هل وصل العباسُ بالماءِ للحسين (ع)؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ محمد وآل محمد
المسألة:
يذكرُ الخطباء أنَّ العباس بن عليٍّ (ع) تمكَّن من الوصول للمشرعة يوم العاشر بعد أنْ كشفَ عنها العسكرَ المُوكَّل بحراستِها والحيلولةِ دون وصول الحسين (ع) وأصحابِه إليها، ويذكرون أنَّه ملأ القِربة وحمَلَها إلى الحسين (ع) فهل لذلك مُستندٌ تأريخيٌّ يمكن التعويلُ عليه؟
الجواب:
النصوص المُثبِتة:
نعم نصَّ على ذلك العديدُ من المؤرِّخين من الفريقين، وسوف أنقلُ لكم عددًا من هذه النصوص والتي يتشكَّل من مجموعِها ما يصلحُ للإثبات التأريخي:
النص الأول: شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري (ت: 363ه) قال: "عبأ الحسينُ بن عليٍّ أصحابَه يوم الطفِّ وأعطى الرايةَ أخاه العباس بن عليٍّ، وسُمِّي العبَّاس: السقَّاء، لأنَّ الحسين (عليه السلام) عطش، وقد منعوه الماءَ، وأخذَ العباسُ قُربةً ومضى نحو الماء، واتَّبعه إخوتُه من ولد عليٍّ (عليه السلام): عثمان وجعفر وعبد الله. فكشفوا أصحابَ عُبيد الله عن الماء. وملأ العباسُ القُربة، وجاء بها فحملَها على ظهرِه إلى الحسين وحدَه. وقد قُتلَ إخوتُه"(1).
وصريحُ هذا النصِّ أنَّ العباس وإخوته اقتتلوا مع العساكر الموكَّلين بحراسة المشرعة وتمكَّنوا من كشفهم عنها وتمكُّن العباس (ع) من اقتحام المشرعة وملئ القُربة التي كانت عندَه وكذلك تمكَّن من إيصالها إلى الحسين (ع) ولكنَّ إخوة العباس رضوان الله عليهم قُتلوا فلم يعودوا معه إلى معسكر الحسين (ع).
النص الثاني: شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري (ت: 363ه) قال: "وكان الذي وليَ قتل العباس بن عليٍّ يومئذٍ يزيدُ بن زياد الحنفي وأخذَ سلبه حكيمُ بن طفيل الطائي، وقيل إنَّه شرَك في قتله يزيد. وكان بعد أنْ قُتل إخوتُه عبد الله وعثمان وجعفر معه قاصدين الماء. ويرجعُ وحده بالقُربة فيحملُ على أصحاب عُبيد الله بن زياد الحائلين دون الماء. فيقتِلُ منهم، ويضربُ فيهم حتى يتفرَّجوا عن الماء فيأتي الفرات فيملأُ القُربة، ويحملُها، ويأتي بها الحسين (عليه السلام) وأصحابه، فيَسقيهم حتى تكاثروا عليه، وأوهنته الجُراح من النبل، فقتلوه كذلك بين الفرات والسرادق، وهو يحملُ الماء، وثَمَّ قبرَه رحمه الله"(2).
وهذا النصِّ ظاهرٌ أيضًا في الوصول والإيصال للماء إلى الحسين (ع) ويظهرُ من ذيل النصِّ أنَّه حاول الوصول مرَّةً أخرى ونجح في كشفِ مَن كان على المشرعة وملأ القُربة وخرج بها لكنَّه لم يتمكَّنْ من إيصالها لمخيَّم الحسين (ع).
النص الثالث: الثقات لابن حبَّان (ت: 353ه) قال: "والعباس يُقال له السقَّاء، لأنَّ الحسينَ طلبَ الماء في عطشِه وهو يُقاتل فخرجَ العباسُ وأخوه واحتال حمل إداوةَ ماءٍ ودفعَها إلى الحسين، فلمَّا أراد الحسينُ أنْ يشربَ من تلك الإداوة جاء سهمٌ فدخل حلقَه فحال بينَه وبين ما أراد من الشُرب، فاحترشتْه السيوفُ حتى قُتل فسُمِّى العباسُ بن عليٍّ السقَّاء لهذا السبب"(3).
وهذا النصُّ صريحٌ في أنَّ العباس (ع) تمكَّن من كشفِ العساكرِ الموكَّلين بحراسة المشرعة، وتمكَّن من حمل الماء إلى الحسين (ع) وكان ذلك هو سبب تلقيبِه بالسقَّاء.
النص الرابع: نسب قريش للمصعب الزبيري: "والعباس بن علي، ولده يسمونه "السقَّاء"، ويُكنونه أبا قِربة؛ شهِدَ مع الحسين كربلاء؛ فعطِش الحسينُ؛ فأخذ قربةً، واتَّبعه إخوتُه لأبيه وأمِّه بنو عليٍّ، وهم: عثمان، وجعفر، وعبد الله، فقُتل إخوتُه قبلَه، وجاء بالقِربةِ يحملُها إلى الحسين مملوءةً؛ فشربَ منها الحسين؛ ثم قُتل العبَّاس بن علي بعد إخوتِه مع الحسين"(4).
وأورد ذات النص ابن أبي الدنيا (ت: 281ه) في كتابه مقتل أمير المؤمنين قال: حدَّثنا الحسين .. وولده يُسمُّونه السقَّاء ويُكنُّونه أبا قربة شهِد مع الحسين (عليه السلام) كربلاء فعطش الحسين فأخذ قِربةً واتَّبعه إخوتُه لأمِّه بنو عليٍّ وهم عثمان وجعفر وعبد الله فقُتل إخوتُه قبلَه .. وجاء بالقِربة فحملَها إلى الحسين (عليه السلام) مملوءةً فشربَ منها الحسينُ ثم قُتل العبَّاسُ بنُ عليٍّ بعد إخوتِه مع الحسين صلوات الله عليهم"(5).
وهذا النصُّ صريحٌ أيضًا في تمكُّنه من اقتحام المشرعةِ بعد كشفه للرجال الموكَّلين بحراستها، وهو صريحٌ في تمكُّنه من إيصال الماءِ للحسين (ع).
النص الخامس: أنساب الأشراف للبلاذري (ت: 279ه) قال في سياق التعداد لأولاد عليٍّ (ع): "وولد (ع) أيضا العباس الأكبر، وهو السقَّاء، كان حملَ قربةَ ماءٍ للحسين بكربلاء، ويُكنَّى أبا قِربة"(6).
وهذا النصُّ صريح كذلك في أنَّ العباس تمكَّن يوم كربلاء من إيصال الماء للحسين (ع) وهو ظاهرٌ في أنَّ ذلك هو منشأ تلقيبه بالسقَّاء وتكنيتِه بعد ذلك بأبي قربة في اشارة إلى هذه المنقبة التي لم يحظَ بها غيرُه من الشهداء.
النص السادس: إعلام الورى للطبرسي (ت: 548) قال: "وكان العباسُ يُكنى أبا قِربة لحملِه الماء لأخيه الحسين (عليه السلام) ويُقال له: السقَّاء، وقُتل وله أربعٌ وثلاثون سنةً، وله فضائل .."(7).
وهذا النصُّ واضحٌ في افادة أنَّ العباس تمكَّن من ايصال الماء إلى الحسين (ع) إذ أنَّ ذلك هو المعنى المتعيَّن من قوله: "لحملِه الماء لأخيه الحسين (عليه السلام)" ولو كان مبلغُ ما فعلَه العباس (ع) هو محاولةَ الوصول للمشرعة لَمَا صحَّ التعبير بقوله: "لحملِه الماء لأخيه الحسين" لأنَّه في هذا الفرض لم يصلْ للماء فضلًا عن حملِه للحسين (ع)، وكذلك فإنَّ الظاهرَ من قولِه: "لحملِه الماءَ لأخيه" أنَّه وصل بالماء إلى الحسين (ع) إذ لو كان قد حملَه ولم يصلْ به إليه لكان المُناسُب التعبيرَ بمثل جاهد لإيصال الماء أو ما يقربُ من هذه الصياغة. على أنَّ تكنيته بأبي قِربة وتلقيبه بالسقَّاء ظاهرٌ غاية الظهور في تميُّزه عن أقرانِه بانجازه لهذه المهمة الشاقَّة في ذلك الظرف العصيب إذ لا تميُّز له يُصحِّحُ تكنيته وتلقيبه بذلك لو حاول فلم يُفلح كما أنَّ تلقيبه بالسقَّاء ظاهرٌ جدًا في الفعليَّة كما هو واضح.
النص السابع: زيارة الناحية (ع) قال: "السلامُ على العبَّاسِ بن أميرِ المؤمنين، المواسي أخاه بنفسِه، الآخذِ لغدِه مِن أمسِه، الفادي له الواقي، الساعي إليه بمائِه، المقطوعةِ يداه"(8).
وموضعُ الشاهد من هذا النصِّ الشريف هو قولُه (ع): "الساعي إليه بمائِه" وهو صريحٌ في أنَّ العباس (ع) كان قد تمكَّن من الوصول إلى الماء وحمل شيئًا منه إلى الحسين (ع) إذ إنَّ ذلك هو مقتضى وصفِه بالساعي إلى الحسين بمائه أي القاصد للحسين بمائه، والماءُ لا تصحُّ اضافتُه للعباس لو لم يكن في يده وهذا معناه أنَّه وصل إلى المشرعة وحمل منها ماءً وسعى به إلى الحسين (ع)، نعم النصُّ ليس صريحًا في أنَّ العباس (ع) قد تمكَّن من إيصال الماء إلى الحسين (ع) لكنَّه لا ينفي الوصول به إلى الحسين (ع) فتكونُ النصوص السابقة صالحةً لتتميم دلالة هذا النصِّ على وصول العبَّاس بالماء إلى الحسين (ع).
النص الثامن: المخصص لابن سِيده (ت 458ه) قال: ".. دَعوا العباس بن عليٍّ أبا قِربة وسَمَّوْهُ السَّقَّاء لأخْذِه القِربة حين عطش الحسين (عليه السّلام) وتوجهه إلى الفرات واتَّبعه أخوتُه لأمِّه بنو علي عثمان وجعفر وعبد الله فقُتل إخوتُه قبله وجاء بالقِربة يحملُها إلى الحسين فشرب منها ثم قُتل العباس بعدُ .."(9).
والنصُّ صريحٌ في الوصولِ والإيصال.
النص التاسع: مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني (ت: 356ه) قال: "والعباس بن عليِّ بن أبي طالب (ع) ويكنى أبا الفضل، وأمُّه أمُّ البنين أيضًا وهو أكبر ولدها، وهو آخر من قُتل من إخوته لأُمِّه وأبيه... قال جرمي بن العلاء عن الزبير عن عمِّه: وُلد العباس بن عليٍّ (ع) يُسمُّونَه السقَّا ويُكنونه أبا قُربة .. وفي العبَّاس بن عليٍّ (عليه السلام) يقول الشاعر:
أحقُّ الناسِ أن يُبكي عليه ** فتًى أبكى الحسينَ بكربلاءِ
أخوهُ وابنُ والده عليٍّ ** أبو الفضل المُضرَّجُ بالدماءِ
ومَن واساه لا يُثنيه شيءٌ ** وجادَ له على عطشٍ بماءِ(10)
وهذه الأبيات والتي سنوردُها في النصِّ اللاحق هي مِن أقدم ما وصلنا من الشعر في رثاء العبَّاس بن عليٍّ (ع) فعمرُها يتجاوزُ الألف عام، فهي منقولةٌ في كتاب مقاتل الطالبيين المتوفى سنة 356 للهجرة ونقلها القاضي النعمان المصري (رحمه الله) في كتاب شرح الأخبار(11) إلا أنَّه ذكر بدلًا مِن: "وجاد له على عطشٍ بماء" قال: "وجاءَ له على عطشٍ بماء" والأبيات منسوبةٌ للفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن أمير المؤمنين (ع) من أعلام القرن الثاني الهجري أو مطلع القرن الثالث الهجري وهو من سادات بني هاشم وكان شاعرًا فصيحًا ويقربُ زمنُه من زمن الإمام الهادي (ع).
ودلالة هذا النصِّ على أنَّ العباس قد تهيأ له إيصال الماء إلى الحسين (ع) ظاهرة، إذ هو المتفاهَم عرفًا من التعبير بجاء له كما هو كذلك في مثل قولِه تعالى: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾(12) وقولِه تعالى: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾(13) فإنَّ المُتفاهَم عرفًا من مجيئهم لأبيهم يبكون هو حضورهم في محضرِه وهم يبكون، وكذلك فإنَّ معنى مجيئهم بقميص يوسُف لأبيه هو إحضار القميص لأبيهم ومناولتهم له، فالتعبيرُ بجاء له على عطشٍ بماء ظاهرٌ إحضار الماء للحسين (ع) ولا يصدقُ المجيء بمجرَّد السعي كما هو واضح.
وكذلك فإنَّ النصَّ المذكور يكون ظاهرًا في إيصال الماء للحسين (ع) لو كان الشاعر قد عبَّر بقولِه: "وجادَ له على عطشٍ بماء" فإنَّ الفعل "جادَ" ظاهرٌ في الإعطاء والمُناولة الفعليَّة ولا يصدقُ بمجرَّد القصد والسعي، فلا يقال جادَ زيدٌ على عمروٍ بعطيَّة لمجرَّد أنَّه قصدَ ذلك وسعى. فالنصُّ على كلا الروايتين يصلحُ شاهدًا على المطلوب.
النص العاشر: معجم الشعراء لأبي عبدالله محمد بن عمران المرزباني المتوفى سنة 384ه قال في ترجمة: "الفضل بن محمد بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن عليِّ بن أبي طالب شاعر مُقلٌّ متوكِّلي -أي كان في عصر المتوكِّل العباسي-.
وهو القائلُ يفخرُ بجدِّه العبَّاس بن علي:
إنِّي لأذكرُ للعبَّاس موقفَه ** بين السيوف وهامُ القومِ تُختَطفُ
يحمي الحسينَ ويَسقيه على ظمأٍ ** ولا يُولِّي ولا يثني ولا يقفُ
أكرم به سيِّدًا بانتْ فضيلتُه ** وما أضاع له كسبَ العلى خلَفُ(14)
وأورد البيتَ الأول والثاني عليُّ بن محمد العلوي العمري في كتابه المُجدي في أنساب الطالبيين(15).
ودلالةُ هذا النصِّ على المطلوب بيِّنة فهو يفخرُ بأنَّ جدَّه قد سقى الحسين (ع) على ظمأٍ يوم كربلاء ساعةَ كانت السيوفُ مُشرعةً تختطفُ الهامات.
النصوص صالحةٌ للإثبات التاريخي:
هذه نصوص عدَّة وأكثرُها صريحٌ وبعضُها ظاهرٌ في المطلوب وقد أوردتْها مصادرُ من كتب التأريخ والأنساب والتراجم والأدب وهي مصادرُ معوَّلٌ عليها في تحصيل القرائن الصالحة للتثبُّت من الوقائع التأريخيَّة، ولهذا ونظرًا لتعاضُد هذه النصوص وتوافقِها في الجملة على نقل القضية موردَ البحث، ونظرًا لاختلاف هويَّة الناقلين لها وقربِ عهدهم منها نسبيًّا، ولأنَّ طبيعة هذه القضيَّة لا تسترعي أكثر من هذا المقدار من النصوص للتثبُّت من وقوعِها لذلك فهي كافية للإثبات التأريخي.
دفعُ اشكالٍ مُقدَّر
لماذا لم يذكر عددٌ من الأعلام ذلك؟
نعم قد يُقال إنَّ عددًا من المؤرِّخين ممَّن تصدَّى لبيان تفاصيل واقعة الطفِّ كابن شهراشوب في المناقب والمفيد في الإرشاد وابن طاووس في الملهوف والخوارزمي في مقتل الحسين وابنِ فهد في مثير الأحزان كلُّ هؤلاء الأعلام لم يذكروا أنَّ العباس بن عليٍّ (ع) قد تمكَّن من الوصول للمشرعة فضلًا عن تمكُّنِه من إيصال الماء للحسين (ع) ولو ثبت لهم ذلك لكان الإغفال لذكره مُستهجنًا خصوصًا وأنَّ دواعي النقل لمثلِهم موفورة إذ لا يخفى حرصُهم على التنويه على كلِّ منقبةٍ تثبتُ لمثل العبَّاس بن عليٍّ (ع) نعم هم قد ذكروا أنَّه سعى للوصول ولكنَّه قُتل قبل أنْ يصل ولذلك كان مصرعه قريبًا من المُسنَّاة.
والجواب أنَّه يمكن الالتزام بأنَّه لم يثبت لديهم أنَّ العباس (ع) قد تمكَّن من إيصال الماء بل ولا من الوصول للمشرعة إلا أنَّ عدم ثبوت ذلك لديهم لا ينفي الوقوع، فهم إنَّما دوَّنوا في كتبِهم ما كان قد وصلَهم أو ما كان قد ثبتَ لديهم من الوقائع، ولا يسعُ من أحدٍ أنْ يدَّعي أنَّ ما وصل هؤلاء الأعلام أو ما ثبتَ لديهم هو كلُّ ما كان قد وقع، ولهذا لا يكونُ إغفالُهم لذكرِ شيءٍ من التفاصيل مُقتضيًا لنفي وقوعِه إذا كان قد تصدَّى لنقلِه مَن يُمكن التعويلُ على نقلِهم فرادى أو مجتمعين.
على أنَّه ليس من الواضح أنَّهم كانوا بصدد الاستيعاب لنقل كلِّ ما وقع وهم لم يدَّعوا ولا يسعُهم الإدعاء لذلك، وكونُهم بصددِ البيان للتفاصيل لا يعني أنَّهم كانوا بصددِ الاستقصاءِ لها والاستيعابِ لتمامِها بل يُمكن الاطمئنانُ بأنَّهم لم يكونوا بصدد الاستقصاء وذلك بقرينة أنَّ ثمة الكثيرَ من التفاصيل قد أغفلوا ذكرَها رغم أنَّها ممَّا لا يعسرُ التثبُّت من وجودها في الكتب المُعوَّلِ عليها بالمقدار المُصحِّح لنقلِها، وهم كانوا قد اعتمدوها ظاهرًا أو اعتمدوا بعضَها في نقلِ بعض الوقائع.
على أنَّه من المُمكن جدًّا أنَّهم لم يجدوا ضرورةً في استفراغ الوسع لاستقصاء جميع المصادر التي يُمكن العثور فيها على تفصيلٍ لم يقفوا عليه فهذا المقدار لم يكن داخلًا في غرضِهم، فغايتُهم إنَّما هي استعراضُ واقعة الطفِّ بالمقدار الذي يفي بالوقوف على ما هو المهمُّ من أحداثِها، والمصادرُ التي كانت بين أيديهم حين كتابة ما دوَّنوه كانت وافية بتحقيق هذه الغاية وهذا الغرض، ولهذا لم يجدوا ضرورةً لمتابعة المزيدِ من المصادر وذلك هو ما نشأ عنه خلوُّ كتبِهم من الذكر لبعض الأحداث التي لو وقفوا عليها حين التصدِّي لكتابة هذه الأحداث لكان من المظنون قويًّا اضافتها لمدوَّناتهم.
والمتحصَّل أنَّ إغفال هؤلاء الأعلام للإشارة إلى أنَّ العباسَ بن عليٍّ كان قد تمكَّن من الوصول للمشرعة وإيصال الماء للحسين (ع) لا يُضعفُ من دليليَّة النصوص التي تصدَّت لإثبات ذلك خصوصًا وأنَّ هؤلاء الأعلام لم يتصدَّوا لنفيها أو التوهينِ منها، فلعلَّهم لم يقفوا عليها أو كان مقدار ما وقفوا عليه غير مصحِّحٍ بنظرهم لتدوينِه في كتبِهم فأغفلوا ذكرَه دون أنْ ينفوا وقوعَه بل إنَّ بعضَهم قد أثبت في كتابِه ما يصلحُ للتأييد وليس النفي، فابنُ شهراشوب وكذلك الخوارزمي وغيرهم كثير وصفوا العبَّاس بالسقَّاء ولا مُصحِّحَ لهذا الوصف لو كان مبلغُ ما فعلَه العباسُ هو السعي للوصول للماء دون أنْ يصل، هذا وقد ذكر ابنُ شهراشوب أنَّ من الشعر الذي ارتجزَ به العبَّاسُ في المعركة هو قولُه:
إنِّي أنا العباسُ أغدو بالسِقا ** ولا أخافُ الشرَّ يوم الملتقى(16)
فهل كان يفتخرُ بأنَّه يحملُ قِربةً خاليةً على أملِ أنْ يتمكَّن من ملئها؟!
منشأُ تلقيبِ العبَّاسِ (ع) بالسقَّاء:
هذا وقد يُقال أنَّ منشأ تلقيب العباس (ع) بالسقَّاء هو أنَّه جاء بالماء لمعسكر الحسين (ع) في ليل التاسع أو العاشر من المحرَّم بعد أن اشتدَّ العطشُ بالحسين وأصحاب الحسين وأسرتِه الطاهرة، إلا أنَّ ذلك مستبعدٌ بل هو في غاية البُعد، فمجيءُ العباس بالماء ليلًا وإنْ كان ثابتًا وقد أرَّخ له عامَّة المؤرِّخين -تقريبًا- ممَّن تصدَّى لبيان تفاصيل واقعة الطف إلا أنَّ هذا الحدَث لا يصحُّ أنْ يكون هو منشأ تلقيب العبَّاس (ع) بالسقَّاء، فالعبَّاس لم يكن وحدَه الذي جاء بالماء في هذه الواقعة بل ذهب -كما نصَّ على ذلك المؤرِّخون- بصحبة ثلاثين فارسًا وعشرينَ راجلًا وقصدوا المشرعة واشتبك الفُرسان مع العساكر الموكَّلة بحراسة المشرعة وشاغلوهم فتمكَّن الرجَّالة وهم عشرون من اقتحام المشرعة فملأوا القِرَب ثم عاد العباسُ بمَن معه بالماء دون أن يُقتل منهم أحد(17).
فعمليَّة الإتيان بالماء إلى معسكر الحسين (ع) اشترك في إنجازها ثلاثون فارسًا وعشرون راجلًا فمن المُستبعد أنْ يخصَّ المؤرِّخون -خصوصًا من الفريق الآخر- العباسَ بلقبِ السقَّاء بسبب هذه العمليَّة وإنْ كان هو القائد لها، فوصولُ الماء لمعسكر الحسين وقع بجهدٍ مشترك ثم إنَّ العديد من المؤرِّخين ذكروا أنَّ العباس صار يُكنى بأبي قِربة، وهذه العمليَّة لا تُصحِّح تكنيته بأبي قِربة فهو لم يكن ممَّن حمل القِرَب ولا كان ممَّن ملأَها.
فالصحيحُ بمقتضى النصوص التى نقلناها والمُعطيات والشواهدِ التأريخيَّة أنَّ تلقيب العباس (ع) بالسقَّاء إنَّما كان بسبب ما تميَّز به يوم عاشوراء من بسالةٍ وشدَّةٍ في البأس مكَّنته من كشفِ المئات من الرجال عن المشرعة ثم اقتحمها غيرَ عابئٍ بالعواقب فملأ القِربة التي كان يحملُها ثم صال في الجموع التي تكاثرتْ حول المشرعة فبدَّد جمعَهم وجالدَ مَن اعترض طريقَه وكان أكثرُهم يتحاماه لعظيم بأسِه حتى تهيأ له الوصول بالماء إلى الحسين (ع) فلعمري كان مستميتًا حريصًا على الوصول وهم كانوا أحرصَ الناس على حياة.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- شرح الأخبار -القاضي النعمان المصري- ج3 / ص182.
2- شرح الأخبار -القاضي النعمان المصري- ج3 / ص191.
3- الثقات -ابن حبَّان- ج2 / ص310.
4- نسب قريش -المصعب الزبيري- ج2 / ص43.
5- مقتل أمير المؤمنين -ابن أبي الدنيا- ص102.
6- أنساب الأشراف -البلاذري- ج2 / ص193.
7- إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص295.
8- المزار الكبير -المشهدي- ص489.
9- المخصص -ابن سِيده- ج4 / ص174.
10- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص55.
11- شرح الأخبار -القاضي النعمان المصري- ج3 / ص193.
12- سورة يوسف / 16.
13- سورة يوسف / 18.
14- معجم الشعراء -أبو عبدالله محمد بن عمران المرزباني- ج1 / ص314.
15- المُجدي في أنساب الطالبيين -عليُّ بن محمد العلوي العمري- ص232.
16- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص256.
17- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص181، الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص255، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص312، تجارب الأمم -ابن مسكويه الرازي- ج2 / ص70، الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص92،