تجدُّدُ النبوَّةِ والنبوةُ الخاتمة (3)
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ
بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ شكراً لنعمائِه، واستدعاءً لمزيدِه، واستجلاباً لرزقِه، واستخلاصاً لهُ وبهِ دون غيرِه، وعياذاً بهِ من كُفرانِه والإلحادِ في عظمتِه وكبريائِه، حمدَ مَن علِم أنَّ ما به من نعمةٍ فمن عندِ ربِّهِ، وما مسَّهُ من عقوبةٍ فبسوءِ جنايةِ يدِه، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ ونفسي بِتَقْوَى اللَّهِ، واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، ولَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ، وإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ، فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ، واعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ، وانْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ.
قال اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيدِ: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾(1).
كنَّا قد ذكرنا فيما سبقَ المبرِّرَ الثاني لتجدِّدِ النبوَّاتِ، وهو اندثارُ آثارِ وتُراثِ النبوَّةِ السابقة بحيثُ لا يبقى للناس منها ما يصحُّ أن يتشكَّلَ منه دينًا متكاملًاً قادرًا على التعاطي مع الحاجاتِ الإنسانيَّةِ بمختلفِ أبعادِها، فحينئذٍ يتحتَّمُ بعثُ نبوَّةٍ جديدةٍ لغرضِ النهوضِ بمستوى الإنسانِ إلى حيثُ الهدفِ السامي الذي من أجله خُلق الإنسانُ، وحتى لا يكونَ للناسِ على اللهِ حجَّةٌ، إذ أنَّه إذا أرادَ اللهُ تعالى أن يحتجَّ على العبادِ بأنَّه قد بعثَ لهم أنبياءَ فإنَّ للناسِ أنْ يعتذروا بالقولِ إنَّ الأنبياء الذين بعثتَهم للأمم الغابرة أو في المجتمعاتِ والمُدنِ الأخرى لم يصلْنا من تراثِهم شيئًا يُذكر، فلم نقفْ على كتبِهم ولم نتعرَّفْ على تشريعِهم ولا على إرشاداتِهم وتعاليمِهم، فحينئذٍ لا تكونُ لله الحجَّةُ البالغةُ بل يكونُ للناسِ على اللهِ تعالى الحجَّةُ والحال انَّ لله الحجَّةَ البالغةَ على خلقِه وعبادِه، كما قال تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(2) ومن هنا تقتضي الضرورةُ بعثَ نبيٌّ آخر ليتعرَّفَ الناسُ بواسطته على الدينِ الذي أرادَ اللهُ تعالى لعبادِه أن يتديَّنوا به، هذا ما ذكرناه فيما سبق.
وذكرنا إنَّ أوسع الديانات انتشارًا في العالمِ هو الدينُ المسيحي كما هو واضح، ورغم ذلك وعندما نبحثُ في تراثِ هذا الدين نجد أنْ هذا الدين وتراثَه وكتابَه وتعاليمَه قد اندثر أكثرُها ولم تبقَ إلا مجموعةٌ من التعاليمِ المبعثرةِ وغيرِ الموثَّقِ أكثرها، فحينئذٍ إنْ لم يبعثِ اللهُ عزَّ وجل نبيًاً بعد نبيِّ الله عيسى (ع) فإنَّ معنى ذلك أنَّ حجَّةَ الله قد انقطعتْ وحاشى الله أنْ تنقطعَ حجَّتُه.
وقلنا إنَّ هذا المبرِّرَ الذي ينشأُ عنه تجدًّدُ النبوَّةِ ليس موجودًا في النبوَّةِ الخاتِمة، فإذا كان المبرِّرُ لتجدُّدِ النبوَّةِ هو اندثارُ وضياعُ تراثِ النبوَّةِ السابقةِ فإنَّ تراثَ الرسالةِ الإسلاميَّة وتراثِ نبيِّ الإسلامِ غيرُ مبتلٍ بهذه الإشكاليَّة، فالتراثُ الفكري والتراثُ العقيدي والفقهي وسيرةُ نبيِّ الإسلام بكلِّ تفاصيلِها ودقائقِها، كلُّ ذلك قد وصلَ إلينا موثَّقاً في معظمِه، والمقدارُ غيرُ الموثَّقِ وغيرُ المكتنِفِ بالقرائنِ الموجبةِ للوثوقِ بصدورِه لا يمسُّ جوهرَ الدين.
فالكتابُ الذي أُنزلَ على النبيِّ الكريم (ص) وهو القرآنُ الكريمُ كتابٌ لم ولن تطالُه يدُ التحريف، فهو لا يأتيه الباطلُ من بين يديِه ولا من خلفِه، وقد تولَّى اللهُ عزّ وجلّ حفظَه وحياطَتَه، ولهذا ظلَّ محفوظًا رغم أنَّ دواعيَ تحريفِه متظافرةٌ، ورغم أنَّ أعداءَ الإسلامِ والذين يُريدون الكيدَ به والاندثارَ له أو التشويشَ عليه كثيرون، ورغم تواطئِهم واجتماعِهم على النيلِ من الإسلام مع ما يمتلكونه من القدراتِ والإمكانيَّات الهائلةِ، رغم كلِّ ذلك ورغمَ الجهودِ المضنيةِ والجبارةِ التي بُذلتْ في هذا السبيل والتي امتدَّت إلى أربعةَ عشرَ قرنًا بقي القرآنُ محفوظًا من التحريفِ فلم تُغيَّرْ منه آيةٌ واحدة.
ومن جانبٍ آخرَ فسنةُ الرسولِ (ص) ظلَّت محفوظةً في معظمها من طريق أهلِ البيتِ (ع) والذين دأبوا على امتدادِ ثلاثةِ قرونٍ من حينِ وفاة الرسول (ص) على حماية السنَّةِ الشريفة من التحريف والوضع، فهم في الوقت الذي يُمارسونَ فيه دورَ البيانِ والتوضيحِ لسنَّةِ الرسول (ص) كانوا يُمارسونَ أيضًا دورَ الصيانةِ والحمايةِ لها من التحريف وهي مدوَّنة عندهم بتمامِ تفاصيلها حتى أرش الخدش(3) كما أفاد الإمام الصادق (ع) وكانت بإملاء رسول الله نفسه وخطِّ عليٍّ (ع)، وقد وصلَنا من السنَّةِ الشريفة عن طريقِ أهلِ البيتِ (ع) والثقاةِ من الصحابةِ والتابعينَ عشراتُ الآلافِ من الرواياتِ التي استعرضتْ تمامَ شئونِ الإنسانِ وما يرتبطُ بذلك من قيمٍ وتشريعٍ وكلِّ ما يحتاجُه الانسانُ من أجل كمالِه الشخصيِّ و الاجتماعي، فلم يندثرْ من تراثِ الإسلامِ ما يُمكنُ أنْ يؤثِّرَ على أبديَّةِ هذا الدينِ واستمرارِه، فهذه كتبُنا كتبُ الحديثِ تشهدُ بذلك، هذا بالإضافةِ إلى أنَّ تأريخَ الإسلامِ خصوصاً ما يتصل منه بصدر الدعوة قد وصلَنا موثقًا ومعتبراً في الكثيرِ الكثيرِ من تفاصيلِه، فسيرةُ الرسولِ (ص) أقوالُه أفعالُه تقريراتُه وعلاقاته الشخصيَّة وعلاقاتُه الاجتماعية حروبه ومهادناته، وأدقُّ ما يُمكنُ أنْ يتصورَه الباحث فإنَّه قد وصلَنا عن الرسولِ الكريم (ص)، فنحنُ نعرفُ نسبَه أجدادَه وأمهاتِه ونعرفُ زوجاتِه وأبناءَه وبناتِه ونعرفُ من أينَ بدأ ومن أينَ أنطلق وإلى أينَ وصل وما هي حروبه وأسفاره ومع من تعاهد، وماذا كان يقولُ ويفعلُ وكيفَ كان يعالجُ القضايا التي كانت تصادفُه سواءٍ الخطيرُ منها أو الحقيرُ ونعرف كيف مارس دوره الرسالي وما هي نشاطاته كل ذلك نعرفه، وقد وصل إلينا بأدقِّ التفاصيل.
وأما من جهةِ الفقه والتراثُ التشريعي فما وصلَ إلينا يربو على عشراتِ الآلافِ من الرواياتِ التي تصدَّت لتبيانِ الأحكامِ الفقهيةِ الفرعيَّة من الطهارةِ إلى الدياتِ، فقد استوعبت جميعَ أبعادِ الحياةِ الخاصَّةِ والعامَّةِ في العباداتِ وفي المعاملاتِ وفي العلاقاتِ وأحكامِ الحرب والسلمِ وفي أحكامِ الاسرةِ والاحوالِ الشخصيَّةِ وفي كلِّ شأنٍ من شئون الحياة، فكلُّ ذلك قد وصَلَنا عن نبيِّ الإسلام (ص) من طريقِ أهلِ بيتِه (ع)، فالعلَّامة الحلِّيُّ -مثلاً- قبل أكثرِ من ثمانيةِ قرون كان قد صنَّف كتاباً في فروع الفقه أسماه المُختلَف استعرض فيه أربعينَ ألفَ مسألةٍ في مختلفِ جوانبِ الحياة، وذلك قبلَ ثمانيةِ قرون، وهو جهدٌ شخصيٌّ استعرضَ فيه أربعينَ ألف مسالةٍ أستدلَّ عليها بما وصلَ إليه من سنةِ الرسولِ الكريمِ (ص) وأهلِ بيته (ع) هذا التراثُ الضخمُ والواسعُ لا يحظى به دينٌ غيرَ دينِ الإسلام، فما من شاردةٍ ولا ورادة مهما دقَّت إلا وقد تصدَّى الإسلامُ لها ولبيانِ حكمِها بواسطة الرسولِ الكريم (ص) وأهل البيتِ (ع) وقد وصل أكثر ذلك إلينا بأسانيدَ معتبرةٍ إما بنصِّ صريحٍ وخاصٍّ وإما بواسطة العموماتِ والإطلاقاتِ، فقد تصدَّت سنةُ الرسولِ الكريم(ص) لإعطاء عموماتٍ وإطلاقاتٍ وكليَّاتٍ وقواعدَ يمكنُ أن نتعرَّف بواسطتِها على حكم الشريعة في كلِّ واقعةٍ ونازلةٍ، كما أفاد ذلك الإمامُ الصادقُ (ع) فيما رُوي عنه قال: "إنَّما علينا أنْ نُلقيَ إليكم الأصولَ، وعليكم أنْ تُفرِّعوا"(4) وكذلك ورد عن الإمام الرضا (ع) قال: "علينا إلقاءُ الأصولِ وعليكم التفريعُ"(5). إذن فالمبرِّرُ الثاني لتجدُّدِ النبوَّاتِ معدومٌ في النبوَّةِ الخاتِمةِ.
وأما المبرِّرُ الثالثُ: فهو استعدادُ النبيِّ المبعوثِ وقابليَّاتُه، فعندما تكونُ قابليَّاتُ النبيِّ المبعوثِ محدودةً فلا بدَّ وأنْ تكونَ رسالتُه محدودةً بحدودِ قابلياتِه وملكاتِه، إذ لا يمكنُ أن يُكلَّفَ نبيٌّ برسالةٍ هي أوسعُ وأرقى من مستوى استعدادِه وملكاته، فمِن غيرِ المُستطاعِ أنْ يَتحمَّلَ أعباءَ رسالةٍ تفوقُ طاقاتِه وقابلياتِه، وعليه فإذا كانت قابلياتُ النبيِّ محدودةً بحدٍّ وترتَّبَ على ذلك محدوديةُ الرسالةِ التي كُلِّفَ بحملِ أعبائها فعندئذٍ يتعيَّنُ بعثُ نبوَّةٍ أخرى في فرضِ الحاجةِ إلى رسالةٍ أوسعِ نطاقاً من تلك الرسالةِ المحدودةِ التي كانت متناسبةً مع ظرفِها، إذ من غيرِ المعقولِ أن تكونَ النبوَّةُ أوسعَ من مستوى قابلياتِ النبيِّ كما إنَّه ليس من المعقولِ أنْ تتحجَّمَ الرسالةُ بحجمِ قابلياتِ النبيِّ، رغم انَّ الحاجةَ مقتضيةٌ لنبوَّةٍ تفوقُ في مستواها قابليَّاتُ ذلك النبيِّ ولذلك يتعيَّنُ بعثُ نبيٍّ آخر تتناسبُ قابليتُه مع مستوى سعةِ الرسالةِ والنبوَّةِ التي اقتضتِ الحاجةُ لبعثِها.
إيضاح أكثر:
وببيانٍ آخر: إنَّ الأنبياء وإنْ كانوا يشتركونَ في أنَّهم يُوحى إليهم من عندِ الله تعالى ولكنَّهم يتفاوتونَ في درجاتِ الكمالِ وفي مستوى الاستيعابِ، ويتفاوتونَ في قابلياتِهم واستعداداتِهم وفي ملكاتِهم وفي قدرتِهم على التحمُّل، وعليه يتحتَّمُ أن يكون مستوى سعةِ الرسالةِ والنبوَّةِ متناسباً والمستوى الذي يحظي به مَن يراد تكليفُه بتبليغِ تلك الرسالة.
والذي يؤكِّدُ على تفاوتِ الأنبياء (ع) في مستوى القابليَّةِ والاستعدادِ هو القرآنُ الكريمُ يقولُ الله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾(6) وقال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾(7) فهناك نبيٌّ لا تبلغُ قابلياتُه لأعلى من أنْ يُبعثَ إلى قريةٍ، فلذلك لا يبعثُ مثلُه لأكثرَ من قريةٍ، وهناك نبيٌّ يُبعثُ إلى عائلتِه فحسب، ونبيٌّ آخرُ يُبعثُ إلى قبيلتِه، وآخرُ يُبعثُ إلى مدينةٍ، وثمة نبيٌّ يُبعثُ لكلِّ أهل زمانِه دون الأزمنةِ التي تعقبُه، وكلُّ ذلك ينشأُ عن مستوى استعدادِ وقابليَّاتِ ذلك النبيِّ، فإذا كانت قابلياتُه لا ترقى لأكثرَ من أنْ يُكَلَّفُ بنبوَّةٍ أوسعَ من نطاقِ مدينتِه مثلاً فعندئذٍ لن يُكلَّف بأكثرَ من ذلك، وعليه فإذا كانت النبوَّةُ محدودةً زمانًا ومكانًا بمحدوديَّةِ استعدادِ النبيِّ فلا بَّد من وجود نبوَّةٍ أخرى خارج تلك الحدود الزمانية والمكانية وذلك لنفس السببِ الذي ذكرناه سابقًا وهو أنَّ اللهَ تعالى يريد لعبادِه الهدايةِ التكامليَّةِ كما يريدُ أنْ لا تكونَ للناسِ عليه من حجَّةٍ، فالرسالةُ التي هي محدودةٌ بزمانٍ وبمكانٍ لا يمكن أن تكونَ حجَّةً في خارجِ حدودِ ذلك الزمانِ والمكانِ.
ولتأكيد ذلك نشيرُ إلى عددٍ من النماذج:
النموذج الأوَّل:
يونسُ بن متَّى (ع) كان نبيَّاً من أنبياءِ الله، وكان معصوماً كما هو شأنُ الأنبياء لكنَّ مقتضى استعداداتِه لا ترقى لأنْ يُبعثَ لأكثرَ من مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ قليلاً، والقرأن أفاد بأن لم يبعث لأكثر من هذا العدد، لماذا لم يُبعثْ لأكثرَ من مائةِ ألف ألا يُوجدُ في الدنيا آنذاك إلا مائةُ ألف؟، بالطبع كان في الدنيا أضعافُ هذا العدد ولكنَّه (ع) بُعثَ إلى مائةِ ألف، لأنَّ ملكاتِه واستعداداتِه لم تكنْ تتسعُ ظاهراً لتكليفه بما يزيدُ على هذا العددِ المحدودِ، ورغم محدوديَّة العدد الذي بُعث إليه فإنه احتاجَ قبله إلى تأهيلٍ من الله تعالى ليتمكَّنَ من تحمُّلِ هذه المسئوليَّةِ، فهو حينما بُعثَ إليهم ودعاهم مراراً فلم يستجيبوا أصابه اليأسُ منهم فخرجَ معرضاً عنهم وصعدَ سفينةً قُدِّر له أن تكون تلك السفينةُ غيرَ مؤهلةٍ لاستيعابه لكونها مليئةً بالناسِ فرُميَ به بعد الاقتراع في عرْض البحرِ فالتقمه الحوتُ فكان في جوفِه من المسبِّحين فألقاهُ الحوتُ خارجَ البحر، ثم بعثَه اللهُ تعالى لمائةِ ألفٍ بعد هذا التمحيصِ العسير قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ أَبَقَ إلى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ / فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ / فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ / فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ / لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ / فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ / وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ / وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾(8).
النموذج الثاني:
هو عزيرٌ الذي حكى عنه القرآنُ انَّه مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ، كان عزيرٌ (ع) نبيَّاً من أنبياء الله أخبر القرآن عنه بقوله: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾(9) فلم يتصوَّر كيف يبعثُ اللهُ الحياةَ في هذه القرية بعد أنْ أُبيدَ أهلُها جميعًا وتحوَّلَ عمرانُها إلى خَراب، قال: ﴿أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾(10) ﴿قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إلى حِمَارِكَ﴾(11) إذن كان عزيرٌ(ع) يحتاجُ إلى مشهدٍ حسِّيٍّ حتى يتأهلَ لتصوِّرِ حقيقةِ البعث، وأما الرسولُ الكريم (ص) فلم يكن بهذا المستوى، كان من اليقينِ بحيثُ أنَ تلميذَه عليَّ بن أبي طالبٍ (ع) كان يقولُ في المستفيض عنه: "لو كُشفَ ليَ الغطاءُ ما ازددتُ يقينًا"(12).
النموذج الثالث:
نبيُّ اللهِ موسى (ع) كان من أنبياء أولي العزم امتحنَه اللهُ عزَّ وجل وأراد أنْ يزيدَ في علمِه فما علَّمه إلا بواسطةِ عبدٍ من عبادِه، وصفه بقولِه جلَّ وعلا: ﴿عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾(13) إذن كان هناك من هو أعلمُ من نبيِّ الله موسى (ع) في زمانه، قال الله تعالى على لسان موسى (ع) مخاطباً ذلك العبدَ الصالحَ: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾(14) ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا / وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾(15) فهو (ع) لم يصبرْ بل استوحش مما فعل الخضر ونسب ما فعلَه الخضرِ (ع) إلى الخطأ، فقال: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾(16).
وأما نبيُّنا محمَّدٌ (ص) فلم يكنْ أولاً في تحمُّله لأذى وإعراضِ قومِه كما كان يونسُ (ع) بل وكما كان سائرُ الأنبياء حتى ورد عنه من طرقِ الفريقينِ انَّه كان يقولُ: "ما أُوذِيَ نبيٌّ أو أحدٌ مِثلَ ما أُوذيتُ فِي اللهِ"(17) فكانت تُلقى عليه القاذوراتُ وبقايا الذبائح وهو يُصلِّي وقد يضعَ أحدُهم رجلَه على رقبته وهو ساجدٌ حتى تكاد روحُه أن تَزهقَ، وقد حُوصرَ وعليٌّ وبنو هاشمٍ في شِعبِ أبي طالبٍ ثلاثَ سنواتٍ حتى وضعَ حجرَ المجاعةِ على بطنِه، وورد انَّه كان يقول بالمعنى: "لقد أوذيتُ في الله، وأُخفت في الله، ولقد أتتْ عليَّ ثلاثونَ من بين يومٍ وليلةٍ وما لي طعامٌ يأكلُه ذو كبدٍ إلا شيءٌ يُواريه الإبط"(18) فلم يدعُ على قومِه بالإبادة بل ورد عن الإمام الصادقِ (ع) انَّه حِينَ شُجَّ وجهُه الشريف يومَ أحد وأدموا فاه وأُصيبَ مِرفقُه بقلاعةٍ قيل له يا رسولَ الله ألا تدعو عليهم؟ فقال: (اللهم اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون) (19) لاحظوا الفارقَ بين الحالتين، فحين يشتدُّ عناءُ الأنبياءِ من قسوةِ الأممِ وجهلِهم وصلافتِهم، يدعونَ على أممِهم بالإبادة وأما الرسولُ محمد (ص) فيذهبُ إلى الطائف فيدعوا الناس فيهزئون به ويُغرون صبيانَهم وسفهاءَهم فيقعدون له صفَّين يسخرون منه ويشتمونَه ويقذفونَه بالحجارة، فكان لا يرفعُ رجليه ولا يضعُهما إلا أرضخوهما بالحجارةِ حتى أدموا رجليه (ص) واختضبت نعلاه بالدماءِ فما استراح منهم حتى دخلَ حائطاً أي بستان وهناك استظلَّ عند شجرةٍ وإلى جانبه رفيقُ دربِه عليُّ بن أبي طالب (ع) فجلس يناجي ربَّه، فلم يدعو عليهم بأن يُبادوا ولو فعل لأبيدوا عن آخرهم بل أخذ يناجي ربَّه بقوله: "اللهمَّ إنِّي أشكو إليك ضعفَ قوتي، وقِلَّةَ حِيلتي، وهَوانِي على الناس، أنتَ أرحمُ الراحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين، وأنتَ ربِّي إلى مَن تكلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمُني أو إلى عدوٍّ ملَّكتَه أمري؟ إنْ لم يكنْ بكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي"(20) لاحظوا البَونَ الشاسعَ بين ملكاتِ الأنبياء، فكلُّهم أولياء وكلُّهم صلحاء وكلُّهم بلغوا مراتبَ عاليةً من الكمال ولكن لم يبلغوا ما بلَغَه نبيُّنا الكريم (ص) فقد حظيَ بأعلى درجاتِ الكمالِ، ولهذا مدحَه القرآنُ بما لم يمدحْ به سائرَ الأنبياء مجتمعين فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(21).
وأما من جهةِ تميُّزه في العلمِ والمعرفةِ باللهِ تعالى وتفوُّقه في قابليَّاته واستعدادِه الذهنيِّ والروحيِّ فيكفي للإذعانِ بذلك الوقوفُ على مثلِ قولِه تعالى في سورة النجم يصف نبيَّه الكريم (ص): ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى / ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى / وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى / ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى / فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى / فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾(22) إلى قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى / لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(23) وكذلك قولِه تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾(24) فلم يطلعْ من أحدٍ على الملكوتِ الأعلى بتمامِ تفاصيلِه ولم تنكشفِ الحجُبُ لواحدٍ من رسُلِ اللهِ وأنبيائِه وملائكتِه كما انكشفتْ لرسولِ الله (ص) فأيُّ أحدٍ يبلغُ هذا المستوى من الكمالِ الروحي الذي بلغَه رسولُ الله، كان في الدنيا وكأنَّه في الآخرة، وكان الملكوتُ الأعلى أمام ناظريه حتى إنَّه تنامُ عينُه ولا ينامُ قلبُه كما ثبتَ ذلك بالأسانيدِ المستفيضةِ والمعتبرة.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(25)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
13 من ربيع الأوَّل 1437هـ - الموافق 25 ديسمبر 2015م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- سورة الأحزاب / 40.
2- سورة الأنعام / 149.
3- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 59.
4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العامل- ج 27 ص 61.
5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 27 ص 62.
6- سورة البقرة / 253.
7- سورة الإسراء / 55.
8- سورة الصافات / 139-147.
9- سورة البقرة / 259.
10-سورة البقرة / 259.
11- سورة البقرة / 259.
12- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج 1 ص 317.
13- سورة الكهف / 65.
14- سورة الكهف / 66.
15- سورة الكهف / 67-68.
16- سورة الكهف / 74.
17- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 130، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 39 ص 56.
18- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 6 ص 491.
19- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 20 ص 20.
20- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 19 ص 22.
21- سورة القلم / 4.
22- النجم / 5-10.
23- سورة النجم / 17-18.
24- سورة الإسراء / 1.
25- سورة النصر.