المصادرُ التي اعتمدَها المفيدُ في مقتل الحسين (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل صرَّح الشيخُ المفيد (رحمه الله) بمستندِه إلى الأخبار التي أوردَها في كتاب الإرشاد حول مقتلِ الإمام الحسين (ع) أو يُعدُّ ما أورَده في ذلك مِن المراسيل؟
الجواب:
لقد أفاد الشيخُ المفيد (رحمه الله) في كتاب الإرشاد في مطلع المُختصر الذي أورَدَه حول تفاصيل مقتل الإمام الحسين (ع) أفاد بأنَّه قد اعتمدَ فيما أوردَه في هذا المختصر على ما رواه أصحابُ السِيَر وذكرَ منهم الكلبيَّ والمدائني، ومقصودُه من الكلبيِّ هو أبو المُنذر هشام بن محمَّد بن السائب الكلبي، وأمَّا المدائني فهو أبو الحسن عليُّ بن محمد المدائني، وكلٌّ منهما كان من أعلام القرن الثاني ومطلع الثالث الهجري وكلاهما كان متميِّزًا ويحظى بشهرةٍ واسعة في علم الأنساب وأخبار العرب وأيامها ووقائعها، وكلاهما كان له كتابٌ مستقلٌّ في مقتل الحسين (ع)(1).
هشام الكلبي كان معروفًا بالتشيُّع والفضل والعلم:
أمَّا أبو المنذر هشام الكلبي فكان معروفًا بالتشيُّع ذكر ذلك أكثرُ مَن ترجم له من الفريقين(2)، وكان من أصحاب الإمام الصادق (ع) كما أفاد ذلك الشيخُ النجاشي، قال (رحمه الله) في ترجمته: "هشام بن محمد بن السائب .. أبو المُنذر، الناسب، العالم بالأيام، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختصُّ بمذهبِنا .."(3).
وأفاد الشيخُ النجاشي أيضًا أنَّ الإمام الصادق (ع) كان: "يُقرِّبه ويُدنيه ويبسطُه" ونقل النجاشي عن الكلبي حديثًا وصفه بالمشهور قال -الكلبي-: "اعتللتُ علَّةً عظيمة نسيتُ علمي فجلستُ إلى جعفر بن محمَّد (عليه السلام) فسقاني العلم في كأسٍ، فعادَ إليَّ علمي"(4) أي عُوفي من مرضِه وعادتْ إليه ذاكرتُه بعد أنْ شرِب من الكأس الذي باركه الإمام (ع).
وترجم له العامَّة من علماء الجرح والتعديل وأثنوا تميُّزه ولكنَّهم غمزوا في وثاقته لكونِه معروفًا بالتشيُّع، ورغم ذلك صرَّحوا بأنَّ عليه المعوَّل في علم الأنساب وأخبار العرب وأيامها وأمثالها، وقد نقلَ عنه أكثر المؤرِّخين الذين جاؤا بعده أمثال البلاذري، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وخليفة بن خياط في طبقات خليفة وغيرهم، وقد صنَّف ما يزيد على المائة وثلاثين كتابًا بحسب ما أفاده ابنُ النديم وما يزيدُ على المائة الخمسين مصنَّفًا بحسب ما ذكره الذهبي وغيرُه(5).
وأمَّا عليُّ بن محمد المدائني، فقد أفاد الشيخُ الطوسي في الفهرست أنَّه: "عاميُّ المذهب، وله كتبٌ كثيرة حسَنة في السِيَر، وله كتابُ مقتل الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام)، وكتاب الخونة لأمير المؤمنين (عليه السلام) .."(6).
وكيف كان فقد قال الشيخُ المفيد (رحمه الله) في مقدِّمة المختصر الذي أوردَه في كتاب الإرشاد حول مقتل الإمام الحسين (ع) ما هذا نصُّه: "فصل: فمن مختصر الأخبار التي جاءت بسبب دعوته عليه السلام وما أَخذَه على الناس في الجهاد من بيعتِه، وذكْرُ جملةٍ من أمرِه وخروجِه ومقتلِه ما رواه الكلبي والمدائني وغيرُهما من أصحاب السِيرة قالوا .."(7).
المستفاد من مقدِّمة المفيد لمقتل الإرشاد:
والظاهر ممَّا أفاده:
أولًا: أنَّ كُتبَ ومرويَّات مَن أخذ عنهم -ممَّن وصفَهم بأصحاب السِيرة ومنهم الكلبي والمدائني- كانت عنده وكانت مُحرَزةَ النسبة لأصحابِها، لذلك لم يكن بحاجةٍ إلى ذكر طُرقِه إلى هذه الكتب، ولولا ذلك لمَّا صحَّ له القول: رواهُ الكلبيُّ والمدائني وأصحاب السِيَر ولكان المُناسب التعبير بالمرويِّ عن المدائني والكلبي وأصحاب السِيَر، فقولُه (رحمه الله): (رواهُ) صريحٌ في إحرازه أنَّ هؤلاء قد رووا ما سوف ينقلُه، وكذلك هو مفادُ قولِه بعد ذلك: (قالوا).
ثانيًا: الظاهرُ أنَّه لم يُعوِّل فيما نقلَه في هذا المُختصر على ما تفرَّد به واحدٌ من أصحاب السِيَر بل كان ينقلُ ما يتوافقُ على نقلِه عددٌ لا يقلُّ عن ثلاثةٍ من أصحاب السِيَر، وذلك بقرينة تصديره ما نقلَه في هذا المختصر بقولِه: "ما رواه الكلبيُّ والمدائنيُّ وغيرُهما من أصحاب السيرة قالوا .." فقولُه رحمه الله: (قالوا): ظاهرٌ في أنَّه كان بصدد إسناد كلِّ خبرٍ أوردَه في هذا المُختصر إلى عددٍ من أصحاب السِيَر وليس إلى واحدٍ أو اثنين منهم وإلا كان ذلك من الكذب أو لا أقل من التدليس، وهو ما يجلُّ عنه مقامُ الشيخ المفيد المعروف بأعلى درجات التثبُّت والورَع والحريجةِ في الدين.
وبتعبيرٍ آخر: لو كان ينقل الخبرُ عن واحدٍ أو اثنين لكان من الكذب أنْ يقول: قالوا، وكذلك لولم يكن الكلبيُّ والمدائنيُّ ضِمَن المنقول عنهم لكان إسناد الإخبار عنهم بقالوا من الكذب، فيتعيَّن البناء على أنَّ مَن ينقل عنهم من المحدِّثين كانوا أكثر من اثنين وأنَّ الكلبيَّ والمدائني ضِمْن المحدِّثين الذين ينقلُ عنهم.
ثالثًا: الظاهرُ ممَّا أفادَه الشيخُ المفيد (رحمه الله) في هذه المقدِّمة أنَّ الكلبيَّ والمدائني كانا ضِمن مَن نقل عنهم جميعَ ما أوردَه من أخبار حول المقتل في هذا المختصر، بمعنى أنَّ كلَّ خبرٍ أوردَه في هذا المختصر أخذَه عن الكلبيِّ والمداني وآخرين معهما، فالكلبيُّ والمدائنيُّ مصدران لكلِّ ما أوردَه مضافًا لغيرهما من أصحاب السِيَر واحدًا أو أكثر، وبهذا تخرجُ مجموعُ الأخبار -التي أورَدها حول مقتل الحسين (ع)- عن الإرسال من جهتِه.
رابعًا: يظهرُ من ملاحظة المُقدِّمة وعموم ما أوردَه الشيخُ المفيد (رحمه الله) في هذا المُختصر أنَّه لم يعتمدْ طريقةَ نقل كلِّ خبرٍ -مسندًا إلى مصدره- على حِدَه كما في مثل أنساب الأشراف وتاريخ الطبري وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر بل إنَّه لاحظَ كُتبَ السِيَر التي اعتمدَها وصاغ منها قصةَ المقتل كاملةً ومتسلسلة وأسندها إلى أصحاب السِيَر الذين منهم الكلبيُّ والمدائني، فكلُّ خبرٍ أوردَه في هذه القصَّة قد توافَقَ على نقلِه عددٌ من أصحابِ السِيَر على أنْ يكون منهم الكلبيُّ والمدائني إلا ما صرَّح فيه بخلاف ذلك وهو قليل جدًّا.
منشأ التميُّز لمقتل الإرشاد:
وبطبيعة الحال فإنَّ الشيخَ المفيد (رحمه الله) لم يضمنْ صحَّة ما أوردَه من أخبار في هذا المُختصر ولكنَّه ضمِنَ أخذها مِن كتبِ ومرويَّاتِ أصحابِ السِيَر المعلوم انتسابها إلى أصحابِها والذين منهم الكلبيُّ والمدائني، فهو لم ينقل عن كُتبٍ لا يُحرِز انتسابَها إلى أصحابها، ولكنَّه يبقى البحث في طُرق أصحاب الكتُب إلى الرواة والمحدِّثين الذين أخذوا عنهم، ورغم ذلك فإنَّ ما أوردَه الشيخُ المفيد في هذا المختصر حول مقتل الحسين (ع) يحظى بأهميَّةٍ متميِّزة وقيمةٍ علميَّة فائقة قد لا تحظى بها أكثرُ الكتب التأريخيَّة المتداولة وذلك:
أولًا: لأنَّ كلَّ خبرٍ نقلَه عن أصحاب السِيَر كان الكلبيُّ والمدائني ضِمن مَن نقلَ عنهم، فيكون الخبر منقولًا عن علَمين من أعلام الفريقين وكلاهما مشهودٌ له بالتميٌّز وسعةِ الإحاطة بالأخبار، وكلاهما مرجعٌ لمن جاء بعده من أصحاب السِيَر، وكلاهما يتميَّزُ بقربِ عهده من واقعة الطف، فالكلبيُّ كان مولدُه في بدايات العقد الثاني بعد المائة من الهجرة، والمدائنيُّ وُلد في حدود السنة الثانية أو الخامسة والثلاثين بعد المائة(8)، فليس بينهما وبين مَن شهِد أو عاصر الواقعة سوى واسطتين أو ثلاث وسائط، وفي بعض الحالات واسطةٌ واحدة، ويتميَّز الكلبيُّ بما أفاده النجاشي بأنَّه كان مشهورًا بالفضل والعلم وكان يختصُّ بمذهبنا، وكان الإمامُ الصادق (ع): "يُقرِّبه ويُدنيه ويبسطُه"، ويتميَّز المدائني بتوافق علماء الجرح والتعديل من أبناء العامَّة على وثاقتِه وتثبُّته حتى قال عنه يحيى بنُ معين: ثقة ثقة ثقة(9)، وهو عندنا غير مُتَّهم بالنُصب بل هو قريب كما تشهدُ له طبيعةُ كتبه ومرويَّاتُه مثل كتابه الذي نقل فيه خطب أمير المؤمنين(ع) وكتبه إلى عمَّاله وكتابه في أخبار ولد أبي طالب مضافًا إلى كتابه في مقتل الحسين(ع) وقد تقدم أنَّ الشيخ الطوسي وصف كتبه بالحسنة(10).
وثانيًا: وهو الأهمُّ أنَّ الشيخ المفيد (رحمه الله) نقل كلَّ خبرٍ من أخبار المقتل عن مجموعةٍ من أصحاب السِيَر ولم ينقل ما تفرَّد بنقلِه واحدٌ أو اثنان من أصحاب السِيَر، فكلُّ خبرٍ في كتاب الإرشاد أوردَه الشيخ المفيد في المختصر من مقتل الحسين (ع) فهو ينقلُه من طرقٍ متعدِّدة لا تقلُّ عن ثلاثة طُرق، وذلك يقتضي تميُّزَه على الكثير من كُتب المؤرِّخين المتداولة كما يقتضي السكونَ إلى ما ينقلُه وترجيحَ خبرِه على ما يُعارضُه ما لم يكن في البين مرجِّحٌ أقوى.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
25 / صفر المظفر/ 1440هـ
4 / نوفمبر / 2018م
1- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -الشيخ النجاشي- ص435، الفهرست -الشيخ الطوسي- ص159، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 / ص66، فهرست ابن النديم -ابن النديم البغدادي- ص108.
2- تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص343، الوافي بالوفيات -الصفدي- ج 26 / ص53.
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -الشيخ النجاشي- ص434.
4- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -الشيخ النجاشي- ص434.
5- فهرست ابن النديم -ابن النديم البغدادي- ص110، ميزان الإعتدال -الذهبي- ج4 / ص305، الوافي بالوفيات -الصفدي- ج27 / ص212، مرآة الجنان -اليافعي- ج2 / ص23، معجم الأدباء -ياقوت الحموي- ج19 / ص387، وفيات الأعيان -ابن خلكان- ج6 ص82، تاريخ الإسلام للذهبي ج14 / ص420، المعارف -ابن قتيبة الدينوري- ص536.
6- الفهرست -الشيخ الطوسي- ص159.
7- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص32.
8- سير أعلام النبلاء -الذهبي ج10 / ص401، فهرست ابن النديم -ابن النديم- ص113.
9- سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج10 / ص401، لسان الميزان -ابن حجر- ج4 / ص253.
10- الفهرست -الشيخ الطوسي- ص159، فهرست ابن النديم -ابن النديم- ص114، معجم المؤلفين -عمر كحالة- ج7 / ص211.