هل كانت أم البنين على قيد الحياة بعد الطف

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل كانت أمُّ البنين زوجة الإمام أمير المؤمنين (ع) على قيد الحياة أثناء واقعة كربلاء؟

 

الجواب:

لم نقف على مأثورٍ أو نصٍّ تأريخي يذكر أنَّ أمَّ البنين (رضوان الله تعالى عليها) كانت على قيد الحياة حين وبعد واقعة كربلاء إلا ما أفاده أبو الفرج الأصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين قال: "وكانت أمُّ البنين أمُّ هؤلاء الأخوة القتلى تخرج إلى البقيع فتندبُ بنيها أشجى نُدبةً وأحرقها فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، فكان مروان يجىءُ فيمن يجيء لذلك، فلا يزالُ يسمع ندبتها ويبكي".

 

ثم زعم أنَّ ذلك يرويه بسندٍ ذكره ينتهي إلى جعفر بن محمد الصادق (ع)(1).

 

فهذا هو النصُّ الوحيد الذي عثرنا عليه بعد البحث، وحيثُ إنَّ أبا الفرج الأصفهاني قد انفرد بنقلِه، وهو ممَّن لا يصحُّ التعويل على ما ينفردُ بنقله لذلك لا يُمكن التثبُّت من وجود أمِّ البنين أمِّ العباس بن علي (ع) بعد واقعة الطف.

 

على أنَّ ثمة مضعِّفين لهذا النصِّ غير المضعِّف السندي:

المضعِّف الأول: هو استبعاد صدور هذا الفعل من السيِّدة أم البنين، وذلك لجلالة قدرها وما عُرفت به من رجحانٍ في العقل وتشدُّدٍ في الحشمة والوقار، نعم يُمكن أنْ نقبل صدور ذلك منها أول وصول الخبر إليها أمَّا أنْ يصدر ذلك منها مرارًا كثيرة في محفلٍ من الرجال كما هو ظاهر النص حيث اشتمل على ما يقتضي أنَّها كانت تُداوم على قصد البقيع والذي كان موضعًا للبيع والشراء واجتماع الناس، فذلك ما لا يصدر ممَّن هو دونها شأنًا فكيف بحرم أمير المؤمنين (ع)، نعم لو قيل إنَّها كانت تجلس أو تقصد محافل النساء وتندبُ أبناءها لأمكن قبول ذلك.

 

المضعِّف الثاني: هو ما اشتمل عليه النصُّ من أنَّ مروان بن الحكم كان يجيء فيمَن يجيء (فلا يزال يسمعُ ندبتها ويبكي)، فإنَّ اشتمال النصِّ على ذلك يؤكِّد الارتياب في صدقه، وذلك لانَّ مروان -والذي هو جدُّ أبي الفرج الأصفهاني- كان معروفًا بشدَّة النُصب والعداء لأهل البيت (ع).

 

فهو الذي نقل البلاذري في أنساب الأشراف(2) وابن سعد في الطبقات(3) وغيرهما أنَّه حينما بُعث برأس الحسين (ع) إلى المدينة أخذه وقال:

 

يا حبذا بردك في اليدين ** ولونك الأحمر في الخدين.

 

قال ذلك وهو يعبثُ بأرنبة أنفه (ع) كما ذكر ذلك ابنُ الجوزي في تذكرة الخواص(4)، وذكر ابنُ سعدٍ في الطبقات الكبرى أنَّ مروان قال بعد ذلك: والله لكأنِّي أنظر إلى أيام عثمان.

 

وأفاد ابنُ سعدٍ في الطبقات(5) أنَّ مروان حين سمع الصيحة في دور بني هاشم تمثَّل بقول عمرو بن معدي كرب شامتًا ومتهكمًا:

 

عجَّت نساءُ بني زيادٍ عجَّةً ** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

 

فمثلُ هذا الرجل لا يطرف له جَفنٌ من أجل أهل البيت (ع) كما تُؤكِّد ذلك سيرته معهم، فليس من اليسير التصديق بما حكاه أبو الفرج عن بكائه بعد استماعه لندب أُم البنين إلا أنْ يكون ذلك رياءً وتظاهرًا بالحزن، وهو منافٍ لظاهر النصِّ خصوصًا أنَّ أبا الفرج يزعم أنَّه ينقله بسندٍ عن الإمام الصادق (ع) والذي لم يكن يخفى عليه واقع مروان بن الحكم بل إنَّ ذلك لم يكن خافيًا عمَّن زعم أنَّهم سنده إلى الإمام الصادق (ع) كمعاوية بن عمار وحماد بن عيسى، فلا محيص عن الارتياب في صدق النصِّ المذكور. 

 

هذا وقد أورد ما يقرب من هذا النص -مرسلاً- يحيى بن الحسين الشجري الجرجاني (ت: 499) في الأمالي الخميسيَّة قال: "قال الحسن: قال أبي: بلغني عن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، أنَّه قال: بكى الحسين (عليه السلام) خمس حجج، وكانت أم جعفر الكلابية تندب الحسين وتبكيه وقد كُفَّ بصرها، فكان مروان وهو والي المدينة يجيء متنكراً بالليل حتى يقف فيسمع بكاءها وندبها"ص259.

 

فهذا النص هو ذاتُه -على الأقرب- النصُّ الذي أورده أبو الفرج عن الإمام الصادق(ع) بحسب زعمه وعلى أيِّ تقدير فكلاهما يحكي ذات الواقعة عن الإمام الصادق (ع) ورغم ذلك اختلفا في التفاصيل ممَّا يضيف إلى وهن الخبر وهناً آخر غير الذي بيَّناه، فالخبر الثاني يدَّعي أنَّ مروان يأتي متنكراً ليلاً، ومفاد خبر أبي الفرج أنَّ أمَّ البنين تخرج إلى البقيع فيجتمع الناس حولها، وظاهر ذلك -كما هو واضح- أنَّها تخرج للبقيع نهاراً، ثم إنَّ صريح خبر أبي الفرج أنَّها تندب أبناءها والحال أنَّ خبر الشجري هو أنَّها تندب الحسين (ع)، وفي خبر الشجري إيحاء أنَّها متقدِّمة في السنِّ لزعمه أنَّها كانت كفيفة والحال أنَّها لم تكن متقدِّمة في السنِّ، على أنَّ خبر الشجري اشتمل على دعوى أنَّ مروان كان حينذاك والياً على المدينة وذلك منافٍ لما المعروف لدى المؤرِّخين أنَّه لم يكن حينذاك والياً على المدينة بل لم يُصبح والياً عليها منذُ عهد يزيد إلى أنْ صار خليفةً بعد موت معاوبة بن يزيد، وكان حينذاك في الشام وليس في المدينة، فمثل هذه الموهِّنات في الخبر بصيغتيه تمنعُ من الوثوق بصدقه والبناء عليه.

 

وباتِّضاح سقوط هذا النصِّ عن الاعتبار لا يكون ثمة ما يُثبت بقاء السيِّدة أم البنين على قيد الحياة بعد واقعة الطف، نعم نُسبت أبيات من الشعر للسيِّدة أم البنين ترثي فيها أبناءها وهي:

 

يا مَن رأى العباس كرَّ على جماهير النقد ** ووراه من أبناء حيدر كلُّ ليثٍ ذي لبَد

ويلي على شبلي أمال برأسِه ضربُ العمد ** لو كان سيفُك في يديك لَما دنا منه أحد

 

وكذلك نُسب إليها أنَّها قالت:

 

لا تدعونِّي ويكِ أمَّ البنين ** تُذكريني بليوثِ العرين

أربعةٌ مثلُ نسورِ الربى ** قد واصلوا الموت بقطع الوتين

 

إلى آخر الأبيات وقد أفاد السيد محسن الأمين (رحمه الله) أنَّ أبا الحسن الاخفش هو مَن نسب هذه الأبيات إلى أمِّ البنين في شرحه على كامل المبرد(6).

 

فلو صحَّت هذه النسبة فإنَّها تقتضي بقاء السيدة أم البنين على قيد الحياة إلى ما بعد واقعة الطف.

 

ثم إنَّنا لا نستبعد بقاءها رغم عدم وجود ما يُثبت ذلك نظرًا لكون سنِّها لم يتجاوز ظاهرًا العقد السادس أيام واقعة الطفِّ بل هي على الأرجح لم تصل لعمر الستين حينذاك، إذ أنَّها لو كانت قد تزوَّجت من أمير المؤمنين (ع) في سنِّ العشرين على أبعد التقادير لكونها كانت بكرًا حين زواجِه منها فإنَّ عمرها يوم الطفِّ يكون خمسًا وخمسين أو أكثر بقليل لأنَّ العباس كان عمره الشريف يوم الطفِّ أربعًا وثلاثين أو خمسًا وثلاثين سنة، وكان هو الولد الأكبر للسيِّدة أم البنين فبقاؤها إلى ما بعد يوم الطف غير مستبعَد.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- مقاتل الطالبين -أبو الفرج الأصفهاني (ت 256)- ص53. أورد ما يقرب من هذا النص -مرسلاً- يحيى بن الحسين الشجري الجرجاني (ت: 499) في الأمالي الخميسيَّة قال: "قال الحسن: قال أبي: بلغني عن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، أنَّه قال: بكى الحسين (عليه السلام) خمس حجج، وكانت أم جعفر الكلابية تندب الحسين وتبكيه وقد كُفَّ بصرها، فكان مروان وهو والي المدينة يجيء متنكرا بالليل حتى يقف فيسمع بكاءها وندبها" ص259. فهذا النص هو ذاتُه -على الأقرب- النصُّ الذي أورده أبو الفرج عن الإمام الصادق (ع) بحسب زعمه وعلى أي تقدير فكلاهما يحكي ذات الواقعة عن الإمام الصادق (ع) ورغم ذلك اختلافا في التفاصيل مما يضيف إلى وهن الخبر وهناً آخر غير الذي بيناه فالخبر الثاني يدعي أن مروان يأتي متنكراً ليلاً، ومفاد خبر أبي الفرج أنها تخرج إلى البقيع فيجتمع الناس حولها وظاهر ذلك أنَّها تخرج للبقيع نهاراً، ثم إن صريح خبر أبي الفرج أنها تندب أبناءها والحال أن خبر الشجري أنها تندب الحسين (ع) وفي خبر الشجري إيحاء أنها متقدمة في السنِّ لزعمه أنَّها كانت كفيفة والحال أنها لم تكن متقدمة في السن، على أنَّ خبر الشجري اشتمل على دعوى أنَّ مروان كان حينذاك والياً على المدينة وذلك منافٍ لما المعروف لدى المؤرخين أنَّه لم يكن حينذاك والياً على المدينة بل لم يصبح والياً عليها منذ عهد يزيد إلى أن صار خليفة بعد موت معاوبة بن يزيد، فمثل هذه الموهنات في الخبر بصيغتيه تمنع من الوثوق بصدقه والبناء عليه. 

2- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص217. 

3- الطبقات الكبرى ترجمة الإمام الحسين -ابن سعد- ص84.

4- تذكرة الخواص -ابن الجوزي- ص151.

5- الطبقات الكبرى ترجمة الإمام الحسين (ع) -ابن سعد- ص84.

6- أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج8 / ص389.