تجدد النبوة والنبوة الخاتمة (2)
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه الْعَالِمِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدِينَ لَه مِنْ خَلْقِه دَائِنٌ، فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، مُؤَلِّفِ الأَسْبَابِ بِمَا جَرَتْ بِه الأَقْلَامُ، ومَضَتْ بِه الأَحْتَامُ مِنْ سَابِقِ عِلْمِه ومُقَدَّرِ حُكْمِه، أَحْمَدُه عَلَى نِعَمِه، وأَعُوذُ بِه مِنْ نِقَمِه، وأَسْتَهْدِي اللَّهَ الْهُدَى، وأَعُوذُ بِه مِنَ الضَّلَالَةِ والرَّدَى، مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وسَلَكَ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى، وغَنِمَ الْغَنِيمَةَ الْعُظْمَى، ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَقَدْ حَارَ عَنِ الْهُدَى وهَوَى إلى الرَّدَى، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه الْمُصْطَفَى، ووَلِيُّه الْمُرْتَضَى، وبَعِيثُه بِالْهُدَى، أَرْسَلَه عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، واخْتِلَافٍ مِنَ الْمِلَلِ، وانْقِطَاعٍ مِنَ السُّبُلِ، ودُرُوسٍ مِنَ الْحِكْمَةِ، وطُمُوسٍ مِنْ أَعْلَامِ الْهُدَى والْبَيِّنَاتِ، فَبَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّه، وصَدَعَ بِأَمْرِه، وأَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْه، وتُوُفِّيَ فَقِيداً مَحْمُوداً (ص).
عبادَ اللهِ اتَّقُوا اللَّه واعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّه، واعلموا أنِّ أَحَبَّ الْعِبَادِ إلى اللَّه عَزَّ وجَلَّ وأَكْرَمَهُمْ عَلَيْه أَتْقَاهُمْ، وأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِه.
محدودية نطاق الرسالة والنبوة:
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(1).
استكمالاً للحديثِ السابق عن المبرِّر الأولِ من مبرِّرات التجديدِ في النبوَّاتِ نقول: إنَّه قد يبعثُ اللهُ تعالى نبيَّاً لمدينةٍ معيَّنةٍ ومجتمعٍ محدودٍ، وحينئذ تكونُ دعوةُ ذلك النبيِّ منحصرةً بتلك المدينةِ ولذلك المجتمعِ فلا تتسعُ دعوتُه ورسالتُه لأوسعَ من تلك الرقعةِ الجغرافيةِ المحدودةِ، ومن هنا تكونُ المدنُ الأخرى والمجتمعاتُ الأخرى بحاجةٍ إلى نبيٍّ آخرَ ورسالةٍ إلهيَّةٍ أخرى مماثلةٍ أو مختلفة، بحسب ما تقتضيه طبيعةُ ذلك المجتمعِ وحاجاتُه، فيكونُ حينئذٍ منشأُ ومبرِّرُ التجدُّدِ في النبوَّاتِ هو محدوديَّةُ نطاقِ الرسالةِ والنبوَّةِ، وهذا المبرِّرُ تجدونَه في العديدِ من آياِت القرآن الكريمِ التي تصدَّت للإخبارِ عن أحوالِ بعضِ الأممِ وأحوال أنبيائِهم، فقد أشارتِ العديدُ من الآياتِ إلى وجودِ أنبياءَ قد بُعثوا لمجتمعاتٍ معيَّنة أو لمدنٍ مخصوصةٍ، كقولِه تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾(2) فهذه الآيةُ المباركةُ ظاهرةٌ في أنَّ شعيبًا (ع) إنَّما بُعثَ إلى مدينةٍ خاصَّة هي مدينةُ مديَن، فرسالتُه لا تمتدُّ لمدينةٍ أخرى، وكذلك هو الشأنُ في مثلِ قوله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾(3) وقولِه تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾(4) فإنَّهما ظاهرتانِ في اختصاصِ رسالةِ كلٍّ منهما بمجتمعِه، ولذلك يكونُ المبرِّرُ لتجدُّدِ النبوَّات في مثلِ هذا الفرضِ هو محدوديَّةُ نطاقِ الرسالةِ والنبوَّة.
نبوات تموت في مهدها:
وثمة مبرِّرٌ آخر يقعُ في سياقِ هذا المبرِّرِ لتجدُّدِ النبوَّاتِ وهو افتراضُ موتِ النبوَّة في مهدِها أو قبلَ أن تستكملَ غرضَها كما لو اتَّفقَ أنَّ النبيَّ المبعوثَ لأمةٍ من الأممِ قد جنى عليه بعضُ أفرادِ تلك الأمة، فقتلوه قبل أن يستكملَ دعوته أو يتمكنَ من بيان الهدى الذي بُعث من أجلِه، فكم من الأنبياء قد قُتِلوا وهم في بدايةِ دعوتِهم، فبنو إسرائيلَ كانوا يقتلونَ الأنبياءَ ثم يجلسونَ في أسواقِهم يبيعونَ ويشترونَ وكأنَّهم لم يفعلوا شيئاً، وثمة أممٌ وقبائلُ ومجتمعاتٌ كثيرة قد أوقعوا بأنبيائهم أشدَّ العذابِ والتنكيلِ وقتلوهم شرَّ قتلةٍ، فمن الانبياء من نُشرَ بالمناشيرِ، ومنهم من أُودعوا في الآبارِ وطُمَّتْ عليهم تلك الآبارُ، ومنهم من أُحرقوا بالنارِ حتى الموتِ والدعوة بعدُ لم تُستكملْ والأمة بعدُ لم تبلغْ حدَّ الرشد الذي أراده اللهُ تعالى من بعثه لتلك النبوَّةِ، ولهذا يكونُ من المعقولِ جدَّاً أنْ تتجدَّدَ النبوَّة.
وهكذا كانت تتجدَّد نبوَّةٌ بعد نبوَّةٍ نظراً لكون تلك الأمةِ التي بُعثَ لها ذلك النبيُّ لم يتهيأْ له تبليغُ رسالتِه لهم فهم إما ان يكونوا قد رجموه أو قتلوه أو أحرقوه أو نشروه بالمناشير أو طردوه أو ما إلى ذلك.
مجتمعات وأمم تفنى دون النبوات:
وقد ينشأُ تجدُّدُ النبوَّةِ بسببِ أنَّ الأمةَ هي التي تفنى وليس النبيُّ، فتارًةً يكونُ النبيُّ هو الذي يُقتل، وتارةً ينعكسُ الأمر، فالأمةُ هي التي تفنى، فقد يدعو عليها نبيُّها فتُبادُ عن آخرِها، كما وقع لقوم لوط إذ لم ينجُ منهم إلا أهلُه، وحتى امرأته لم تنجُ من الهلاكِ، يقولُ تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾(5) وكذلك هو ما وقع لقومِ هود (ع) حيثُ لم يبقَ منهم من أحد، وذلك هو ما آل إليه مصيرُ قومِ صالحٍ (ع) فبعد أن عقروا الناقةَ قال الله تعالى عنهم: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾(6) فقد أَفنهَاهُم عن آخرِهم، فلم يبقَ منهم من أحد، ولذلك يكونُ من المعقولِ أن تُبعثَ نبوَّةٌ أخرى، في مجتمعٍ آخر لأنَّ الأمة التي يُراد لها أن تحملَ أهدافَ وأغراضَ وشرائعَ ذلك النبيِّ قد أُبيدت نتيجةَ طغيانها.
وصورةٌ أخرى من صورِ مبرِّرات تجدُّدِ النبوَّة وهي أنْ يبقى النبيُّ في قومِه سنينَ طويلةً إلا أنَّهم يظلُّونَ غير مستوعبين لأهدافِ رسالةِ ذلك النبيِّ، فلا يجدُ منهم سوى المكابرةِ والعناد حتَّى يموتَ بغُصَّتِهِ وبغيظِهِ أو يرحَلَ عن تلك الأمة، والأمةُ لازالت لم تقبلْ بتلك الرسالة، فنبيُّ الله شعيبٌ (ع) يهددهُ قومُهُ فيقولون له: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾(7) لذلك هاجرَ عنهم وتركَهم في ضلالهم، فمثل هؤلاءِ لا يبقونَ إلى الأبد دون نبيٍّ ولا تُهملهم العنايةُ الإلهيَّة، فهم يحتاجونَ بعد زمنٍ إلى نبوَّةٍ أخرى، لعلَّهم يثوبون إلى رشدهم أو تبعثُ النبوة في أعقابهم.
كلُّ ذلك يشكِّلُ مبرراً لتجدد النبوات:
فالأمةُ حينما لا تستوعبُ أهدافَ الرسالة أو لا يستكملُ النبيُّ معهم رسالتَه أو يكونُ النبيُّ قد جاء لمجتمعٍ مخصوصٍ ومحدودٍ وذلك ما يجعلُ رسالتَه وتعاليمه وتشريعاتِه التي جاء بها من السماء مختصةً بتلك الأمةِ وحينئذ تكونُ الأممُ الأخرى محتاجةً إلى نبيٍّ آخر ومرشِد آخر.
أما الإسلامُ فلم يكنْ كذلك، فالإسلامُ لم يأتِ لمدينةٍ مخصوصةٍ ولم يأتِ بتعاليمَ محدودة بحدود الأمة التي بُعث النبيُّ في وسطها، جاء الإسلامُ ليُخرجَ كلَّ الناسِ من ظلماتِ الجهل، جاء لينظَّمَ حياةَ كلِّ الناس، جاء من أجلِ أنْ يسودَ كلَّ الأمم وعلى امتدادِ تاريخِ البشريَّة المستقبلي، ولهذا فعالميَّةُ الرسالةِ الإسلاميَّةِ تنفي هذا المبرِّر، فإذا كان المبرِّرُ من تجدُّد النبواتِ هو محدوديَّة نطاقِ الرسالةِ بحدود زمنٍ أو مكانٍ فإنَّ رسالة الرسولِ الكريم (ص) لم تكن كذلك بل كانت رسالةً عالميَّةً وأبديَّة، وهذا ما تُؤكِّدُه الآياتُ المباركاتُ، كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(8)، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(9) وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾(10) فمثلُ هذه الآياتِ صريحةٌ في انَّ الإسلامَ لا يَحدُّه مكانٌ فهو يستوعبُ الأرضَ كلَّ الأرض، ويمتدُّ بامتدادِ الزمان، ثم إنَّ هنا آيةً أخرى صريحةً في أبديَّةِ هذه الرسالةِ وعالميَّتِها، وهي قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾(11) فمَن يأتي بعدَكم وتبلغُه هذه الرسالةُ فإنَّه يكونُ مخاطباً بها مسئولاً عن امتثالِ تعاليمها، ويقول: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(12) في حين أن ما كان عليه واقع النبوات سابقًا هو أنَّ لكل مجتمع نبيّ لا يلزمُه إلا أنْ يتديَّن بما جاء به ذلك النبيُّ، إذن فالمبرِّر الأول لتجدُّد النبوَّت لا ينطبق على رسالة الرسول الكريم (ص).
المبرر الثاني:
أما المبرِّرُ الثاني لتجدُّد النبوات فهو انقطاعُ تراثِ النبوَّة أو اندثاره، ومعنى انقطاعِ تُراثِ النبوَّة هو افتراضُ أنْ تأتيَ نبوَّةٌ وتطَّلعُ بدورِها في التبليغِ لشريعةِ اللهِ والهدايةِ إلى سبيلِه، فيهتدي بها جمعٌ كبيرٌ من الأُمة وتبدأُ الأمَّةُ تخطُّ طريقَها نحوَ الرُشد ثم يرحلُ ذلك النبيُّ إلى ربِّه وحينذاك يعتري الأمةَ فراغٌ، ويضيعُ بتعاقبِ الزمن مقدارٌ من تُراثِ ذلك النبيِّ، ويأخذُ المضلِّون دورَهم بدسِّ الضلالاتِ في وسطِ أُمة ذلك النبيِّ، فتنحرفُ عن خطِّ نبيِّها ويبدأ تراثُ النبوَّةِ التشريعيِّ والروحيِّ والسياسيِّ في الانحلالِ والاضمحلالِ، إلى أنْ تتلاشى وتمتحي من ذاكرةِ الأمَّةِ كثيرٌ من التعاليمِ التي جاء بها ذلك النبيُّ أو يتمُّ التغييرُ للكثيرِ من تلك التعاليمِ وتندثرُ تعاليمُ أخرى، وحينذاك تُصبحُ تلك النبوَّةُ مجرَّدَ قضيةٍ تاريخيَّةٍ ذاتِ معالمَ غائمةٍ وباهتةٍ، فلا يُعرفُ عن تلك النبوَّةِ سوى بعضِ الشعارات السطحيَّةِ غيرِ القابلةِ للكشفِ عن محتواها وحدودِها وتفاصيلِها، فليس ثمة من كتابٍ يكونُ مرجعًا لتلك الأمةِ ويحملُ تعاليمَ تلك النبوَّةِ التي رحلتْ، وليس ثمةَ من قيِّمٍ يملكُ المؤهلاتِ التي تجعلُه قادراً على تحمُّلِ أعباءِ تلك الرسالةِ التي رحلَ النبيُّ عنها، حينذاكَ يكونُ من المعقولِ جداً بل من المحتَّمِ بمقتضى العنايةِ الإلهيَّةِ أنْ تتجدَّدَ النبوَّةُ، لأنَّ النبوَّةَ التي قد سلَفتْ أصبحتْ من التاريخ ولم تعُدْ سوى شعارٍ ليستْ له مضامينُ واضحةٌ، لذلك جرَتْ سُنةُ اللهِ تعالى في عبادِه تجديدَ النبوَّةِ في مثلِ هذا الفرض.
هذا هو المبرِّرُ الثاني لتجدُّدِ النبوَّات وهو أكثرُ المبرِّرات اقتضاءً بحسب الظاهر لتجدُّدِ النبوَّات كما يتبيَّن ذلك من ملاحظةِ الآياتِ المباركات التي وردتْ في القرآنِ الكريم.
فعندنا أكثرُ من مائةٍ وأربعٍ وعشرينَ ألف نبيٍّ كما ورد في الروايات، فأيُّ شيءٍ نعرفُ عن هؤلاءِ الأنبياءِ الكِرام؟ ما هي الأقوالُ التي تُؤثَرُ عنهم؟ وماهي التشريعاتُ التي جاؤوا بها لأممِهم؟ وأيُّ شيءٍ كان سلوكَهم، وأينَ هي كتبُهم، وما هي إرشاداتُهم ومواعظُهم، وكيف كانت سيَرُهم وتأريخُهم؟ كلُّ ذلك نجهلُه عنهم، بل حتى أسماءَهم لا نعرفُها، ولولا أنَّ القرآنَ الكريم ذكر عدداً من أسماءِ الأنبياءِ لكنَّا نجهلُها أيضاً، فحيثُ كان الأمرُ كذلك فإنَّ من غيرِ الممكنِ أنْ يحتجَّ اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادِه لمجرَّد انَّه بعثَ في غابرِ الزمانِ أنبياءَ لا يعرفُ الناسُ سوى النَزْرِ اليسيرِ عنهم، فحتى أنبياءَ أولي العزم والأنبياءَ الذين كثُر ذكرُهم في القرآن لا نعرف عنهم سوى اليسير من الآثارِ التي لا يتشكَّلُ من مجموعِها دينٌ متكاملُ الأبعاد، فتراثُ الأنبياءِ الروحي وتراثُهم التشريعي والعقائدي وتعاليمُهم ونصائحُهم وإرشاداتُهم وكتبُهم وسيرُهم الذاتيَّةُ كلُّها مجهولةٌ عندنا، تُلاحظون مثلاً أنَّ القرآن تحدَّثَ عن نبيِّ الله شعيب(ع) فذكر أنَّ اللهَ تعالى قد نجَّاه بعد أن دمَّرَ قومَه ثم بقيَ شعيبٌ ردْحَاً من الزمن بعد هلاكِ قومِه لكنَّنا لا ندري ماذا كان يصنعُ وما هو التراثُ الي خلَّفه من بعده، وكذلك هو شأنُ نبيِّ اللهِ صالحٍ (ع) خرج من المدينةِ التي بُعثَ إليها قبل أن يٌبادَ أهلُها، ثم لا ندري أينَ ذهب، وهكذا هو شأنُ الكثيرِ من الأنبياءِ الذين وردتْ أسماؤهم في القرآنِ الكريم لا نعرفُ عنهم ما يصلحُ لأنْ يتشكَّلَ منه دينٌ قابلٌ لأنْ تتَّبعه الأممُ المتعاقبةُ.
فأكثرُ الأديان حضورًا في زمانِنا من حيثُ عدد المعتنقينَ له ومن حيثُ المساحة الجغرافية التي يشغلُها هو الدينُ المسيحي، فلو تفحَّصنا التراثَ التشريعي لهذا الدين وتراثَه العقائدي وتراثَه القِيمي فإنَّه لن نجدَ فيه ما يُصحِّحُ اعتبارَه ديناً كاملاً، فالسيِّدُ المسيحُ خلَّف كتاباً سماويَّاً أسمُه الانجيل، فأينَ هو هذا الانجيل؟ لا أحد يملكُ جواباً لهذا السؤال، فالسيِّدُ المسيحُ بعد أنْ قُتل أو رُفع إلى السماء -كما نحنُ نعتقد - ضاعَ الانجيلُ، فأولُ نسخةٍ لكتابِ الانجيلِ كُتبتْ كانت بعدَ مائةِ سنةٍ من رحيلِ السيِّدِ المسيح (ع)، كتبها بولسُ الأول من صياغتِه، ثم كُتبتْ بعدها أناجيلُ أخرى متعدِّدة لا نعرفُ أيَّاً منها هو الإنجيلَ الواقعي الذي نزلَ على نبيِّ اللهِ عيسى (ع)، هل هو انجيلُ لوقا أو هو انجيلُ متَّى أو هو انجيلُ يُوحنَّا أو هو انجيلُ (برنابا) أو غيرُها من الأناجيلِ غيرِ المعتَرَفِ بها من قِبَلِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّة، وكلُّ انجيلٍ من هذه الأناجيلِ يدَّعي واضعُه انَّه الإنجيلُ الذي جاءَ به السيدُ المسيحُ، وكلُّ هذه الأناجيلِ كُتبت بعد ما يزيدُ على المائةِ عامٍ من رحيلِ السيِّدِ المسيح (ع)، ثمَّ ما هي المضامينُ التي تحتوي عليها هذه الاناجيل؟ هل هي مشتملةٌ على التشريعاتِ والتعاليمِ والمعارفِ الإلهيَّة التي جاء بها السيُّد المسيحُ؟ ليس الأمرُ كذلك، فأكثرُ مضامينَ هذه الأناجيلِ الأربعةِ -بما يقرب من نسبة التسعين في المائة- تتحدَّثُ عن السيرةِ الذاتيَّةِ للسيِّدِ المسيح، إذن أين هي التعاليمُ التي جاء بها السيِّدُ المسيحُ؟ وأينَ هي التشريعاتُ والمعارفُ التي صدعَ بها السيِّدُ المسيحُ فيما يزيدُ على الثلاثةِ عقود؟ كلُّ ذلك لن تجدوه في الأناجيل المذكورة، فالمدوَّنُ في الأناجيل الأربعة الموجودة والمكتوبة بأيدي تلامذةِ السيِّد المسيح أو من جاء بعدَهم لا يعدو في غالبُه البيانَ لسيرةِ السيدِ المسيح الذاتيَّة، على أنَّ ما كُتب فيها من سيرتِه أغفلَ الكثيرَ من جوانبِ وأبعادِ شخصيَّةِ السيدِ المسيحِ، فالواضحُ من ملاحظةِ هذه الأناجيل أنَّها تركِّزُ على الجانبِ الإعجازي في شخصيِّة السيد المسيح، وأن السيدَ المسيحَ مشى على الماءِ وأنَّ السيدَ المسيح فعل كذا من الخوارق، والحال أننا نحتاجُ من سيرةِ السيدِ المسيح مضافا لذلك إلى التعرفِ على ماذا كان يقولُ وما هي التشريعاتُ التي جاء بها؟ وما هي المعارف الإلهيَّة التي أصَّل لها؟ وكيف كان يتعاطى مع القضايا التي يُصادفها؟ وكيف كان يعالجُها؟ وكيف كان يربِّي تلامذتَه؟ وما هي نصائحُه وما هي إرشاداتُه كلُّ ذلك أو أكثرُه مهمَلٌ في الأناجيل المذكورة، إذن ثمة فراغاتٌ كبيرة وكثيرة نشأت عن رحيل السيِّد المسيح، حيثُ لا يمكنُ إلا أن تُملَئ هذه الفراغاتُ بأيدٍ بشريَّة إذا أريدُ للدينِ المسيحي أنْ يتكاملَ، ولهذا امتزجَ الدينُ المسيحي برؤىً وأفكارٍ بشريَّة بعد أنْ كانَ ديناً إلهيَّاً محضاً.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ المسيحيَّة بعد رحيلِ السيِّدِ المسيحِ بقيتْ ضامرةً في الوسطِ اليهودي، لأنَّ السيدَ المسيحَ إنما بُعث في الوسطِ اليهودي، كما ذكرنا، فبقيتْ المسيحيَّةُ مخبوءةً في ضمائرِ جماعاتٍ من الناس ومن الحواريين، وكانتْ في نفوس كثيرٍ منهم بمستوىً باهت لعدم استيعابِهم التامِّ لما جاء به السيِّدُ المسيح، على أنَّ خوفَهم وتشتُّتَهم واضطهادَهم من قِبلِ اليهود جعلهم يكتمونَ كثيراً ممَّا كانوا يحملونَه من تعاليمَ السيد المسيح، فلم يكونوا بمستوى حملِ أعباءِ الرسالة، التي جاء بها السيدُ المسيح، كانوا يخافونَ من اليهود، فاليهودُ قتلوا السيدَ المسيح كما يزعمون، واليهودُ اتَّهموا السيدَ المسيحَ في أمِّه، واتَّهموا زكريا وقتلوه شرَّ قتلةٍ، وقتلوا يحيى (ع)، كانوا يتتبعون الحواريينَ وتلامذةَ السيدِ المسيح ويقتلونَهم ويضطهدونَهم، فتبعثرتْ تعاليمُ السيدِ المسيح وأختفى كتابُ السيدِ المسيح، فالإنجيلُ كان قد اختفى باختفاءِ السيدِ المسيح، كما يؤكِّدُ ذلك المسيحيونَ فضلاً عن اليهود، وبقوا ثلاثةَ قرونٍ ليس لهم كيانٌ وكانت المسيحيةُ مجرَّدَ أفكارٍ يحملُها مجموعةٌ من الناس إلى عام 305 بعد ولادة السيِّد المسيح حينذاك استطاعَ المسيحيونَ أن يُلملموا شملَهم ويُقنعوا الإمبراطورَ قسطنطينَ بالتنصُّر وفعلاً دخل قسطنطينُ الملِكُ في الديانةِ النصرانيَّة، ومنها بدأ للنصارى كيانٌ ودخلتْ الإمبراطورية الرومانيَّةُ في الدينِ المسيحي فقويت شوكتُهم، إلا انَّه ورغم أنَّ المسيحيينَ وبعد ثلاثةِ قرونٍ من التبعثرِ السياسي والتبعثرِ العقائدي والتبعثرِ الروحي والفكري بعد ثلاثة قرون من هذا التبعثرِ أصبح لهم كيانٌ وهو الإمبراطوريَّةُ الرومانيَّة بعد أنْ دخل الملكُ قسطنطينُ في الدينِ النصراني، لكنَّ الرومانَ كان عهدُها بالوثنيةِ وثيقاً، إذ كان أغلبُ المجتمعِ الروماني يعتنقُ الدينَ الوثني والذي آمنَ بالنصرانيةِ هو قسطنطينُ ثم استطاع أنْ ينشرَ وبواسطة نفوذِه الدينَ النصراني في الوسطِ الروماني ولكنَّه مع ذلك بقيتْ شوكةُ الحزبِ الوثني قويةً جداً وخشيَ كما يقول الكاتب الأمريكي (دْرابَر) في كتابِ الصراع بين الدينِ والعلم يقولُ: "إنَّ قسطنطينَ وبعد أنْ اعتنقَ الدينَ النصرانيَّ وجدَ إنَّه من الصعبِ التوفيقُ بينَ مسايسةِ الحزبِ النصراني والحزبِ الوثني، ولم يمكن إلا أنْ يعتنقَ واحداً منهما ثم رأى أنَّ اعتناقَ المذهبِ أو الدينِ النصراني سوفَ يُنهي سلطانَه وملكَه وذلك بقوة الدينِ الوثني في المجتمع الروماني، من هنا وللتحفُّظ ِعلى ملكِه وسلطانِه وإمبراطوريتِه رأى من المناسبِ أن يُمازجَ في التشريعِ وفي النفوذِ بين الحزبِ النصراني والوثني"، لذلك يقولُ هذا الكاتب: "إنَّ الدينَ المسيحي امتزجَ بالرؤى والأفكارِ والتشريعاتِ الوثنيَّة"، وانعكاساتُ هذا الامتزاج بقيتْ إلى يومِنا هذا، فمن جهةٍ كان الدينُ النصراني غيرَ قادرٍ على تغطيةِ كلِّ الفراغاتِ التي نشأتْ نتيجةَ التبعثرِ الذي أشار له هذا الكاتب، ومن جهةٍ أُخرى هو إصرارُهم على أنْ يكونَ للدينِ النصراني كيانٌ وليس من وسيلةٍ إلا أنْ يمزجوا هذا الدين بتعاليمَ بشرية.
إذن نؤكد في نهاية هذه المثال على أنَّ تراثَ الدينِ المسيحي قد أندثر فلا كتابَ موثَّقاً يُؤثرُ عن هذا الدينِ ولا تشريع، وما نعرفُه وما يعرفُه العالمُ عن السيدِ المسيح قليلٌ جداً، وهذا ما يُبرِّرُ تجدُّدُ النبوات. واذا صرفنا الحديثَ إلى الإسلامِ نجدُ انه لا يعاني من هذه الإشكاليَّة، فتراثُ الإسلامِ العقائديِّ والتشريعيِّ والروحيِّ والأخلاقيِّ والسياسيِّ محفوظ في معظمِه وبأدقِّ التفاصيلِ، فلا يكادُ يشذُّ منه شيءٌ إلا ونحن نعرفُه، فكتابُ هذا الدينِ لم تَمسُّه الأيادي الأثيمةُ فلم يستطعْ من أحدٍ تحريفَه بل ظلَّ محفوظاً بحفظ اللهِ مطهراً عن كلِّ تحريف: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(13).
نستكملُ الحديثَ فيما بعدُ إنْ شاء اللهُ تعالى.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(14).
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
6 من ربيع الأول 1437هـ - الموافق 18 ديسمبر 2015م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- سورة الأحزاب / 40.
2- سورة الأعراف / 85.
3- سورة الأعراف / 73.
4- سورة هود / 50.
5- سورة هود / 82.
6- سورة الشمس / 14.
7- سورة الأعراف / 88.
8- سورة الأنبياء / 107.
9- سورة الفرقان / 1.
10- سورة سبأ / 28.
11- سورة الأنعام / 19.
12- سورة آل عمران / 85.
13- سورة الحجر / 9.
14- سورة النصر.