هل خرجت السيدة زينب (ع) لمصرع الأكبر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما مدى صحَّة ما يُقال من أنَّ السيدة زينب (ع) خرجتْ لمصرع عليٍّ الأكبر (ع) وانكبَّت على جسده فأخذها الحسينُ (ع) وأرجعها إلى الخيام؟ وإذا صحَّ ذلك فهل كان وجهُها مكشوفًا كما هو مقتضى وصفِهم له بأنَّه كالشمس الطالعة؟! وهل صحيح أنَّ غرضَها من الخروج هو خشيتُها على الحسين (ع) حتى لا يموت على جثمان ولده كما يقال؟!
الجواب:
أمَّا خروجُها إلى مصرع الأكبر (ع) فقد ذكره العديدُ من المؤرِّخين كالطبري في تاريخِه قال: "قال أبو مخنف حدَّثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم الأزدي قال: سماعُ أُذني يومئذٍ من الحسين يقول: قتَلَ اللهُ قومًا قتلوك يا بُني ما أجرأَهم على الرحمن وعلى انتهاك حُرمة الرسول (ص) على الدنيا بعدك العفاء، قال: وكأنِّي أنظرُ إلى امرأةٍ خرجتْ مسرعةً كأنَّها الشمسُ الطالعة تُنادى: يا أُخياه ويابنَ أَخاه قال: فسألتُ عليها فقيل: هذه زينبُ ابنةُ فاطمة ابنةُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فجاءتْ حتى أكبَّت عليه فجاءها الحسينُ فأخذَ بيدِها فردَّها إلى الفسطاط، وأقبل الحسينُ إلى ابنِه وأقبل فتيانُه إليه فقال: احملوا أخاكم فحملوه من مصرعِه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يُقاتلون أمامه"(1).
وأورد هذا الخبر الخوارزميُّ في مقتل الحسين (ع)(2) وأبو الفرج في مقاتل الطالبيين(3) وابنُ عساكر في تاريخ دمشق(4) وغيرهم، وبعد التتبُّع لكلماتهم وجدتُ أنَّ أكثرَهم ينقلُ هذا الخبر عن حميد بن مسلم بعين ما أورده الطبري أو ما يقربُ منه، ومَن لم ينسبْه لحميد بن مسلم نسَبَه إلى الراوي دون أنْ يذكرَ اسمًا له كالسيِّد ابن طاووس في اللهوف، فإنَّه صدَّر هذا الخبر بقوله: "قال الراوي"(5) وبعضُهم أرسلَه إرسالًا دون أنْ ينسبَه إلى راوٍ كالشيخ المفيد في الإرشاد(6) والطبرسي في إعلام الورى(7) وابن نما الحلِّي في مثير الأحزان(8) وابن الجوزي في المنتظم(9).
والظاهرُ بل المُطمَئَنُّ به أنَّ كلَّ هولاءِ الذين لم يذكروا اسمًا لناقل الخبر قد أخذوه جميعًا عن حميد بن مسلم، وذلك بقرينة تقاربِ ألفاظ الخبر بل تطابقِه في أكثر فقراتِه وألفاظِه ولا يُحتمل أنْ يكون ذلك نشأ اتِّفاقًا، فالشيخُ المفيد مثلًا قال في مقام عرض الخبر: "وخرجتْ زينبُ أختُ الحسين مسرعةً تنادي: يا أخياه وابن أخياه، وجاءتْ حتى أكبَّتْ عليه، فأخذ الحسين برأسها فردَّها إلى الفسطاط، وأمرَ فِتيانه فقال: "احملوا أخاكم" فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه"(10).
فألفاظُ الخبر وفقراتُه هي عينُها -تقريبًا- ألفاظُ وفقراتُ الخبر الذي أسنده الطبري لحميد بن مسلم غايتُه أنَّ الشيخ المفيد (رحمه الله) تنزَّه عن ذكر الفقرة التي شبَّه فيها حميدُ بن مسلم السيِّدة زينب بالشمس الطالعة، والظاهرُ أنَّ منشأ حذفِه لهذه الفقرة هو أنَّها تعدُّ وقاحةً وسوءَ أدبٍ من حميد بن مسلم.
وكذلك فإنَّ الطبرسي في إعلام الورى نقل الخبر المذكور بذات الألفاظ والفقرات التي ذكرها الشيخُ المفيد (رحمه الله) قال: "وخرجتْ زينبُ أُختُ الحسين مسرعةً تٌنادي: يا أخياه وابن أخياه، وجاءت حتى أكبَّت عليه، وأخذ الحسين عليه السلام برأسها فردَّها إلى الفسطاط .."(11) وكذلك ابن الجوزي في المنتظم مع اختلافٍ يسير، وأمَّا السيِّد ابن طاووس وابن نما الحلِّى فإنَّ ما أورداه وإنْ كان أكثر ايجازًا ولكنَّهما احتفظا بالكثير من ألفاظِه.
وعليه فإنَّ خبرَ خروج السيِّدة زينب (ع) إلى مصرع عليٍّ الأكبر (ع) يرجعُ إلى راوٍ واحدٍ هو حميدُ بن مسلم الأزدي وهو رجلٌ -كما قيل- مجهولُ الحال من حيثُ تحرِّي الصدق مِن عدمه ولكنَّه معلوم الفِسق، فقد كان في معسكر عمر بن سعد الذي قاتل الحسين (ع) وذكر البلاذري في أنساب الأشراف أنَّ المُختار طلبَه ليقتله لمشاركتِه في قتال الحسين (ع) فهربَ ونجا(12) وقيل إنَّه كان ضِمْن مَن بعثَهم عمرُ بن سعد برأس الحسين (ع) ورؤوس أصحابِه إلى ابن زياد، وسواءً صحَّ ذلك أو لم يصح فإنَّ الذي لا ريبَ فيه أنَّ الرجل كان ضِمْن جيش عمر بن سعد الذي قاتل الإمام الحسين (ع)، ومَن يتورَّط بمثل هذه الموبِقة فإنَّه لا يتورَّع عن الكذب، ولذلك لا يُعتدُّ بخبرِه وما يتفرَّدُ بنقلِه إلا أنْ يحتفَّ بقرائن تُوجبُ الاطمئنان أو الظنَّ بصدقِه وما عدا ذلك من إخباراته تكونُ ساقطةً عن الاعتبار.
وحيثُ إنَّ خبره بمشاهدتِه السيِّدة زينب (ع) وقد خرجتْ لمصرع عليٍّ الأكبر وانكبَّتْ على جسدِه ممَّا قد تفرَّد بنقلِه ولم تقُم الشواهدُ على صدقِه لذلك فهو ساقطٌ عن الاعتبار، هذا بقطع النظر عمَّا اشتملَ عليه خبرُه من أماراتِ الكذب، فقد وصف المرأةَ التي خرجتْ مسرعةً تُنادي يا أُخياه ويابن أخاه -على حدِّ زعمه- بأنَّها كالشمسِ الطالعة، وهذا معناه أنَّها كانت كاشفةَ الوجه، ولا ريبَ أنَّ ذلك من الكذبِ المفضوح، فالسيِّدةُ زينب (ع) كأمِّها لا تكشفُ وجهَها في محضرِ الرجال خصوصًا وأنَّ السبيَ بعدُ لم يقعْ، والحسينُ (ع) ما زال قادرًا ومَن معه من بني هاشم على الذَود عن النساء، فخروجُها في مثل هذا الظرف كاشفةَ الوجه لن يكونَ إلا اختياريًّا وهو شنيعٌ منه -قبَّحه الله- أنْ ينسبَ ذلك لمثل السيِّدة زينب (ع).
ثم إنَّه حاول أنْ يسترَ كذبه ويدفعَ عن نفسِه إشكالًا مقدَّرًا وهو كيف علِم بأنَّ المرأةَ التي زعِم أنَّها خرجتْ إلى مصرع الأكبر هي السيِّدةُ زينب ابنةُ فاطمة (ع)؟! لذلك قال إنَّه سأل عنها فقيل إنَّها زينبُ ابنةُ فاطمة، وهذه هي الكذبةُ الثانية التي كذبَها في هذا الخبر.
فمَن هو ذلك الذي سألَه عنها فأجابَه إنَّها السيدةُ زينب؟! فهل سأل عنها الإمامَ الحسين أو سأل العباسَ بن عليٍّ (ع)؟! أو أنَّه سأل عنها بعضَ مَن كان معه؟! وهل كان أحدٌ ممَّن معه في ذلك المشهد يعرفُ السيِّدةَ زينب ويعرفُ النساء اللاتي كُنَّ مع الحسين (ع) حتى يسألَه وينتظرُ الإجابةَ منه؟! ألم يكن يُدركُ أنَّ كلَّ مَن كان معه فهم مثلُه لا يعرفون السيِّدة زينب ولا غيرها من النساء اللاتي كنَّ مع الحسين (ع)؟! فلو كان قد سأل أحدًا ممَّن كان معه في جيش عمر بن سعد لسخِر من سؤالِه، ولهذا فالمُؤكَّد أنَّه لم يسأل، وهو كاذب في دعواه، وقد أراد أنْ يدفعَ عن نفسِه تهمةَ الكذب فوقَع فيما أوجب التأكيد لكذبتِه الأولى التي زعم فيها أنَّ امرأةً خرجتْ وكانت كاشفةَ الوجه.
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ خبرَ خروج السيِّدة زينب إلى مصرع الأكبر قد تفرَّد بنقلِه حميدُ بنُ مسلم وهو ممَّن لا يعتدُّ بما تفرَّدَ بنقلِه إلا أنْ يحتفَّ خبرُه بما يوجبُ الاطمئنان أو الظن بالصدق، وحيثُ لا شاهد على صدق هذا الخبر بل الشواهدُ قائمةٌ على كذب بعض مضامينِه لذلك فالخبرُ ساقطٌ برمَّته عن الاعتبار.
فحيثُ إنَّ حميد بن مسلم قد كذبَ دون ريبٍ في دعواه أنَّ السيِّدةَ زينب كانت كاشفةَ الوجه، وكذبَ في دعواه أنَّه سأل عنها فقيل إنَّها زينبُ ابنةُ فاطمة (ع) لذلك فإخبارُه عن خروج امرأةٍ تُنادي يا أُخياه ويابن أخاه يكونُ موردًا للارتيابِ الشديدِ المانعِ من صحَّة الاعتدادِ به.
نعم يظهرُ من الشيخ المفيد والطبرسي والسيِّد ابن طاووس وابن نما الحلِّي أنَّهم لم يصدِّقوا حميد بن مسلم في دعواه أنَّها كانت كاشفَةَ الوجه لذلك حذفوا فقرة: كأنَّها الشمسُ الطالعة، ويظهرُ منهم أنَّهم لم يصدَّقوه في دعواه أنَّه سأل عنها فقيل إنَّها زينب ابنةُ فاطمة (ع) لذلك قالوا إنَّها زينب أُختُ الحسين أو ابنةُ عليٍّ (ع) واعتمدوا في ذلك على ما زعمه أنَّها كانت تُنادي يا أخياه ويابن أخاه فيكون من المُحتمل أنَّها ابنةُ فاطمة ويحتملُ أنَّها ابنةُ عليٍّ من غير فاطمة (ع).
وبهذا نكونُ قد أجبنا عن السؤالين الأولِ والثاني، وأمَّا السؤالُ الثالث والذي كان حول منشأِ خروج السيِّدة زينب (ع) لمصرع عليٍّ الأكبر وأنَّه هل كان منشأُ خروجِها هو خشيتُها على الحسين (ع) حتى لا يموتُ كمَدًا على جثمان ولدِه الأكبر؟!
فجوابُه: إنَّ السؤال عن منشأ الخروج مبتنٍ على أصل تحقُّقِ الخروج منها (ع) وقد تبيَّن أنَّ ذلك لم يثبتْ ولكن مع التنزُّل والقبول بأصل الخروج تعويلاً على ما زعمه حميدُ بن مسلم إلا أنَّ هذه الزيادة -التي لا تُعرف بطبعِها إلا بواسطة التصريح- ليس لها عينٌ ولا أثرٌ في شيءٍ من كتب الأخبار والمصادر المُعوَّل عليها، نعم ذكر ذلك بعضُ المتأخِّرين وهو الشيخ محمد مهدي الحائري (رحمه الله) المتوفى سنة 1385ه في كتابه معالي السبطين، ولم يذكر لذلك مصدرًا لذلك لا يصحُّ التعويل على ما ذكره، على أنَّه يظهر من كلامِه أنَّ ذلك مجرَّد حدسٍ استنبطَه من خروج السيِّدة المزعوم فهو ليس خبرًا ينقلُه عن أحدٍ قال: "وإنَّما سبقتْ أخاها لأنَّها علِمتْ بأنَّ عليَّاً قد قُتل، ولو رآه الحسين (ع) لفارقتْ روحُه جسدَه فأشغَلتَه بأمر الناموس حتى تهونَ عليه المصيبة لأنَّ أمرَ الناموس أصعبُ الأمور على الغيور، فإذا رأى الإنسانُ أخته أو حرمَه بين الأعداء فينسى غير ذلك"(13).
والواضحُ من كلامِه أنَّ التعليل الذي ذكرَه لا يعدو الحدْس، فهو لم يُسنِد هذا التعليل إلى السيِّدة زينب (ع) أو غيرها ممَّن يُمكنُه الوقوفُ على منشأ خروجِها وجلوسِها عند مصرع عليٍّ الأكبر (ع) ثم ما هذا التعليلُ المُسيء والذي يُوحِي لمَن يَقرأُه أنَّ الحسينَ (ع) على درجةٍ من الضَعفِ بحيثُ يُخشى عليه الموت كمَدًا لو رأى ولدَه شهيدًا!! وهذا ما لا يكادُ يتَّفق لعوامِّ الناس، أهكذا هو الحسين الذي ينطوي على قلبِ رسول الله وصبرِه وبصيرتِه؟! وهل هذا هو مقامُ الحسين وارثِ الأنبياء؟!
فإنْ قيل إنَّ الشهيدَ الذي نتحدَّثُ عنه هو عليٌّ الأكبر (ع) قلنا ووالدُ الشهيد الذي نتحدَّثُ عنه هو الإمامُ الحسين (ع).
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
12 / محرم الحرام / 1439
3 / أكتوبر / 2017
1- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص341.
2- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص 30.
3- مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص77.
4- تاريخ دمشق -ابنُ عساكر- ج69 / ص 169.
5- اللهوف على قتلى الطّفوف -السيِّد ابن طاووس- ص68.
6- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص107.
7- إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص465.
8- مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص51.
9- المنتظم -ابن الجوزي- ج5 / ص340.
10- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص107.
11- إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص465.
12- أنساب الأشراف -البلاذري- ج5 / ص409.
13- معالي السبطين -الشيخ محمد مهدي الحائري- المجلس الرابع عشر ص376.