منشأ رفض الصادق (ع) لكل الرسائل واستجابة الحسين (ع) لها

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

السؤال:

لماذا رفض الإمام الصادق (ع) كلَّ الرسائل الّتي وصلته والتي كانت تدعوه للثورة؟ ولماذا استجاب الإمامُ الحسين (ع) لرسائل أهل الكوفة؟

الجواب:

لم تصل للإمام الصادق (ع) -في حدود اطّلاعي- سوى رسالتَيْن؛ الأولى مِن أبي مسلم الخراساني(1)، والثانية مِن أبي سلمة الخلاّل(2).

أمّا الرسالة الأولى فأجاب عنها الإمام الصادق (ع) بقوله: "إنَّ أبا مسلم ليس مِن رجالي ولا الزمان زماني"(3).

أمّا أنّه ليس مِن رجاله فلأنَّه كان مِن القادة العبّاسيِّين، وهو مبعوثهم إلى خراسان ليوطِّئ لهم الأمر هناك، وقد كان بعَثه لهذا الشأن كلٌّ مِن إبراهيم الإمام وأبو العبّاس السفّاح وأبو جعفر المنصور(4)، وقد حقّق لهم انتصاراتٍ كثيرة في خراسان قبل أنْ يبعث إلى الإمام الصادق (ع) بهذه الرسالة، ومِن هنا لم يكن التعقُّل مقتضيًا للاطمئنان بجديّة الدعوة الذي دعا إليها الإمام (ع) في الرسالة، ولو كانت جادّة فهي غير نافعة بعد أنْ استوثق الأمر للعبّاسيِّين وأوشكت السلطة أنْ تسقط بأيديهم، وهذا هو معنى "أنَّ الزمان ليس زماني"(5).

على أنّه يُمكن تأكيد الفقرة الأولى مِن جواب الإمام الصادق (ع) مِن ملاحظة سيرة الرجل الذاتيّة، فقد ذكر المؤرِّخون أنّه كان رجلًا فاسقًا سفّاحًا يقتلُ على الظنّة والتهمة(6)، وقد أحصى عليه المؤرِّخون عشرات آلاف القتلى(7) هذا والأمرُ لم يصفُ لهم بعدُ!

وأمّا الرسالةُ الثانية فقد أحرقها الإمامُ الصادق (ع) بالسراج وقال لحامل الرسالة: "هذا هو جوابي"(8).

والجديرُ بالذكر أنَّ أبا سلمة الخلاّل بعث برسالةٍ مشابهة إلى عبد الله بن الحسن المحض، واستبشر الأخيرُ بالرسالة وأخبر حاملَ الرسالة بأنّه على استعدادٍ للاستجابة، وقد فات السيد عبد الله المحض أنَّ الأمر قد خرج مِن يد أبي سلمة الخلاّل، ولهذا لم يصل جوابُه إلى أبي سلمة، لأنّه قُتل قبل أنْ يصله جوابُ السيّد عبد الله المحض(9).

ومقتله كما يقول المؤرِّخون(10) كان بتدبيرٍ مِن أبي مسلم الخراساني حيث كان بينهما تحاسد وتنافس على المناصب العسكريّة والسياسيّة، حيثُ كانا مِن القادة العبّاسيِّين وكان لهما دور بالغَ الأهميّة في توطئة الأمر لبني العبّاس في خراسان والعراق.

وقد ذكر المؤرِّخون(11) أنَّ أبا سلمة الخلاّل قد أنجز انتصاراتٍ كبيرة لصالح بني العبّاس، وكان يدعو إليهم في العراق وفي خراسان، ثمَّ رأى أنْ يُرجع الأمر إلى الطالبيِّين(12) وليس للإمام الصادق (ع) بالتحديد، إلاَّ أنَّه لم يكن يُدرِك أنَّ الأمر قد خرج مِن يده كما اشرنا إلى ذلك قبل قليل، ولعلّ رسالتَيْه قد اطّلعت عليهما عيونُ بني العبّاس أو أبو مسلم الخراساني(13) ولهذا تعجَّل حتفُه.

وبهذا العرض التأريخي الموجز تبيَّن منشأ رفض الإمام الصادق (ع) لما ورد في رسالتَيْ هذَيْن القائدَيْن العبّاسيَّيْن.

ثمّ إنَّ هنا أمرًا لا بدّ مِن التنبيه عليه وهو أنَّ مِن المحتمل قويًّا أنَّ هذَيْن القائدَيْن لم يكونا يقصدان تسليم الأمر بتمامه للإمام الصادق (ع) وينسلخان هما عنه، وإنّما كانا يُدركان أنّهما عندما ينفصلان عن بني العبّاس فإنّهما يحتاجان لغطاء يتحرَّكان وراءه، إذ لم يكن لهما بشخصَيْهما قاعدة اجتماعيَّة يصولان بها.

فلأنَّ الإمام الصادق (ع) كان يحظى بشعبيَّة واسعة في الأوساط الاجتماعيَّة لذلك كان مِن المناسب -بنظرهما- اتِّخاذه واجهةً للنفوذ والهيمنة لا أقلّ أنّهما لم يُقدِّما تطمينات تؤكّد عزمهما على الطاعة المطلقة للإمام (ع) وأنّهما أرادا مِن دعوتهما للإمام (ع) وضع الأمر في موضعه، فلعلّ دعوتهما للإمام نشأت عن شعورهما بأنَّ بني العبّاس سوف لن يحفظوا لهما جهودهما التي بذلاها وسوف لن يكون لهما نصيب في الأمر، وهو ما دعاهما للبحث عن جهةٍ أخرى يتمكّنان بواسطتها من استثمار الجهد المبذول للمآرب الشخصيّة.

ولو كان هذا هو ما دفعهما لمراسلة الإمام (ع) فإنّ مِن غير المناسب استجابة الإمام لدعوتهما، إذ أنَّ منهج الأنبياء والأولياء يتنافى ولغة المساومات السياسيَّة على المراكز وتقاسم الغنائم، ونحن لا نعلمُ بفحوى الرسالتَيْن، إذ لم يكشف لنا التأريخ عن ذلك.

ولو افتُرض أنَّ الرسالتَيْن لم تكونا معبِّرتَيْن عن هذا الغرض إلاّ أنّه يكفي لرفض الدعوتَيْن أنْ يحتمِلَ الإمامُ (ع) ذلك احتمالًا معتدًّا به نظرًا لمعرفته بواقع الرجُلَيْن، وحينئذٍ لا يكون مِن التعقّل استجابة الإمام لهما، إذ إنَّ عدم الاطمئنان في مثل هذه المسائل يقتضي التوثُّق وعدم الاستجابة كيف والحال أنَّ الظروف ومقتضياتها تنحو نحو الاطمئنان بعدم خلوص دعوتيهما عن المآرب الشخصيّة.

على أنَّ تأكيد الإمام الصادق (ع) في موارد عديدة(14) على أنّه لو وجد أنصارًا يعتمد عليهم لما تأخّر عن القيام بالتغيير الجذري لواقع الأمّة، هذا التأكيد يُعبِّر عن سوء ظنَّه بالرجُلَيْن أو بقدرتهما على المساهمة في هذه المهمَّة.

منشأ قبول الإمام الحسين (ع) بدعوات أهل الكوفة:

هذا ما يتّصل بالشقِّ الأوّل مِن السؤال، أمّا الشقُّ الثاني وهو ما يتّصل بمنشأ قبول الإمام الحسين (ع) بدعوات أهل الكوفة فقد أجبنا عنه في السؤال الأول(15)، ونضيف هنا أنَّ الكتب التي بلغتِ الإمام (ع) مِن أهل الكوفة وهو في مكّة المكرّمة تصلُ إلى اثني عشر ألف كتاب(16)، كلُّ كتابٍ يشتمل على ختم الواحد، والاثنَيْن، والثلاثة، والأربعة(17)، وكلّها تُؤكّد الاستعداد التامّ على مؤازرة الإمام الحسين (ع) في مواجهة النظام الأمويِّ(18)، وأنّه ليس لهم إمامٌ غيره(19)، وأنّهم جندٌ له مجنَّدة(20)، وأنّهم لا يحضرون لعامل بني أميّة جمعةً ولا جماعة(21)، وأنّهم على استعدادٍ لطرده(22)، وأنَّ ذلك ليس عسيرًا عليهم(23)، ورغم كلِّ هذه التطمينات استوثق مِن جدِّيّة دعواهم عندما بعث إليهم مسلم بن عقيل ليستطلع حالهم فبايعه على أقلِّ التقادير ثمانية عشر ألف رجل(24) وفيهم الأعيان ورؤساء العشائر، وفي بعض النقولات أنَّ المبايعين للحسين (ع) على يد مسلم بن عقيل أربعون ألفًا(25).

ولذلك لم يسع الإمام الحسين (ع) التلكُّؤ في الاستجابة لهم بعد كلِّ هذه التطمينات، ولو أهمل الإمامُ الحسين (ع) هذه الدعوات لأدانه التاريخ ولاتّهمه بالتقاعس عن القيام بمسئوليَّته الرساليَّة.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات حول النهضة الحسينية 

 

الشيخ محمد صنقور


1- ابو مسلم الخراساني اسمه عبد الرحمن بن مسلم، ويقال: عبد الرحمن بن عثمان بن يسار الخراساني، ولد سنة 100هـ، أحد قادة وامراء الدولة العباسية ساهم في هزيمة جيوش الدولة الاموية كما ساهم في انشاء الدولة العباسية، قتل في شعبان سنة سبع وثلاثين ومئة للهجرة، عمره سبعة وثلاثون عاما، قتله الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور بحيلة في قصره بعد ان جرده سيفه.

المصدر سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج6 / ص71 والأخبار الطوال -الدينوري- ص380 (بتصرف).

2- أبو سلمة الخلاَّل: حفص بن سليمان، نشأ بالكوفة، كان من ابرز الدعاة للعباسيين وكان يتمتع بقدرة على الإقناع وموهبة ادارية متميزة مكَّنته من النجاح في عمله السري ضد الامويين، استوزره أبو العباس السفاح حين اصبح خليفة. قُتل بعدها بأربعة أشهر سنة اثنتين وثلاثين ومائة هجرية، قيل قتله أبو مسلم الخراساني غيلة.

راجع سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج6 / ص7-8 والأخبار الطوال -الدينوري- ص334 و358-359 و370 (بتصرف).

3- الملل والنحل -الشهرستاني- ج1 / ص154، ينابيع المودة لذوي القربى -القندوزي- ج3 / ص161، مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص356.

4- سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج6 / ص67.

5- الملل والنحل -الشهرستاني- ج1 / ص154، ينابيع المودة لذوي القربى -القندوزي- ج3 / ص161، مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص356.

6- سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج6 / ص67، ج10 / ص297.

7- نفس المصدر.

8- عمدة الطالب -ابن عنبة- ص102.

9- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص349.

10- تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص352، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج5 / ص436، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص414، الامامة والسياسة -ابن قتيبة الدينوري، تحقيق الزيني- ج2 / ص120.

11- الأعلام -خير الدين الزركلي- ج2 / ص263، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج8 / ص401.

12- سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج6 / ص59، تاريخ اليعقوبي -اليعقوبي- ج2 / ص352، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج5 / ص409.

13- ويؤيد هذا الاحتمال ما ذُكر في وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- ابن خلكان- ج2 / ص195.

14- وردت في هذا المضمون الكثير من الشواهد منها ما رواه رواية سدير عن الامام الصادق (ع): "والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود، ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر".

راجع كتاب الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص242-243، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج47 / ص373، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (ع) -السدي علي خان المدني الشيرازي- ج1 / ص567.

15- صفحة 11.

16- مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص16، اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص24.

17- الدر النظيم -إبن حاتم العاملي- ص547.

18- اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص23، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص15.

19- نفس المصدر.

20- نفس المصدر.

21- نفس المصدر.

22- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص38.

23- اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص23، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص15.

24- الثقات -ابن حبان- ج2 / ص307.

25- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص182، ترجمة الإمام الحسين (ع) -ابن عساكر- ص288.