الفرق بين الفتوى بالاحتياط والاحتياط بالفتوى
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما الفرق بين الفتوى بالاحتياط والاحتياط في الفتوى؟ وما هي موارد كلٍّ منهما؟
الجواب:
إذا توصَّل المجتهد بعد بذل الوسع والفحص المعذِّر في الأدلَّة إلى نتيجةٍ شرعية في قضيةٍ من القضايا الكليَّة، ورأى أنَّ هذه النتيجة هي الحجَّة بينه وبين الله تعالى، وأنَّه معذورٌ في إلقائها لمَن قوله حجَّة عليهم فهذه النتيجة يُعبَّر عنها بالفتوى.
والفتوى قد يكون متعلَّقها حكماً شرعيَّاً وضعياً وقد يكون متعلَّقُها حكماً شرعياً تكليفياً، وقد يكون متعلَّقها الاحتياط بالالتزام بفعلٍ أو ترك أو رعاية شرطٍ أومانع أو ما أشبه ذلك، فالفتوى بالاحتياط فتوى كسائر الفتاوى تنشأ عن اجتهادٍ وفحصٍ في الأدلة، فتكون هي الخلاصة التى أدَّى إليها رأيُ المجتهد بعد الفحص في الأدلة، فكما أنَّ المجتهد يُفتي بعد ملاحظة الأدلة بالوجوب أو الاستحباب أو الحرمة أو الصحَّة أو الفساد كذلك قد يُفتي بالاحتياط، ولهذا يجب الالتزام بمقتضى الفتوى بالاحتياط على كلِّ مكلَّفٍ تكون فتاوى هذا المجتهد حجَّةً في حقه، فلا يجوز له الرجوع إلى غيره في المسائل التي أفتى فيها بالاحتياط كما لا يجوز له الرجوع إلى غيره في المسائل التي أفتى فيها بالوجوب مثلاً، لأنَّه إنَّما يجوز الرجوع إلى مجتهدٍ آخر في فرض عدم وجود رأيٍ وفتوى للمجتهد الواجب تقليده، وقد ذكرنا أنَّ الفتوى بالاحتياط في مسألة من المسائل هي واقعاً رأيُ الفقيه وفتواه في تلك المسألة.
وأمَّا الاحتياط بالفتوى فهي ليست فتوى وإنَّما هي احتياط بعدم الفتوى، لذلك يتمحَّض قول الفقيه في مثل هذه الموارد ببيان الكيفيَّة التي يُحرِز معها المكلَّف عدم الوقوع في مخالفة التكليف الواقعي لو كان موجوداً واقعاً. وعليه فلأنَّ الاحتياط بالفتوى معناه أنَّ الفقيه ليس له رأي في المسألة لهذا يصحُّ الرجوع إلى غيره من الفقهاء ممَّن له رأيٌ وفتوى في المسألة.
موارد الفتوى بالاحتياط:
وأمَّا موارد الفتوى بالاحتياط فهي مثل الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي كما لو علم المكلَّف أنَّ أحد الإنائين غير المعيَّن مشتملٌ على ماءٍ متنجس والآخر غير المعيَّن مشتملٌ على ماءٍ طاهر أو اختلط عنده لحمٌ مذكَّى بلحمٍ غير مذكَّى فإنَّ الفقيه في مثل هذين الفرضين يُفتي بلزوم ترك الشرب لكلا المائين وترك الأكل لتمام اللحم الواقع في دائرة الشبهة، فهذا الذي أفاده من لزوم الترك هو المُعبَّر عنه بالفتوى بالاحتياط.
ومن موارد الفتوى بالإحتياط العلم باشتغال الذمة بالتكليف والشك فيما يُخرج عن عهدة هذا التكليف أو الشك في الخروج عن عهدة هذا التكليف، ومثال الأول افتراض علم المكلَّف باشتغال ذمته بفريضةٍ دائرة بين صلاة المغرب و صلاة الصبح، فهو يشك في المُخرِج عن عهدة التكليف، فهل أداء صلاة المغرب مخرج عن عهدة التكليف أو أداء صلاة الصبح؟ فحين يُفتي الفقيه في هذا الفرض بلزوم الإتيان بالصلاتين فإنَّ ذلك من الفتوى بالاحتياط، وهكذا حينما يُفتي بأداء الصلاة إلى الجهات الأربع عند اِشتباه القبلة أو اشتباه الثوب الطاهر بالثوب المتنجس أو يشتبه الفقير بين اثنين فيُفتي بلزوم التصدُّق عليهما معاً ليُحرِز المكلف بذلك أنَّه وضع الصدقة الواجبة في محلِّها.
وكذلك لو كان للمكلَّف ماءان أحدهما غير المعيَّن مطلق والآخر مضاف، وعليه غسلٌ واجب فإنَّ الفقيه حين يُفتي في هذا الفرض بوجوب الغسل مرتين كل مرة بأحد المائين لإحراز الخروج عن عهدة التكليف فإنَّ ذلك من الفتوى بالاحتياط.
ومثال الفرض الثاني هو العلم باشتغال الذمة بصلاة الظهر مثلاً والشك قبل انقضاء الوقت في أدائها فإنَّه من الشك في الخروج من العهدة المتيقنة بالتكليف فحين يُفتي الفقيه بلزوم الخروج اليقيني من عهدة التكليف، وذلك بأداء صلاة الظهر فذلك من الفتوى بالاحتياط.
موارد الاحتياط بالفتوى:
وأمَّا موارد الاحتياط بالفتوى فهي مثل الشبهات الحكمية قبل الفحص عن الدليل أو قبل الفحص عن المخصِّص بعد الوقوف على أصل الدليل.
ومثاله ما لو سُئل المجتهد عن حكم لحم الأرنب، وهو بعدُ لم يفحص في الأدلة، فهو لو أجاب فإنَّه سيُجيب بالاحتياط بالترك، ومؤدَّى هذا الجواب هو تجنُّب الفتوى، فجوابه لايعدو البيان لكيفيَّة التحرُّز عن الوقوع في مخالفة الواقع أي أنَّه لو كان لحمُ الأرنب حراماً واقعاً لما كان جوابه موجباً لوقوع المكلَّف في مخالفة هذا التكليف الواقعي.
وكذلك يُمكن التمثيل بما لو قام الدليل على لزوم استئذان الولي في زواج البكر، وكان من المحتمل أنَّ هذا الدليل مخصَّص بما لوكانت البكر غير رشيدة وغير مستقلَّة، وهو لم يفحص عن وجود هذا المخصِّص المحتمل، فحينئذٍ لا يسعه الاإفتاء بسقوط شرط الاستئذان عن البكر الرشيدة كما لا يسوغ له الإفتاء باعتبار هذا الشرط في البكر الرشيدة المستقلة، لذلك فهو يحتاط بالاحتياط اللزومي.
وقد يحتاط المجتهد في مسألةٍ عندما لا ينهض الدليل بنظره على الوجوب مثلاً ولكنَّه لم يشأ الإفتاء بعدم الوجوب للاستيحاش من مخالفة المشهور أو الاجماع أو كون المسألة من مسائل الفروج أو الدماء أو أنَّ الدليل على الوجوب من الوجاهة بحيث يصعب المجازفة بالإفتاء على خلافه فيحتاط بلزوم الفعل، وهذا مساوقٌ للاحتياط بعدم الفتوى.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور