ما يذكرُه بعضُ الخُطباء في وداع الأكبر (ع)
المسألة:
ما يتداولُه بعضُ الخطباء من أنَّ الحسين (ع) صار كهيئة المُحتضِر عند وداع ولدِه الأكبر (ع) وغارتْ عيناه في أُمِّ رأسِه وأُغميَ عليه ثم حين أُصيبَ ولده في المعركة خرج إليه مذهولًا مضطربًا لا يدري إلى أين يتَّجه وبعدها ملأ الفضاء بصراخه: "ولدي علي" ثم امتدَّ بطول ولدِه عليٍّ في المعركة وهو ينتحبُ، ألا يُعدُّ ذلك منافياً لتوصياتِه وحرصِه الشديد ومحاذرتِه مِن شماتةِ الأعداء، ثم ألا يُعدُّ ذلك من الانهيار غير المُناسب لمقام الإمام (ع) والذي هو أُسوةٌ في التجلُّدِ والصبر عند نزول البلاء ليس لمَن حولَه وحسب بل للأجيال المُتعاقبة؟.
الجواب:
قُصارى ما وردَ في الأخبار:
إنَّ الذي يذكرُه هؤلاءِ الخطباء الكرام من فعل الإمام الحسين (ع) حين وداع ولدِه الأكبر وحين استشهاده وبعده ليس له ذكرٌ في كتب الأخبار المُعتبرة ولا هو مذكورٌ في كلمات المؤرِّخين من الفريقين، وقُصارى ما ورد في هذا الشأن هو أنَّ الإمامَ الحسين (ع) أرخى عينيه بالدموع فبكى وقال: "اللهمَّ كنْ أنت الشهيدُ عليهم، فقد برزَ إليهم ابنُ رسولِك، وأشبهُ الناس وجهًا وسمتًا به" كما في رواية الشيخ الصدوق(1) أو قال كما في اللهوف للسيِّد ابن طاووس: "اللهمَّ اشهدْ فقد برزَ إليهم غلامٌ أشبهُ الناس خَلقًا وخُلقًا ومنطقًا برسولِك (صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم) وكنَّا إذا اشتقنا إلى نبيِّك نظرنا إليه ثم صاح وقال: "يا بن سعد قطعَ اللهُ رحمَك كما قطعتَ رحمي"(2) أو قال ما يقربُ من هذا الدعاء، وفي مقتل الحسين للخوارزمي يقال: إنَّ الإمام الحسين (ع) خاطب حينها عمر بن سعد بقوله: "ما لك! قطع اللهُ رحمك ولا باركَ لك في أمرِك، وسلَّطَ عليك مَن يذبحُك على فراشِك، كما قطعتَ رحمي ولم تحفظْ قرابتي من رسول الله. ثمّ رفع صوتَه وقرأ: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ / ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(3)"(4).
وقال (عليه السلام) مؤبِّنًا له بعد أنْ قُتل وقد وقفَ على مصرعِه: "على الدنيا بعدك العفا" كما في المناقب لابن شهراشوب(5) وغيره أو قال كما في اللهوف: "قتلَ اللهُ قوماً قتلوك ما أجرأَهم على الله وعلى انتهاك حُرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا"(6) قال ذلك بحسب نقل ابن طاووس بعد أنْ وقفَ على مصرعِه ووضع خدَّه على خدِّه تعبيرًا عن حُزنه أو تكريمًا للشهيد ولِيَعرفَ العالَمُون أنَّ هذا الذي يقعُ من قلبِه هذا الموقع قد سخى به في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، فكان أول شهيدٍ من بني هاشم ثم إنَّه ضمَّه إلى صدره وحمله إلى الفسطاط كما في المناقب(7) أو إنَّه أمرَ فتيانَه فقال: "احملوا أخاكم" فحملوه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يُقاتلون أمامه" كما في الإرشاد للمفيد(8) وغيره.
تلك هي قصارى ما ورد في الأخبار وكلمات المؤرِّخين من قول الإمام الحسين (ع) وفعلِه حين وداع ولدِه الأكبر(ع) وبعد أنْ وقفَ على مصرعِه. وكلُّ ذلك وما يقربُ منه ممَّا أوردوه لا يتنافى مع مقام الحسين (ع) وما عُرفَ عنه مِن رباطةٍ في الجأش وصبرٍ منقطعِ النظير على النوازل.
فأين هي دعوى أنَّه صار كالمُحتضِر وغارتْ عيناه في أُمِّ رأسِه وأذهلَه الخطبُ حتى أنَّه لا يدري إلى أين يتَّجه!! وأين هي دعوى عويلِه الذي ملأ به فضاء كربلاء، فلعمري إنَّ ذلك لشنيعٌ أنْ يُنسبَ للمعصوم (ع) مالم تثبتْ نسبتُه، وأشنعُ من ذلك أنْ يُنسبَ إليه ما لا يليقُ صدورُه من عامَّة الناس.
إنَّ هذا الذي يذكرُه هؤلاءِ الخطباء الكرام من حالات الانكسار لو صدرتْ أو صدرَ بعضُها من أحد عوامِّ الناس حين يفقِدُ ولدَه لأشفقنا عليه وعمِلنا على تسليتِه ولقلنا: أعانه الله لقد ضعُف قلبُه عن مقاومةِ المُصاب، ولو صدرَ من أحدِ العلماء أو الوجهاء لكان ذلك مُوجباً لاستنقاصه ولهَانَ عندنا شأنُه، ولقُلنا في أنفسِنا كان ينبغي عليه أنْ يتجمَّلَ ويصبر، فهل يقبلُ هؤلاءِ الخطباء الكرام -وإن كانوا صادقين في نيَّاتهم- أنْ تكونَ تلك هي صورة الإمام الحسين في أذهان أتباعِه ومُحبِّيه؟! وهل بهذه الصورة نُقدِّم الحسين (ع) للعالم؟!
التنظير بنبيِّ الله يعقوب (ع):
قد يُقال: لماذا تستبعدون ذلك والحال أنَّ له نظيرًا في تاريخ الرسالات، فنبيُّ الله يعقوب (ع) قد فقَد ولده ولم يرَه ذبيحًا ورغم ذلك ابيضَّت عيناه من الحُزن وفقَدَ بصرَه لكثرة بكائه على ولده؟!
والجواب هو أنَّ ثمة فرقًا بين الموردين، فنبيُّ الله يعقوب (ع) كان يبكي وحده بوقارٍ على فِراق ولَدِه أو بين ذويه ومحبِّيه، وأمَّا الانهيار المزعوم التي يتفنَّن بعضُ الخطباء في تصويره لحالة الإمام الحسين (ع) بعد مقتل ولدِه عليٍّ الأكبر حتى قيل إنَّه ملأ البيداء بالصراخ: ولدي ياعلي وصار ذاهلًا لا يدري أين يتَّجه، إنَّ مثل هذا الانهيار لجلال المصاب كان في محضر الأعداء، والواضح أنَّ العقلاء من ذوي المروءات والشرف فضلًا عن الإمام المعصوم يحرصون في مثل هذا الظرف على رعاية السَّمتِ والوَقار والتجلُّد وعدم الظهور في مظهر الضعف والانكسار حتى لا يشمتُ بهم الأعداء والذي هو أشدُّ إيلامًا وأذىً للنفوس الأبيَّة من ذاتِ المُصاب كما يظهرُ ذلك من العديد من النصوص الواردة عن أهل البيت (ع).
على أنَّه إذا كان البناء التنظير بأحوال الأنبياء (ع) دون ملاحظة اختلاف الظروف والملابسات، فالمناسبُ لمقام الإمام الحسين (ع) وعلوِّ شأنِه الذي لا يُسامى التنظيرُ له بجدِّه شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل الذي بادر -مطمئنًا مسلِّمًا- إلى فري أوداج ولده إسماعيل بيده لولا أنْ فداه اللهُ تعالى بذبحٍ عظيم. ولعلَّه لذلك تلا سيِّدُ الشهداء (ع) حين ودَّع ولده الأكبر قولَه تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ / ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
دعوى أنَّ الحسين (ع) أخطأ طريقَه إلى مصرع ولدِه:
ثم إنَّ دعوى أنَّ الحسين (ع) أخطأ طريقَه إلى مصرع ولدِه الأكبر وظلَّ حائرًا يدورُ ذاهلاً في الميدان -على حدِّ تعبير بعضِهم- لا يدري أين هو جثمانُ ولدِه الأكبر لشدَّةِ ما أصابَه من الحُزن والأسى فكان يدورُ وقد اضطرب وخفيَ عليه موضعُ جثمانِ ولده ويصيحُ ولدي يا علي حتى تفطَّن لذلك فرسُه أو تفطَّن لذلك جوادُ الأكبر فقادَه إلى جثمان ولدِه!!، إنَّ مثل هذه النقولات تتنافى مع أصلٍ من أُصول العقيدة، فالحسينُ (ع) إمامٌ معصوم لا يطيشُ له رأيٌ ولا يُذهلُه خطبٌ مهما كان عظيمًا وجليلًا. فالمعصومُ وإنْ كان عطوفًا رؤوفًا رحيمَ القلب يُدركُه الحُزن وتدمعُ عيناه، وقد يُجهِشُ بالبكاء استجابةً لمشهدٍ مأساويٍّ أو عاطفي إلا أنَّ الحُزنَ والأسى وإنْ تعاظمتْ أسبابُه فإنَّه لا يستبدُّ بقلبِ المعصوم فيُخرجُه عن صوابِه أو يسلبُ شيئًا -وإنْ تضاءلَ- من كمالِ عقلِه ورؤيتِه للواقع كما هو.
والغريبُ أنَّ بعض مَن عُرفوا بالتساهل في النقل أقرَّ بأنَّ هذه الدعوى -التي نقلَها عن مجاهيل- منافيةٌ لعصمة الإمام (ع) لكنَّه قال: إنَّ الأولى والأحسنَ التحرُّزُ والاجتنابُ عن نقلِها في مجالس العزاء، وكان عليه أنْ يقولَ: إنَّ المتعيَّن هو عدم النقل لها بعد الإقرار بمنافاتِها لمقام العصمة والإقرارِ بمنافاتِها لما عُرفَ عن الحسين (ع) من رباطةِ الجأش كما شهِد بذلك الأعداء وأنَّهم لم يرو أربطَ جأشًا منه.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
9 / محرم / 1439هــ
30 / 9 / 2017م
1- الأمالي -الشّيخ الصّدوق- ص226.
2- اللهوف على قتلى الطّفوف -السيِّد ابن طاووس- ص67.
3- سورة آل عمران/ 33-34.
4- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص30.
5- المناقب -ابن شهراشوب- ج3 / ص257.
6- اللهوف على قتلى الطّفوف -السيِّد ابن طاووس- ص68.
7- المناقب -ابن شهراشوب- ج3 / ص257.
8- الإرشاد -للمفيد- ج2 / ص107.