الضحَّاك المِشرَقي وفرارُه يوم كربلاء؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ محمد وآل محمد
المسألة:
ما مدى مصداقيَّة قصَّة الضحَّاك المِشرَقي الذي يُقال إنَّه قاتل مع الحسين (ع) ثم استأذن منه وفرَّ ونجا؟ هل هي ثابتة؟ أليس ذلك منافياً لما هو معلوم من أنَّ الحسين (ع) قد اختبر أصحابه فأحلَّهم من بيعته وقال لهم هذا الليل قد غشيَكم فاتِّخذوه لكم جملا، فلمَّا أصرُّوا على البقاء معه والدفاع دونه أخبرهم بأنَّهم جميعاً مقتولون وكشفَ لهم عن منازلِهم في الآخرة؟ ثم إنَّه من المعلوم أنَّ مَن يسمع واعية الإمام فلا يُجيبُه يكون مستحقًا للنار.
الجواب:
المظنونُ قويًّا أنَّ الضحَّاك بن عبد الله المِشرَقي هو عينه الضحَّاك بن شراحيل المِشرَقي الهمداني الكوفي، وهو مُصنَّف في كتب الرجال والجرح والتعديل لدى العامَّة في طبقة التابعين وهو ثقةٌ وصفَه الذهبي بقوله: "حجَّةٌ مقِل" وقال عنه ابن حجر صدوق، وذكرَه ابنُ حبَّان في الثقات، وقالوا إنَّه يروي عن أبي سعيد الخُدري وقد روى عنه العديدُ من رجال البخاري ومسلم مثل الزهري والأعمش وغيرهما بل إنَّ كلًا من البخاري ومسلم قد أخرج له في صحيحه وكذلك النسائي في كتاب خصائص أمير المؤمنين (ع)(1).
فليس ثمة مِن تردُّدٍ عندهم في وثاقة الرجل وطبقتِه، وقد تتبعتُ الكثيرَ من مضامين الروايات والأخبار المنقولةِ عنه فلم أجد فيها ما يُثير الارتياب في صدقِه بل إنَّ أمارات الصدق والضبْط في الكثير منها واضحة فلتكنْ هذه قرينةً أخرى على وثاقة الرجل وصدقِه في الحديث.
وأما أنَّه قاتل مع الحسين (ع) يوم كربلاء ثم انسحب -ولك أنْ تقولَ فرَّ- بعد أن قُتل أكثر أصحاب الحسين (ع) فقد أورد ذلك العديد من المؤرِّخين مثل البلاذري في أنساب الأشراف قال: "ولمَّا رأى الضحَّاك بن عبد الله المشرقي من همدان أنَّه قد خلُص إلى الحسين وأهلِ بيته وقُتل أصحابه، قال له (يا أبا عبد الله): كنتُ رافقتُك على أنْ أُقاتل معك ما وجدتُ مُقاتِلًا، فأذنْ لي في الانصراف فإنِّي لا أقدُر على الدفع عنك ولا عن نفسي، فأذِنَ له الحسينُ فانصرف، فعرض له قومٌ من أصحاب عمر بن سعد من اليمامة (كذا) ثم خلّوا سبيلَه فمضى"(2).
وقال الرامهرمزي أبو محمد بن عبد الرحمن بن خلاد المتوفى سنة 360هـ في كتابه المحدث الفاصل: والضحاك المشرقي مكسور الميم مفتوح الراء منسوب إلى مشرق بطن من همدان .. والضحاك هذا فارس شريف قاتل مع الحسين رضي الله عنه"(3).
وقال الطبري في تاريخه: (قال أبو مخنف) حدَّثنا عبدُ الله بن عاصم الفائشي بطن من همدان عن الضحَّاك بن عبد الله المشرقي قال: قدمت ومالكُ بن النضر الأرحبي على الحسين فسلَّمنا عليه ثم جلسنا إليه فردَّ علينا ورحَّب بنا وسألنا عمَّا جئنا له، فقلنا: جئنا لنسلِّم عليك وندعو اللهَ لك بالعافية ونُحدثُ بك عهدًا ونخبرُك خبرَ الناس، وإنا نُحدِّثك أنَّهم قد جمعوا على حربِك فرِ رأيَك فقال الحسينُ (عليه السلام): حسبيَ اللهُ ونعم الوكيل، قال: فتذمَّمنا وسلَّمنا عليه ودعونا اللهَ له قال: فما يمنعُكما من نصرتي؟ فقال مالك بن النضر: عليَّ دينٌ ولي عيالٌ، فقلتُ له: إنَّ عليَّ دينًا وإنَّ لي لعيالًا ولكنَّك إن جعلتني في حلٍّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلًا قاتلتُ عنك ما كان لك نافعًا وعنك دافعًا، قال: قال: فأنت في حلٍّ فأقمتُ معه .."(4).
وقال الطبري في موضع آخر من تاريخه: (قال أبو مخنف) حدَّثني عبدُ الله بن عاصم عن الضحَّاك بن عبد الله المشرقي قال: لما رأيتُ أصحابَ الحسين قد أُصيبوا وقد خلُص إليه وإلى أهل بيتِه ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي وبشير بن عمرو الحضرمي قلتُ له يابنَ رسولِ الله قد علمتَ ما كان بيني وبينك قلتُ لك أُقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلًا فإذا لم أرَ مقاتلًا فأنا في حلٍّ من الانصراف فقلتَ لي: نعم، قال: فقال: صدقت وكيف لك بالنجاء؟ إنْ قدرتَ على ذلك فأنتَ في حلٍّ، قال: فأقبلتُ إلى فرسيى وقد كنتُ حيثُ رأيتُ خيلَ أصحابنا تُعقر أقبلتُ بها حتى أدخلتُها فسطاطًا لأصحابِنا بين البيوت وأقبلتُ أُقاتلُ معهم راجلًا فقتلتُ يومئذٍ بين يدي الحسين رجلين وقطعتُ يد آخر، وقال ليَ الحسين يومئذٍ مرارًا لا تشلل لا يقطعُ الله يدَك جزاك الله خيرًا عن أهل بيت نبيِّك صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلما أذن لي استخرجتُ الفرس من الفسطاط ثم استويتُ على متنِها ثم ضربتها حتى إذا قامتْ على السنابك رميتُ بها عرضَ القوم فأفرجوا لي واتَّبعني منهم خمسة عشر رجلًا حتى انتهيتُ إلى شفية قريةٍ قريبة من شاطئ الفرات فلمَّا لحقوني عطفتُ عليهم فعرفني كثيرُ بن عبد الله الشعبي وأيُّوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عبد الله الصائدي فقالوا: هذا الضحاك بن عبد الله المشرقي هذا ابنُ عمنا نُنشدكم الله لما كففتُم عنه فقال ثلاثةُ نفر من بني تميم كانوا معهم بلى والله لنجيبنَّ إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبَّوا من الكفِّ عن صاحبهم قال فلما تابع التميميون أصحابي كفَّ الآخرون قال: فنجاني"(5).
وقال ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ: "وجاء الضحاكُ بن عبد الله المشرفي إلي الحسين فقال يابن رسول الله قد علمتَ إني قلتُ إنِّي أقاتلُ عنك ما رأيتُ مقاتلًا فإذا لم أرَ مقاتلًا فأنا في حلٍّ من الانصراف فقال له الحسينُ: صدقتَ وكيف لك بالنجاة إنْ قدرتَ عليه فأنتَ في حلٍّ، قال فأقبلتُ في فرسي وكنتُ قد تركته في خباءٍ حيثُ رأيتُ خيلَ أصحابنا تُعقر وقاتلتُ راجلًا وقتلتُ رجلين وقطعتُ يد آخر ودعا إليَّ الحسينُ مرارًا، قال: واستخرجتُ فرسي واستويتُ عليه وحملتُ على عرض القوم فأفرجوا لي وتبعني منهم خمسة عشر رجلًا ففتُّهم وسلِمتُ"(6).
فهذه بعض النصوص التأريخية الواردة في هذا الشأن ومؤداها مجتمعة أنَّ الضحَّاك المِشرَقي (رحمه الله) كان فيمن قاتل مع الحسين (ع) وأبلى بلاء مشكورًا، وحين قُتل أكثرُ أصحاب الحسين استأذنَ الإمام (ع) في الانصراف فأذِن له وأحلَّه من البيعة التي له في عنقه، وقد برَّر انصرافه بأنَّه كان قد اشترط على الحسين (ع) حين الإلتحاق بركبه أن يكون له الإنصراف عنه إذا لم يكن بقاؤه نافعًا في الدفع عن الحسين (ع).
وأما أنَّه موزور مأثوم بانسحابه أو فراره فهو كذلك ظاهرًا فكان عليه أنْ يدفع عن إمامه (ع) إلى أن يُقتلَ دونه ولكنَّها الخيبةُ والحرصُ على الحياة وسوءُ الاختيار الذي نرجو أنْ يغفرَه اللهُ له، وأيًّا كان فقد أخفقَ في أنْ يكونَ في مصافِّ الشهداء الذين لا نظيرَ لهم في شهداء الإسلام، ورغم ذلك فهو أحسنُ حالًا وأشرفُ مقامًا ممَّن كان في وسعِه مؤازرة الحسين (ع) ولكنَّه اختار أن يخذلَه.
وأمَّا أنَّ الحسينَ (ع) قد اختبرَ أصحابَه فلمَّا أظهروا العزم الأكيد على البقاء معه أخبرهم بأنَّهم مقتولون ثم كشفَ لهم عن منازلِهم في الآخرة فهو لا يُنافي ما وقع للضحَّاك المِشرَقي، فالذين أخبَرَ الحسينُ (ع) عن أنَّهم مقتولون هم الذين أظهروا الاستعدادَ الكامل للموتِ دونَه، والضحَّاكُ كان صريحًا بأنَّه ليس مستعدًّا لهذه المرتبة من الدفاع وأنَّ غايةَ ما هو مستعدٌّ له هو الدفاع عن الحسين (ع) ما دام دفاعُه مُجديًا ومتى ما وجد أنَّ دفاعَه لا يصرفُ القتلَ عن الحسين فإنَّه يكونُ في حلٍّ من الانصراف عنه، فهو إذنْ لم يكن ممَّن أصرَّ على البقاء والموتِ دونَ الحسين (ع) بل كان واضحًا بأنَّه ليس منهم، ولذلك فخطابُ الحسينِ (ع) لا يشملُه.
ويُؤكِّدُ ذلك ما رُوي عن الإمام زينِ العابدين (ع) أنَّه قال: "لمَّا كانت الليلة التي قُتل الحسينُ (ع) في صبيحتِها قام في أصحابِه فقال (ع): إنَّ هؤلاءِ يُريدونني دونَكم، ولو قتلوني لم يُقبِلوا إليكم، فالنجاء النجاء، وأنتم في حلٍّ، فإنَّكم إنْ أصبحتم معي قُتلتم كلُّكم. فقالوا: لا نخذلُك، ولا نختارُ العيشَ بعدك. فقال (ع): إنَّكم تُقتلون كلُّكم حتى لا يُفلتَ منكم واحد. فكان كما قال (ع)"(7).
فالواضحُ من الرواية أنَّ الذين قال لهم الحسين: "إنَّكم تُقتلون كلُّكم .." هم الذين قالوا له: "لا نخذلُك، ولا نختارُ العيشَ بعدك" والضحَّاكُ لم يكن فيمَنْ قال: "لا نختارُ العيش بعدك" بل قال للإمام: "أقاتلُ عنك ما رأيتُ مقاتلًا فإذا لم أرَ مقاتلًا فأنا في حلٍّ من الانصراف" فهو إذن غير مشمولٍ لخطاب الحسين (ع).
وهكذا هو الشأنُ فيمَن كُشف لهم عن منازلِهم في الجنة فإنَّ صريحَ ما ورد في ذلك أنَّ مَن كُشف لهم عن منازلِهم هم أصحابُه الذين أظهروا العزمَ الكامل ليس على نصرتِه ومؤازرتِه وحسب بل على الموتِ دونه:
روى القطبُ الراوندي في الخرائج والجرائح بسندِه عن أبي حمزة الثمالي قال: قال عليُّ بن الحسين (عليهما السلام): كنتُ مع أبي الليلة التي قُتل صبيحتَها فقال لأصحابِه: هذا الليلُ فاتخذوه جملًا، فإنَّ القوم إنَّما يُريدونني، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم، وأنتم في حلٍّ وسعةٍ، فقالوا: لا والله، لا يكونُ هذا أبدا، قال: إنَّكم تقتلون غدًا كذلك لا يفلتُ منكم رجل. قالوا: الحمدُ لله الذي شرَّفنا بالقتل معك. ثم دعا، وقال لهم: ارفعوا رؤوسَكم وانظروا، فجعلوا ينظرون إلى مواضعِهم ومنازلِهم من الجنَّة .."(8).
فالواضُح أنَّ المخاطَبين بقولِه (ع): "ارفعوا رؤوسَكم وانظروا، فجعلوا ينظروَن إلى مواضعِهم ومنازلِهم من الجنَّة" هم الذين قالوا: "لا والله، لا يكون هذا أبدا" ثم قالوا: "الحمدُ لله الذي شرَّفنا بالقتل معك" والضحَّاك لم يكن فيمَن قال ذلك، ولهذا فهو لم يحظ بالكشفِ عن بصيرته.
وروى الشيخ الصدوق في العلل بسنده عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن أبي عبد الله (ع) قال: قلتُ له أخبرني عن أصحاب الحسين (ع) وإقدامِهم على الموت فقال: إنَّهم كُشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلَهم من الجنَّة .."(9).
فالذين كُشف لهم الغطاء فرأوا منازلَهم من الجنَّة هم أصحابُ الحسين الذين أقدموا على الموت وأمَّا مَن لم يعقدوا العزمَ على ذلك فهم ليسوا مشمولين لهذه المنزلة.
والمتحصَّل أنَّ ما أورده المؤرِّخون من قضية الضحَّاك المِشرَقي لا يتنافى مع ما ورد من أنَّ الحسين أخبر أنصارَه بأنَّهم مقتولون وما ورد من أنَّه كُشف الغطاء عن بصائرهم فرأوا منازلَهم من الجنَّة.
وأمَّا ما هو حال الضحَّاك بعد انصرافِه عن الحسين (ع) فلعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يغفرَ له جزاءَ دفاعِه عن الحسين (ع) فليس كلُّ أحدٍ تسخو نفسُه فيُقدم على الموت مُختارًا، فما كان عليه الضحَّاك من حرصٍ على الحياة هو ما عليه أكثرُ عباد الله تعالى وقد تميَّز هو عن الكثير منهم بأنَّه جازف بنفسه فشارك في معركةٍ لا يخرجُ منها أحدٌ حيًّا بحسب الموازين الطبيعية وذلك يُعبِّر عن مستوىً راقٍ من النُبل والشهامة وإنْ كان لا يرقى للمستوى الذي حظيَ به أنصارُ الحسين (ع) الذين استُشهدوا بين يديه، فهم صفوة الأرض الذين ليس لهم من نظير.
ولعلَّ اللهَ تعالى شاء بحكمتِه البالغة أنْ ينجوَ هذا الرجل من القتل ليرصد لنا الكثيرَ من الوقائع التي عايشها وشاهدَها بأمِّ عينِه فينقلُها بأمانةٍ ودقَّةٍ مُلفتة، فقد نقلَ عنه المؤرِّخُ الثبْت أبو مخنف -بحسب نقل الطبري بواسطةٍ واحدة- الكثيرَ من الوقائع التي يتميَّزُ بعضُها بأنَّ عليها المدار في الوقوف على مُجريات الأحداث في ليل ويوم عاشوراء، فهو ممَّن نقل خطبة الإمام الحسين (ع) في أصحابه قُرب المساء أي قبل ليلة العاشر بقليلٍ فجاءت قريبةً أو مطابقةً لما رُويَ عن الإمام زين العابدين (ع)(10) وهو الذي نقل خطبة الإمام الحسين -أو شطرًا منها - في أصحابِه ليلة العاشر والتي تضمَّنت الإذنَ لهم بالإنصراف ونقل جواب إخوته وأبنائه وبني أخيه وابني عبد الله بن جعفر، وأفاد أنَّ أول من تكلَّم هو العباسُ بن عليٍّ (ع) فقال: "لِمَ نفعل؟ لنبقى بعدك لا أرانا اللهُ ذلك أبدا" ثم تكلم الباقون بمثل قولِه أو نحوه، وأفاد أنَّ الحسين (ع) خاطب بعد ذلك بني عقيل رضوان الله عليهم فقال (عليه السلام): "يا بني عقيل حسبُكم من القتل بمسلم اذهبوا قد أذنتُ لكم قالوا: فما يقولُ الناسُ يقولون: إنَّا تركنا شيخنا وسيِّدنا وبنى عمومتِنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهمٍ ولم نطعنْ معهم برمحٍ ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا لا والله لا نفعلُ ولكن تفديك أنفسُنا وأموالُنا وأهلونا ونقاتلُ معك حتى نرِدَ موردك فقبَّح اللهُ العيشَ بعدك"(11) فهذه المحاورات لم تكن لتصل إلينا لولا نجاة هذا الرجل من القتل إلا من طريق أهل البيت (ع).
هذا وقد رصَد لنا هذا الرجل ما أجاب به مسلمُ بن عوسجة (رضوان الله عليه) على الإمام الحسين (ع) وما أجابتْ به الأصحابُ من بعده وختم توثيقَه لهذا المشهد بقوله: "وتكلَّم جماعةُ أصحابِه بكلامٍ يُشبه بعضُه بعضا في وجهٍ واحد فقالوا: والله لا نُفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورِنا وجباهِنا وأيدينا فإذا نحنُ قُتلنا كنَّا وَفيْنا وقضينا ما علينا"(12).
وممَّا نقله الضحَّاك المِشرَقي (رحمه الله) من أحداث ليلة العاشر: قال "فلما أمسى حسينٌ وأصحابُه قاموا الليل كلَّه يُصلُّون ويستغفرون ويدعون ويتضرَّعون، قال فتمرُّ بنا خيلٌ لهم تحرسُنا وإنَّ حسينًا ليقرأ ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ / مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ..﴾(13)"(14).
وممَّا رصَده الضحَّاك المِشرَقي هو عددُ مَن كان مع الحسين (ع) والكيفيَّة التي عبأ بها الحسينُ (ع) أصحابَه والاستعدادات التي قام بها تحسُّبًا لوقوع الحرب قال: "وعبَّأ الحسينُ أصحابه وصلَّى بهم صلاة الغداة وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً فجعل زهيرَ بن القين في ميمنة أصحابِه وحبيبَ بن مظاهر في ميسرة أصحابِه وأعطى رايتَه العبَّاسَ بن علي أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورِهم وأمرَ بحطبٍ وقصَبٍ كان من وراء البيوت تُحرق بالنار مخافةَ أن يأتوهم من ورائهم، قال وكان الحسينُ (عليه السلام) أتى بقصبٍ وحطبٍ إلى مكانٍ من ورائهم منخفضٍ كأنه ساقية فحفروه في ساعةٍ من الليل فجعلوه كالخندق ثم ألقَوا فيه ذلك الحطبَ والقصب وقالوا إذا عدَوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نُؤتى من ورائنا وقاتلونا القوم من وجه واحد ففعلوا وكان لهم نافعا"(15).
ومن أهمِّ ما نقلَه لنا الضحَّاك المِشرَقي هو خطبةُ الإمام الحسين (ع) الأولى والأجواء التي اكتنفت الخطبة وردة فعل المعسكر الأموي بعد وأثناء الخطبة قال (رحمه الله): "لمَّا أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنَّا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجٌل يركضُ على فرسٍ كامل الأداة فلم يُكلِّمنا حتى مرَّ على أبياتنا فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلا حطباً تلتهب النارُ فيه فرجع راجعاً فنادى بأعلى صوتِه يا حسين استعجلتَ النار في الدنيا قبل يوم القيامة، فقال الحسين من هذا كأنَّه شمرُ بن ذي الجوشن فقالوا نعم أصلحك الله .. قال فلمَّا دنا منه القوم عاد(ع) براحلته فركبها ثم نادى بأعلى صوته بصوتٍ عال دعاء يسمع جل الناس: أيُّها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظَكم بما يحقُّ لكم عليَّ وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإنْ قبلتم عذري وصدَّقتم قولي وأعطيتموني النصَفَ كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم عليَّ سبيل، وإنْ لم تقبلوا منى العذر ولم تعطوا النصَف من أنفِسكم فأجمعوا أمرَكم وشركاءكم ثم لا يكنْ أمرُكم عليكم غُمَّة ثم اقضوا إلى ولا تُنظرون إنَّ ولييَّ اللهُ الذي نزَّل الكتاب وهو يتولَّى الصالحين قال: فلمَّا سمع أخواته كلامَه " إلى أن قال: ".. حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله وصلَّى على محمدٍ صلَّى الله عليه وعلى ملائكته وأنبيائه فذكر من ذلك ما الله أعلمُ وما لا يُحصى ذكره قال: فوالله ما سمعتُ مُتكلِّما قطُّ قبلَه ولا بعدَه أبلغَ في منطقٍ منه .." ثم نقل الخطبة الشهيرة للإمام (ع) بطولِها إلى قال: فنادى - الحسين (ع)- يا شبث بن ربعي ويا حجَّار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ قد أينعتِ الثمار وأخضرَّ الجناب وطمَّت الجِمام وإنَّما تُقدم على جندٍ لك مجنَّد فأقبل، قالوا له: لم نفعل فقال: سبحاَن الله بلى والله لقد فعلتُم ثم قال (ع): أيُّها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض قال: فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزلُ على حكم بني عمِّك؟ فإنَّهم لن يُروك إلا ما تُحب ولن يصلَ إليك منهم مكروه فقال له الحسين: أنتَ أخو أخيك أتُريد أنْ يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلمِ بن عقيل، لا والله لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقُّر اقرار العبيد، عباد الله إنِّي عُذت بربِّي وربِّكم أنْ ترجمون أعوذ بربِّي وربِّكم من كلِّ متكبِّرٍ لا يُؤمن بيوم الحساب قال: ثم إنَّه أناخَ راحلتَه وأمرَ عقَبة بن سمعان فعقلَها وأقبلوا يَزحفون نحوَه"(16).
هذه هي بعضُ النماذج المنقولة عن الضحَّاك المِشرَقي وثمة غيرها، وهي تتميَّز بالدقة وعليها في الغالب أماراتُ الصدق.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
14 / محرم / 1439ه
5 / أكتوبر / 2017م
1- ميزان الاعتدال -الذهبي- ج2 / ص224، صحيح البخاري ج6 / ص105، صحيح مسلم ج3 / ص113، خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -النسائي- ص179، تاريخ الإسلام للذهبي ج7 / ص114، المحدث الفاصل -الرامهرمزي- ج1 / ص265، الثقات -ابن حبان- ج4 / ص388، تهذيب الكمال -المزي- ج13 / ص263، تقريب التهذيب -ابن حجر- ج1 / ص442، تهذيب التهذيب -ابن حجر- ج4 / ص390.
2- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص197.
3- المحدث الفاصل -الرامهرمزي- ج1 / ص265.
4- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص317.
5- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص339.
6- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج3 ص427.
7- الخرائج والجرائح -القطبُ الراوندي- ج1 / ص254.
8- الخرائج والجرائح -القطبُ الراوندي- ج2 / ص848.
9- علل الشرائع -الشيخ الصّدوق- ج1 / ص239.
10- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص317.
11- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص318.
12- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص318.
13- سورة آل عمران / 178.
14- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص319.
15- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص320.
16- تاريخ الطّبري -الطبريّ- ج4 / ص321-323.