النزعة الذكوريَّة في النصِّ الديني (الحلقة الثانية)
طاعة الزوج:
وأمَّا ما ورد من الحثِّ على إطاعة الزوج فذلك أولاً في حدود ما هو مشروع، لأنَّ الروايات أكَّدت أنَّه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وأمَّا ثانياً فالطاعة المفروضة على الزوجة إنَّما هو في حدود ما يتَّصل بشئون الحياة الزوجيَّة، وذلك بحكم قيمومته والتي أوضحنا مبرِّرات جعلها في بحثٍ مستقل، فليس للرجل أنْ يفرض على زوجته اختيار عملٍ معيَّن كما أنَّه ليس له أنْ يفرض عليها أنْ تعمل أو أنْ يفرض عليها عدم العمل إلا أنْ يكون ذلك منافياً للحقوق الزوجيَّة، والأمر كذلك بالنسبة للرجل حيث لا يجوز له الاشتغال بعملٍ يستوجب التفريط في الحقوق الزوجيَّة إلا أن يكون ذلك برضا زوجته.
وأمَّا بالنسبة لعمل المنزل فللزوجة حقُّ الامتناع عن القيام به، وليس للزوج أنْ يفرض عليها الخدمة المنزليَّة سواءً المرتبطة به شخصيَّاً أو المرتبطة بأولاده، فهي ليست مسئولة عن أبسط الخدمات فضلاً عن خطيرها، وإذا ما تجشَّمت ذلك فإنَّما هو إحسان منها.
وأمَّا بالنسبة لأموال الزوجة فهي المعنيَّة بصرفها في أية جهةٍ شـاءت دون أنْ يكـون للزوج حقُّ التدخل في ذلك كما أنَّه ليس لـه سلطانٌ على انتمائها السياسي أو الفكري.
والمتحصَّل أنَّ حقَّ الطاعة للزوج يتحدَّد بحدود الشئون الزوجيَّة والأسرية، فالزوجة يلزمها تمكين نفسها لزوجها متى ما رغب ما لم يكن ثمة مانعٌ شرعي أو تكويني من مرضٍ أو إرهاق أو ما إلى ذلك، كما أنَّه ليس للزوجة البتُّ في أمرٍ يتَّصل بالأولاد دون مراجعة زوجها، فهو المعنيُّ بتربية أولاده وتعليمهم وتمريضهم والقيام على تدبير شئونهم، فيلزمُها مراجعتهُ لو أرادت إبرام أمرٍ يرتبطُ بهم، ولو منعها من ذلك لزمها امتثال منعه، وهكذا فيما يرتبط بالتصرف في بيته وممتلكاته.
وتأكيد الروايات على لزوم الطاعة في حدود ما ذكرناه باعتبار أنَّ الزوجة غالباً ما تكون في بيت زوجها ويكون ما تحت يديها من متاعٍ وأثاث وغيره مملوكاً لزوجها، فلو اتَّفق أنْ كان بيت الزوجيَّة مملوكاً لها فإنَّ لها حقَّ التصرف فيه بأيِّ نحو شاءت دون الحاجة لمراجعته.
ورغم أنَّ للزوج حقَّ الطاعة في حدود ما ذكرناه إلا أنَّ ذلك لا يسوِّغ له الاعتساف والإجحاف، كما لا يبرِّر له التضييق على زوجته، ولو تجاوزت حدود هذا الحق لم يكن له إهانتها وتوبيخها، نعم له أنْ ينصحها ويذكِّرها بحقِّه وإنْ كان الأجدر به التغاضي عن الهفوات وصغائر الأمور كما أكَّدت كلَّ ذلك الرواياتُ الكثيرة، ولو تعدَّت الزوجة على حقوق زوجها وبلغت بذلك مستوى النشوز فإنَّ ثمة مراتب مقرَّرة في الشريعة لمعالجة هذه الحالة فصَّلناها في بحث "ضرب الزوجة".
المرأة شيطان؟!
وأمَّا دعوى أن النصَّ الديني وصف المرأة بالشيطان فهو محضُ افتراء، لأنَّه إنَّما وصف بذلك المرأة الواجدة لمجموعة من الصفات السيئة، ولم يصف مطلق المرأة بالشيطان بل إنَّه أثنى على المرأة الواجدة لبعض الصفات الحميدة بأحسن الثناء ووصف بعض النساء بما وصف به الأنبياء والشهداء كما اتَّضح ذلك مما تقدَّم.
على أنَّ ثمة رجالاً وُصفوا بالشياطين في الخطاب الديني، ووُصف الرجل الواجد لبعض المساوئ بالشيطان، وقد سمَّى القرآن الكريم الذين يقفون في طريق الأنبياء بالشياطين ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾(1).
المرأة فتنة؟!
وأمَّا وصف المرأة في الخطاب الديني بالفتنة فهو لا يُسيء لمقام المرأة، وذلك لأنَّ المراد من أنَّ المرأة فتنة هو أنَّ رغبة الرجل الجامحة في معاشرة المرأة واحدة من أقوى الوسائل التي يعتمدُها الشيطان لفتن الرجل عن دينه وإيقاعه في المعصية، فالخطابُ الديني بصدد تحذير الرجل من الافتتان والوقوع في وحل الرذيلة، وهذا هو معنى ما ورد من أن "النساء حبالة الشيطان"، أي أنَّ عشق الرجل لمواقعة المرأة واحد من أهم الوسائل التي يتوسَّل بها الشيطان لغرض صرف الرجل عن الالتزام بدينه.
وواضحٌ أنَّ ذلك لا يُسيء لمقام المرأة، إذ أنَّ رغبة الرجل في مواقعتها خارجٌ اختيارها، ومن غير الإنصاف أن يُدانَ أحدٌ لمجرد أنَّه واجد لأمرٍ يرغبُ فيه الآخرون فتدعوهم تلك الرغبة لمقارفة كلِّ عظيم لغرض تحصيلها، فالتعبيرُ عن المرأة بأنَّها فتنة كالتعبير عن الغني بأنَّه فتنة الحسود وفتنة الفقير، فكما أنَّه لا غضاضة على الغني أنْ يكون غناه منشأً لأذى الحسود ومنشأً لإغراء الفقير بالسرقة فكذلك لا غضاضة على المرأة في أنْ يكون عشق الرجل لها منشأ لاقترافه الحرام فهو المُدان بذلك وليس المرأة.
هذا وقد وصف القرآن الكريم الأولاد بالفتنة، فهل أنَّ في ذلك إساءة للأولاد؟!، الأمر ليس كذلك بعد أنْ كان المراد من هذا التعبير هو أنَّ حب الإنسان لأولاده قد يدعوه لتجاوز الحدود الشرعية، وقد يُغريه بالقعود عن الالتزام بواجباته التي يتوهَّم منافتها لرعاية الأولاد.
المرأة شرٌ؟!
وبذلك يتبيَّن المنشأ لوصف المرأة بالشرِّ في بعض الروايات، حيث أنَّ مساق الروايات يُعطي بأنَّ المراد من ذلك هو أنَّ المرأة باعتبارها معشوقة الرجل وموضع حاجته الملحَّة كانت سبباً لوقوع كثير من الشرور في الأرض، فكثير من الغارات والقتل والسبي والإعتساف كان لغرض الاستيلاء على الحسناوات من النساء وقضاء الوطر منهنَّ، وليس في ذلك من غضاضة على المرأة، ولا لوم عليها فيما يجترحه الآخرون بسببها، فما هي إلا واحد من ضحايا اعتساف الإنسان وظلمه.
والتعبيرُ عنها بالشرِّ إنَّما هو لمناسبة أنَّ الرغبة في معاشرتها هو الباعث للرجل على ارتكاب العظائم والشرور، فكما أنَّ وصف الأموال بالشرِّ لا يكون ذماً للمال واقعاً وإن كان هو الدافع للسلب والنهب والابتزاز فكذلك لا يكون وصف المرأة بالشرِّ ذماً للمرأة واقعاً، وذلك لأنَّ الرغبة فيها -المنتج لوقوع الظلم- خارجٌ عن اختيارها، وإذا كان ثمة من لومٍ فهو على من يتذرَّع بالظلم والشرور لبلوغ غاياته.
المرأةُ عورة؟!
وأمَّا ما وصف المرأة في بعض الروايات بالعورة التي يجب سترها فهو لا يُسيء لإنسانيَّة المرأة، وذلك لأنَّ الموصوف بالعورة ليس هو المرأة وإنَّما هو جسد المرأة، على الأقل إنَّ ذلك هو المقصود قطعاً من الروايات، هذا أولاً.
وثانياً: إنَّ المراد من هذا التعبير هو أنَّ جمال المرأة لمَّا كان مثاراً لشهوة الرجل فإنَّ تكشُّفها يُغري الرجل بارتكاب الفجور، والذي هو منافٍ لمقاصد الشرايع السماوية.
فالعورةُ هنا بمعنى ما يجب سترُه، فكما أنَّ على الرجل أنْ يستر من جسده ما يُثير شهوة المرأة فكذلك على المرأة سترُ ما يُثير شهوة الرجل، وذلك احتراز عن وقوع الحرام، ولذلك كانت القواعد من النساء معفيَّات من بعض ما يجب على الشابَّات ستره من أجسادهن.
وبملاحظة الروايات يتَّضح أنَّ إطلاق وصف العورة على جسد المرأة إنَّما هو بالنسبة للرجل الأجنبي، ولذلك لا يحرم على المرأة أنْ تتكشَّف أمام امرأةٍ أخرى أو أمام محارمها من الرجال، وهكذا الحال بالنسبة للرجل فمقدار ما يُثير المرأة الأجنبيَّة من جسده يلزمُه ستْرُه، وهو عورة بالنسبة للمرأة الأجنبيَّة.
وأمَّا منشأ إطلاق وصف العورة على معظم جسد المرأة الأجنبية فلأنَّ معظم جسدها مثارٌ لشهوة الرجل خلافاً لجسد الرجل، حيث إنَّ ما يثير منه المرأة الأجنبية هو بعضه، لذلك وصف ذلك البعض بالعورة دون سائر الجسد.
وبذلك يتبيَّن أن تستُّر المرأة عن الناظر الأجنبي إنَّما هو لغرض إكرامها بالدرجة الأولى حتى لا ينظر الآخرون إليها نظرة بهيميَّة، لهذا أكَّدت النصوص على أنَّ نظر الأجنبي إلى جسد المرأة المؤمنة توهينٌ لتلك المؤمنة وإساءة لكرامتها، فالإسلام حريصٌ على أنْ ينظر الآخرون للمرأة حينما يتعاملون معها نظرة الإنسان لأخيه الإنسان، ومِن الواضح أنَّه لا يسع الرجل حين تكون المرأة مبدية لمفاتنها إلا أنْ تشوب نظراته ولحظاته ريبة ورغبة، وهو ما يجعل المرأة واحداً من المناظر البديعة التي يرغب الرجل -على أقل تقدير- في الاستئناس بالنظر إليها، وهو ما يُسيء لإنسانية المرأة والتي أبى الإسلام إلا أن تكون كريمةً كما هو الرجل.
المرأة مكسب الرجل؟!
وأما دعوى أنَّ النصَّ الديني وضع المرأة في مصافِّ المكاسب التي مُنحت للرجل فهي تشير (كما هو مصرح به في متن الدعوى) إلى قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾.
أقول: إن الآية المباركة بصدد تعداد ما يعشقه الإنسان ويصبو إليه ممَّا يجعله منصرفاً عن الغاية التي من أجلها خُلق، فهذه التي ذُكرت في الآية الشريفة هي الدنيا التي يخلدُ إليها الإنسان فيذهل عن آخرته ويتخلَّى عن مسئوليته التي أُنيطت به، وليس معنى عدِّ النساء في ضمن ما يشغل الإنسان عن خالقه هو أنَّ النساء مكسبٌ من المكاسب التي مُنحت للرجل وإنَّما قصدت الآية أنَّ حبَّ النساء واحد من الصوارف التي تصرف الرجل عن مسئولياته الدينيَّة باعتبارها موضع شهوة الرجل.
وهذا لا يعني أنَّها خلقت لذلك، حيث صرَّحت الآيات الكثيرة أنَّ المرأة إنسان خُلقت للغاية التي خلق لها الرجل، وكونها واحداً من مناشئ غفلة الرجل عن دينه لا يعني أنَّها من أجله خُلقت، فكما لا يصح لنا تصنيف الأبناء في ضمن ما خُلق لأجل الإنسان لمجرَّد أنَّهم من وسائل انصرافه عن دينه، فكذلك لا يصحُّ تصنيف النساء في ضمن ما خُلق من أجل الرجل لمجرَّد ذلك.
فالآية بصدد ما يصرف الإنسان عن دينه وخالقه وليست بصدد تعداد ما مُنح للإنسان، ولذلك صُدرت الآية "بزيِّن" (ولم تصدر بخُلق أو مُنح) وكان متعلَّق التزيين حب الشهوات.
وليس مقصود الآية أنَّ المرأة زينة الرجل حتى يقال إنَّها بمثابة الذهب والفضة، وذلك لأنَّ متعلق التزيين هو حبُّ الشهوات، ومعنى ذلك أنَّ الحبَّ والعشق يصرفان الإنسان عن النظرة الواقعيَّة للأشياء، فالذهب والفضة والخيل والأنعام وإن كانت من المظاهر التي يتزيَّن بها الإنسان إلا أنَّ الآية ليست بصدد ما يُزيِّن الإنسان وإنَّما هي بصدد بيان ما يصرف الإنسان عن النظرة الواقعية للأشياء، لأنَّ معنى التزيين هو أنْ يظهر الشيء بمظهر يجتذب الأنظار والنفوس رغم أنَّه لو جُرد عن الزينة لكان الأمر مختلفا، فالآية المباركة تقول إنَّ حبَّ الشهوات الكامن في النفس يُضفي على الأشياء المذكورة حُلَّة توجب غفلة الإنسان عن واقع الأشياء، فهي بذلك تستحثُّ الإنسان على النظر للأشياء بمنظورٍ يناسب الغاية التي من أجلها خلق الإنسان وهي العبودية لله عزَّ وجل، وهذا ما يقتضي تصيير هذه الأشياء وسائل للقرب والرضا الإلهي.
الزوجة حرث؟!
وأمَّا وصف الزوجة بالحرث في قوله تعالى: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾(2) فهو تشبيهٌ كما هو واضح.
والمصحِّح لتشبيه شيءٍ بشيء هو وجود وجه شبهٍ بين المشبَّه والمشبَّه به، فالمصحِّح لتشبيه الرجل الشجاع بالأسد هو اشتراكهما في وجه شبهٍ واحد وهو الشجاعة، فالتشبيه لا يقتضي إسراء كلِّ خصائص المشبَّه به للمشبَّه و إلا لكان المدحُ ذمَّاً، وهو غير مقصود حتماً، فحينما تصفُ رجلاً بالأسد فإنَّك تمدحُه في حين أنَّه لو كان التشبيه مقتضياً لإسراء جميع خصائص المشبَّه به للمشبَّه لكان هذا الوصف ذمَّاً، إذ أنَّ الأسد بهيمة لا عقل له.
وهكذا الحال بالنسبة لتشبيه الزوجة بالحرث، فإنَّ المصحِّح لهذا التشبيه هو اشتراكهما في أنَّ كلاً منهما موضع التخلُّق، فالحرث "الأرض" موضعٌ لتخلُّق النبات، والزوجة موضعٌ لتخلُّق الإنسان، وكون الأرض مملوكة للإنسان لا يعني أنَّ تشبيه شيء بها يقتضي كونه مملوكاً للإنسان و إلا لكان تشبيه الرجل الشجاع بالأسد ذمَّاً لأنَّه يقتضي اعتبار الرجل الشجاع بهيمة و لكان معنى تشبيه المرأة بالظبي هو أنَّ المرأة بهيمة، ولا يقول بذلك من له أدنى معرفة بمساقات الكلام.
فالتشبيهُ ينشأ عن وجود شبهٍ بين المشبَّه والمشبَّه به، وتحديدُ وجه الشبه يقومُ على أساس الخصائص البارزة في المشبَّه به عند المخاطب والمتكلِّم، على أنَّ سياق الكلام له أثر في تحديد وجه الشبَه.
من كتاب: مقالات حول حقوق المرأة
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الأنعام / 112.
2- سورة البقرة / 223.