20، ج3 / ص413، ج5 / ص521، 5589. أسباب النزول للواحدي ص203، أحكام القرآن للجصاص ج5 / ص230، الإتقان في علوم القرآن ج2 / ص240 الصواعق المحرقة ص85، 137. الكشاف للزمخشري ج1 / ص193، تفسير القرطبي ج11 / ص182، التنزيل للجاوي ج2 / ص183، الرياض النضرة ج2 / ص248، الفضائل لأحمد بن حنبل ترجمة الإمام الحسين (ع) ص82، 57 وغيرها الكثير من المصادر.
50- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي ج1 / ص63.