حياةُ البرزَخ حقيقةٌ وليست خرافة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾(1) وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾(2) ألا تنافي هاتان الآيتان ما ورد في الروايات عن الرسول (ص) وأهلِ بيتِه (ع) من استحباب تلقينِ الميِّت وبأنَّه يسمعُ التلقين ويَعيه، وما ورد من أنَّ الأموات فيهم من يُنعَّم وفيهم من يُعذَّب، وما ورد من أنَّ الميِّت يُساءلُ في قبره، وكلُّ ذلك يعني أنَّ له شعورًا وهو ما ينافي ظاهر الآيتين من فقدان الميِّت للشعور، وكذلك هو منافٍ للوجدان، إذ لا ريب أنَّ الإنسان حين يفقدُ حياته يفقدُ معها حواسَّه ومداركه وشعورَه، فما هو جوابُكم على ذلك؟
الجواب:
نفيُ السمع عن الموتى لا ينفي حياة الأرواح:
المتفاهَم عُرفًا من كلمة الموتى في مثل قولِه تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ هي تلك الجثامين والجثث الهامدة الفاقدة للحياة، وكذلك هو مدلول التعبير بمَن في القبور، فإنَّ العُرف يفهمُ من قولِه تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ هو عدم قابليَّة تلك الجثامين والرفاة المقبورة للسماع، فتلك الجثامين والرفاة والجثث الهامدة هي التي لا تسمعُ ولا تُبصرُ ولا تعقِل ولا تشعُر، فهي فاقدةٌ لمطلق المُدركات الحسيَّة والعقليَّة شأنُها في ذلك شأن سائر الجمادات.
الأنبياءُ في القرآن يُخاطبون الموتى:
فحين ينفي القرآنُ السمعَ عن الموتى فهو إنَّما ينفيه عن هذه الجثامين وعن هذه الرفاةِ المقبورة، ويدلُّ على ذلك أنَّ القرآن نفسَه قد أخبرَ عن أنَّ بعض الأنبياء قد خاطَب قومَه بعد هلاكهم وصيرورةِ أجسادهم جُثثًا خامدة وفاقدة لكلِّ حِراكٍ وإحساس، قال تعالى يحكي ما وقع لقوم صالح: ﴿وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ / فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾(3) فالآياتُ صريحةٌ في أنَّ نبيَّ الله صالحًا (ع) قد خاطبَ قومَه مُوبِّخًا لهم ومُعاتبًا ومذكِّرًا لهم بنصيحته إياهم، خاطَبهم بذلك بعد أنْ صارت أجسادُهم جثثًا هامدة لا حياة فيها ولا حِراكَ لها كما هو مفاد: ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ فهو إنَّما خاطبهم بعد هلاكِهم كما هو مقتضى العطف بالفاء، فأولًا صدرَ من قومِه التحدِّي له بقولهم: ﴿ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ وبعده أخذتْهم الرجفةُ فترتَّب عنها هلاكُم: ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ وبعد أنْ أصبحوا كذلك تولَّى عنهم وخاطبَهم رغم هلاكِهم: ﴿وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾.
وقال تعالى أيضًا يحكي ما وقع لقوم نبيِّ الله شعيب (ع): ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ / الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْم كَافِرِينَ﴾(4) فبعد أنْ أصبحوا في دارهم جاثمين، وبعد أنْ خمدوا وبادوا وكأنَّهم لم يستوطنوا هذه الدار وهذه البلدة ولم ينعمَوا فيها، بعدَ ذلك خاطَبهم شعيبٌ (ع): ﴿وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْم كَافِرِينَ﴾ فمَن هم هؤلاء الذين كان يُخاطبهم شعيب؟ ومَن هم الذين خاطبهم نبيُّ الله صالح؟ هل كانا يُخاطبان الموتى وقد قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾؟!! وهل يخفى على هذين النبيين بل هل يخفى على عاقلٍ أنَّ الموتى لا تسمعُ ولا تشعُر؟!
إذن فمَن الذين كان يُخاطبُهم نبيُّ الله صالح ونبيُّ الله شعيب؟
كانا يُخاطبان أرواح هؤلاء الموتى، فهي لم تهلك كما هلكت الأجساد، وهي تُدركُ وتشعرُ، وقد نصَّ القرآنُ الكريم في أكثر من موردٍ على أنَّ الموت وإنْ كان يقتضي هلاك الجسد وفقدانَه للشعور وتبدُّده بتمادي الزمن ولكنَّه لا يقتضي هلاك الروح، فما يتلفُ بالموت هو الجسد دون الروح، فالموتُ في هذه النشأة بالنسبة للروح لا يقتضى أكثر من انفصالِها عن الجسد أو قلْ مفارقتها للجسد بنحوٍ لا نُدرك كنهَه وحقيقته، وذلك لأنَّه من شؤون الغيب، ولكنَّ عالم الغيب أخبرنا أنَّ الله يتوفَّي الأنفس حين موتها، فالتي قضى عليها الموت يُمسكُها، فالموتُ قبضٌ للروح وليس إتلافًا لها قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(5) فالتي قضى عليها الموت يُمسكُها عنده، فالموت توفٍّ واستيفاء وقبضٌ للأرواح، قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(6) فالتوفِّي هو القبض والتسلُّم وعندها ترجعُ الروح إلى ربِّها كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾(7) وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾(8) فالرجوعُ إلى الله تعالى معناه ومقتضاه أنَّ الروح لا تفنى بالموت، ووصفها بالراضية معناه أنَّ الروح تظلُّ كما كانت تشعرُ بالرضا، وقد تشعرُ بالبؤس والندم كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾(9).
فمعنى طلب الرجوع أنَّه قد وقع عليه الموت وانتقل من هذه النشأة، إذ لا معنى لطلب الرجوع إلى الدنيا وهو لا زال في الدنيا، فالمناسبُ لوكان لا زال في الدنيا أنْ يطلب التأخير لا أنْ يطلبَ الرجوع، ولذلك قال اللهُ تعالى يصفُ حال من لم يمُت ولكنَّه كان على وشك الموت: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(10) فهو يطلبُ التأخير لأنَّه لم يمُت بعدُ بل كان ذلك منه قبل أنْ يأتيه الموت، أمَّا الذي جاءه الموت ووقع عليه وصيَّره إلى عالمٍ آخر فإنَّه يطلبُ الرجوع لأنَّه وجدَ بعد الموت ومفارقة هذه النشأه أنَّه خاسرٌ لتفريطه، لذلك طلب الرجوع ليتداركَ ما كان قد فرَّط فيه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ / لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(11) إذن فهذا الذي فارق الدنيا يشعرُ بالندم ويطلبُ الرجوع، فهو إذن يطلبُ ويقولُ ويتكلَّم ويُدرِك ويشعرُ بالحسرة والحال أنَّه ميِّت وأنَّ جسمَه قد صار جثَّةً هامدة وربَّما تفسَّخت وتلاشتْ، وذلك ما يُؤكِّد أنَّ الموت لا يقتضي فناءَ الروح بل تظلُّ الروح بعد الموت كما هي تُدركُ وتشعر.
إذن فالمخاطَب بالتلقين المأمور به من قِبل الرسول (ص) وأهل بيته (ع) المُخاطَب بالتلقين ليست هي جثَّة الميِّت- التي يحرصُ الأحياءُ على التخلُّصِ منها بالدفن أو الإلقاء في البحر- بل المُخاطَب هي روحُه التي تظلُّ بعد الموت كما كانت شاعرةً مُدركة بحسب ما أفاد القرآن، فالقرآنُ قد أكَّد أنَّ الروح لا تفنى بالموت بل تُقبض وترجعُ إلى ربِّها أي إلى المقرِّ الذي قضاهُ اللهُ لها، وكذلك أكَّد القرآنُ على أنَّ هذه الروح تظلُّ كما كانت شاعرةً مُدركة تفرحُ وتحزنُ وتتطلع إلى مَن قد خلَّفتهم في الدنيا من بني جنسها.
حياةُ البرزخ في القرآن:
ويدلُّ على ذلك مضافًا إلى ما ذكرناهُ من آياتٍ عددٌ آخر من الآيات:
الآية الأولى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلوا في سبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(12).
فهذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أحياءٌ وليسوا أمواتًا في حين أنَّه لا يرتابُ أحدٌ في أنَّهم قد ماتوا كما يموتُ الناس وقُبِروا كما يُقبرُ الناس، وقد يُشاهدُ الناس أجسادهم وقد صارت أوصالًا ممزَّقة أو أشلاءً محترقة بل قد يُشاهدونهم وقد صاروا رمادًا تذروه الرياح ورغم ذلك أخبرَ عنهم عالِمُ الغيب والشهادة بأنَّهم أحياءٌ وأنَّ لهم خصائصَ الأحياء ينعَمونَ برزق الله تعالى ويفرحونَ بعطاء الله كما يفرحُ الأحياء ويتطلَّعون إلى من خلَّفوهم في الدنيا من بني جنسهم فإذا قُتل منهم قتيل أو مات منهم ميِّت استبشروا به وبقدومه، إذن فهم لم يفقدوا خاصِّية الإدراك والقدرة على تحصيل العلم، فلهم ذاكرةٌ تتذكَّرُ مَن كان معهم في الدنيا، ويحصلُ لهم العلم بموت مَن مات وقتل مَن قُتل من إخوانهم، ويشعرون بالبشرى والسعادة، فلهم إذن مشاعرُ كما هي للأحياء، فالموتُ الذي وقع عليهم بواسطة القتل تسبَّب في مفارقة أرواحهم لأجسادهم وتسبَّب في صيرورة أجسادهم جُثثًا ساكنة أو أشلاءً مبدَّدة ولكنَّ هذا الموت لم يتسبَّب في فناء أرواحِهم كما لم يتسبَّب في فقدانِها لخاصيَّة الحياة من الإدراك والشعور.
ثم إنَّ ذيل الآية الشريفة ظاهٌر في أنَّ هذه المِنح الإلهيَّة إنَّما حظيَ بها القتيل في سبيل الله لأنَّ الله تعالى لا يُضيع أجرَ المؤمنين، ومقتضى ذلك هو عدمُ اختصاص القتيل في سبيل الله بهذه المِنح الإلهيَّة، فكلُّ مَن كان واجدًا لمستوى الإيمان الذي ينعمُ به القتيلُ في سبيل الله أو كان واجدًا لما يفوق ذلك وكان ملتزمًا بمقتضيات الإيمان فإنَّه يحظى بالمِنح الإلهيَّة التى يحظى بها القتيل في سبيل الله لأنَّ الله تعالى لا يُضيع أجرَ المؤمنين، وعليه فكما أنَّ القتيل في سبيل الله حيٌّ بعد انتقاله من هذه الدنيا كذلك غيرُه ممَّن يناظرُه أو يفوقُه في مستوى الإيمان والإلتزام بمقتضياته، والآية إنَّما نصَّت على حياة القتيل لأنَّها كانت بصدد الحديث عن المِنح التى يحظى بها القتيلُ في سبيل الله.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(13).
فهذه الآية صريحةٌ أيضًا في أنَّ الذين يُقتلون في سبيل الله أحياءٌ رغم أنهم قُتلوا أي ماتوا دون ريبٍ بواسطة القتل، فهم إذن أحياءٌ بذواتِهم وأرواحِهم، وأما أجسادُهم فقد صارت بالوجدان والمعاينة جثامينَ خامدة شأنُها في ذلك شأنُ سائر الجمادات.
وتُضيف هذه الآية تأكيدًا على حياة مَن يُقتل في سبيل الله فتقول إنَّهم أحياء ولكن لا تشعرون أي أنَّ وصفنا لهم بالأحياء ليس تعبيرًا مجازيًا بل هم أحياءٌ حقيقةً وواقعًا غايتُه أنَّ أبناء هذه النشأة لا يشعرون بحياتِهم، وذلك لأنَّهم انتقلوا إلى نشأةٍ أخرى وهي من شؤون الغَيب غير الخاضعة لمُدركات الحسِّ التي يمتلكُها انسانُ هذه النشأة، لذلك فإنسانُ هذه النشأة لا يشعرُ بحياتِهم ولكنَّه إذا آمن بالرسول الكريم (ص) وأنَّ القرآن منزَّلٌ من عالِم الغيب والشهادة فيلزمُه التصديق بكلِّ ما جاء به وإنْ لم يُدرك حقيقتَه وكنهه.
وأمَّا دعوى أنَّ هذه الخصوصيَّة -وهي بقاء الحياة- إنَّما هي ثابتة للذين يُقتلون في سبيل الله تعالى خاصَّة فجوابُها أنَّه إذا ثبت أنَّ الذين يُقتلون في سبيل الله أحياءٌ فما الذي يمنعُ من إمكانيَّة أنْ تكون الحياة ثابتة لغيرهم من الأموات، فالشهداءُ وغيرهم أمواتٌ وقد تتطابق طريقة موتِهم، فإذا ثبت بالقرآن أنَّ الشهداء أحياءٌ فيُمكن أنْ يكون غيرُهم أحياءً أيضًا غايتُه أنَّ ذلك يحتاج إلى إثبات، ويكفي لإثبات ذلك بعد ثبوت الإمكان أنْ يتصدَّى الرسول (ص) المتَّصل بعالم الغيب للإخبار بأنَّ كلَّ مَن يموت فإنَّ ما يفنى منه هو الجسد دون الروح وأنَّ روحه تظلُّ حيَّة شاعرة ومُدركة متنعِّمة أو معذَّبة أو لا هي معذَّبة ولا هي متنعِّة، ولا ريب أنَّه قد ثبت بالتواتر الإجمالي عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) أنَّ الأرواح تظلُّ حيَّة بعد الموت، بل ثبت بالقرآن الكريم أنَّ الأرواح تُقبض ولا تفنى وأنَّها ترجعُ إلى ربِّها أي إلى المقرِّ الذي قضاهُ عليها كما اتَّضح ذلك ممَّا تقدَّم من الآيات.
وأمَّا ما قد يُقال من أنَّه لماذا خصَّ اللهُ تعالى مَن يقتل في سبيل الله بالذكر ألا يدلُّ ذلك على أنَّ للقتيل في سبيل الله خصوصيَّة ليست لغيره من سائر الناس فنلتزم بأنَّ القتيل حيٌّ دون غيره
فالجواب أنَّه ليس في الآية ما يدلُّ على الحصر، فهي تُثبت أنَّ القتيل في سبيل الله حيٌّ عند ربِّه لكنَّها لا تنفي ثبوت الحياة بعد الموت لغيره، فإن إثبات صفةٍ لأحد لا يعني نفيها عن غيره، فحين يُقال زيدٌ عالم فإنَّ أحدًا لا يفهمُ من ذلك أنَّ هذه الصفة منحصرةٌ به ولا يصحُّ نسبتُها لغيره، فالمتكلِّم حين وصف زيدًا بالعالم ولم يصفْ غيره بذلك إنَّما كان ذلك بسبب أنَّه بصدد الحديث عن زيد ولم يكن بصدد الحديث عن كلِّ من يتَّصف بالعلم، فكذلك الشأنُ حين أفادت الآيُة أنَّ الشهيد حيٌّ، فإنَّ ذلك لا يدلُّ على أنَّ غيره ليس بحيٍّ بل لأنَّ الآية كانت بصدد الحديث عن الشهيد إمَّا لأنَّ ذلك هو سبب النزول أو لأنَّ الآية واقعةٌ في سياق الحديث عن الجهاد والشهادة كما في الآية السابقة أو غير ذلك من المناشئ، فإلإخبار عن الشهيد بأنَّه حيٌّ بعد الموت لا ينفي أنْ يكون غيره كذلك حيٌّ بعد الموت غايته أنَّنا نحتاج لإثبات الحياة لغيره إلى نصٍّ آخر، وقد تصدَّت آياتٌ أخرى -مضافًا للمتواتر من الروايات- لإثبات ذلك كما اتَّضح وسيتَّضح أكثر فيما يأتي من الآيات.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾(14).
الآية تتحدَّث عن صاحب ياسين الذي أيَّد الرسُل وصدَّقهم في مقابل قومِه الذين أصرُّوا على معاندة الرسل وتكذيبهم، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ / اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ / وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ / أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ / إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ / إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾(15) فمات أو قُتل لأنَّه اتَّبع المرسلين وخالف ما عليه قومه فقتلوه، وفوَرَ مقتله: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾ فالآية تتحدَّث عن حياةٍ له بعد مقتله وقبل قيام الساعة والحال أنَّه قُتل ومات كما يموتُ الناس، وتتحدَّث عن أنَّه حظيَ بدخول الجنَّة وعن أنَّه صار يتمنَّى بأنْ يعلم قومُه -بعد مفارقته لهم وموته أو قتلهم إياه- بما حباهُ اللهُ من كرامته، وتتحدَّث الآياتُ عن أنَّه ليس وحده الذي حظيَ بنعيم الله في تلك النشأة التي تسبقُ القيامة بل إنَّ معه آخرين عبَّر عنهم بالمكرمين، فهذه الحظوة التي صار إليها يُشاطره فيها آخرون رحلوا مثلَه من هذه النشأة فحلُّوا في دار الكرامة.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ / ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾(16).
فالآيةُ واضحةُ الدلالة في أنَّ هؤلاءِ الذين اتَّبعوا ما أسخط الله يتلقَّون العذاب فورَ توفِّي الملائكة لهم، فالعذابُ يقعُ عليم بُعيد التوفِّي والقبض لأرواحهم، وهذا ما يُعبِّر عن أنَّ العذاب إنَّما يُصيب ذواتهم وأرواحهم وإلا فأجسادُهم قد صارت خامدة وفاقدة للشعور، وإذا كان العذابُ يُصيبُ أرواحَهم فهذا معناه أنَّها لم تمُت ولم تفقد الشعور وإلا كان الضربُ عليها عبثًا.
على أنَّ الواضح من مساق الآية هو بيانُ ما يقعُ عليهم من عقوبة بعد الموت بسبب اتِّباعهم ما أَسخطَ الله تعالى، ولا معنى للعقوبة لولم يكن المُعاقَب شاعرًا بألمِ العقوبة، والشعورُ بالألم مساوقٌ للحياة، وحيثُ إنَّ هؤلاء قد ماتوا وصارت أجسادُهم خامدة فالمتعيَّن أنَّ المعذَّب منهم هي الأرواح، فهي إذن حيَّةٌ شاعرةٌ بعد الموت.
وما قد يُقال إنَّ الآية تتحدَّث عن حال الكفَّار حال النزع وقبل الموت، فهُمْ في حال النزع يُعذَّبون بالضرب على وجوههم وأدبارهم فلا صلة للآية بالعذاب بعد الموت.
فجوابُه أنَّ الآية ليست بصدد الحديث عن العذاب حال النزع بقرينة أنَّ الكثير من الكفَّار الذين اتبعوا ما أسخط الله لا يمرُّون بحالة النزع بل يموتون فجأةً وهم فرحون أو لاهون أو غافلون، وقد يموتون وهم نائمون، وقد يموتون لعارضٍ مفاجئ لا يتجاوزُ أثره الجزء من الدقيقة وبه يفارقونَ الحياة والحال أنَّ ظاهر الآية هو استمرار العذاب والضرب على الوجوه والأدبار إلى أمدٍ كما هو مقتضى الفعل المضارع "يضربون" الظاهر في الإستمرار إلى أمَد.
على أنَّ دعوى تصدِّي الآية للحديث عن تعذيب الكفار حال النزع منافٍ لظهور الفعل الماضي "توفتْهم" في وقوع الوفاة، فمقتضى ذلك هو أنَّه إذا وقعت الوفاة فإنَّهم يُضربون خصوصًا وأنَّ التوفِّي يقعُ في لحظة فإمَّا أنْ يكون الضرب والتعذيب قبل الوفاة، وهذا ما يُنافي الواقع كما ذكرنا، إذ لا يقع عذابٌ محسوس ولا عذابٌ نفسي على الكثير من الكفَّار قبل الموت وإمَّا أنْ يكون الضربُ والتعذيب بعد الموت، وهذا هو المتعيَّن وحيثُ إنَّه لا معنى لتعذيب الجسد بعد أنْ صار جثَّةً هامدة لأنَّه من العبث فيتعيَّن أنَّ التعذيب يقعُ على الأرواح وهو ما يدلُّ على أنَّ الأواح تظلُّ بعد الموت حيَّة مُدركة وشاعرة، فهي تُدرك أنَّ ما يقعُ عليها عقوبة وتشعرُ بألم العقوبة.
وبذلك تكونُ الآيةُ من أدلَّة عدم فناء الأرواح بموت الأجساد وأنَّها تظلُّ بعد الموت مُدركةً شاعرة.
الآية الخامسة: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾(17).
فإنَّ الظاهر من "اليوم" في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ هو اليوم الذي يموتون فيه، وهذا الخطاب موجَّه من الملائكة للظالمين، والواضح أنَّ عذاب الهوان الذي يتوعَّدونهم به لا يختصُّ بوقت الموت والذي لا يتجاوز اللحظة، ولا يكون المقصود منه ما قبل الموت، إذ أنَّ كثيرًا ما يموت الظالم فجأةً أو لعارضٍ طارئ غير مسبوٍق بمرضٍ أو ألمٍ أو يموت وهو مغتبِط أولاهٍ أو نائم فمتى يشقى بعذاب الهوان؟! ثم إنَّ الواضح من الآية أنَّ عذاب الهوان الذي يقعُ على الظالمين لا يكون مؤجَّلًا كما هو مقتضى التعبير باليوم الظاهر في الفوريَّة والفعليَّة، وعليه فإنَّ الظاهر البيِّن من الآية أنَّ الظالمين يَشقون بعذاب الهوان عند القبض لأرواحهم ويظلُّ مستمرًّا إلى أمَد، إذ لا عذاب يخصُّهم قبل الموت والتوعُّد بعذاب لحظةٍ مخالفٌ للظاهر خصوصًا وأنَّ العذاب المتوعَّد به هو عذاب الهوان وهو يقتضي بطبعه الإستمرار لوقت بل أنَّ مطلق عنوان العذاب لا يصدقُ إلا مع الإستمرار وإلا كان إعداماً وليس عذابًا، وبذلك يثبت أنَّ عذاب الهَوان يقع على الظالمين عند الموت وبعده، ولا يتحقَّق العذاب إلا للحيِّ المُدرك بكونه يُعذَّب والشاعر بألم العذاب وإلا كان ذلك عبثًا وليس عذابًا، فالآية إذن دليلٌ من أدلَّة استمرار حياة الروح بعد موت الجسد إذ أنَّ الجسد لا ريب في صيرورته جمادًا بعد الموت فالمتعيَّن هو حياة الروح لتكون قابلة لإيقاع العذاب عليها.
وبمجموع ما ذكرناهُ من الآيات يتبيَّن أنَّ الروايات الكثيرة التي دلَّت على استحباب تلقين الميِّت وأنَّه يسمعُ التلقين ويَعيه ليست منافيةً -كما زعم صاحبُ الشبهة- للقرآن بل هي موافقةٌ له، وذلك لأنَّ المُخاطَب بالتلقين ليست هي الأجساد بعد موتها وإنَّما هي الأرواح التي دلَّ القرآنُ على أنَّها لا تتلف بتلفِ الأجساد بل تُقبض وتظلُّ كما كانت حيَّةً ومُدرِكةً وشاعرة.
عذابُ البرزخ ونعيمُه في القرآن:
وأمَّا أنَّ هذه الأرواح هل تتنعَّم وتُعذَّب بعد قبضِها وموت الأجساد أو لا؟
فالجواب:
هو أنَّه حتى لو لم يثبت بالقرآن أنَّها تتنعَّم وتُعذَّب فإنَّه يكفي -بعد أنْ لم ينفِ القرآن ذلك- يكفي أنْ يثبت ذلك بواسطة الرسول (ص) فإنَّ وقوع العذاب على الأرواح ووقوع النعيم لها من شؤون الغيب الذي لا مسرحَ للعقل فيه بعد أنْ لم يكن خاضعًا لمُدركات الحسِّ، وحيث إنَّ الرسول (ص) متَّصلٌ بالغيب من طريق الوحي فإذا أخبرَ أنَّ الأرواح بعد قبضها يتنعَّمُ بعضُها وبعضُها يُعذَّب فإنَّه يتعيَّن على المسلم الإذعان والتصديق بذلك، ولا ريبَ أنَّ الرسول (ص) قد أخبر عن الله تعالى أنَّ بعض الأرواح تتعذَّب بعد الموت وقبل القيامة وأنَّ بعض الأرواح ترفلُ في نعيم الله بعد الموت وقبل يوم القيامة.
فقد ثبت ذلك بالروايات المتواترة اجمالًا عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) فهذه الروايات ليست روايات آحاد حتى يصحَّ التشكيك في صدورها، وليست منافيةً للقرآن حتى يصحَّ رميُها بالوضع والإختلاق بل هي رواياتٌ مقطوعةُ الصدور لأنَّها متواترة إجمالًا بل هي بضميمة روايات العامَّة تفوق حدَّ التواتر الإجمالي، نعم بعضُ التفاصيل المتصدِّية لبيان كيفيَّة العذاب والنعيم للأرواح وصلتنا من طريق الآحاد، فمثلُ هذه التفاصيل يصحُّ التشكيك في صدورها، وأمَّا أصلُ وقوع النعيم والعذاب على الأرواح بعد الموت وقبل القيامة فهو ثابتٌ بالروايات المقطوعة الصدور لكونها متواترة، وهي في ذات الوقت غير منافية للقرآن، ولهذا يتعيَّن على المسلم الذي يدينُ الله تعالى بصدق الرسول (ص) وأهل بيته (ع) يتعيَّنُ عليه الإذعان والتصديق وإنْ لم يكن القرآن قد تصدَّى للإخبار عن ذلك بعد أنْ لم يكن قد نفاه بل اتَّضح ممَّا تقدم أنَّ القرآن قد أثبت أنَّ بعض الأرواح تحظى بنعيم الله قبل يوم القيامة، وبعضها تشقى بعذابٍ من الله قبل يوم القيامة.
وذكرنا لذلك عددًا من الآيات:
منها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(18) فإنَّ هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أحياءٌ عند ربِّهم ينعمون برزقِه ويشعرونَ بالفرح والسرور لِما ينالُهم من عطاء الله وفضله، ثم إنَّ ذيل الآية يؤكِّد أنَّ ذلك لا يختصُّ بمَن يُقتل في سبيل الله بل يشملُ عموم المؤمنين كما هو مقتضى الظهور من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنَّ مفاد هذه الفقرة من الآية هو أنَّ ما يحظى به القتيل في سبيل الله من نعيمٍ وسرور إنَّما نشأ عن أنَّ الله لا يضيع أجر المؤمنين، ومعنى ذلك أَّنَّ كلَّ مَن كان واجدًا لحقيقة الإيمان بالمستوى الذي عليه القتيل في سبيل الله أو بما هو أعلى منه فإنَّه سيحظى بما حظي به القتيل في سبيل الله من نعيمٍ وسرور.
ومنها: قوله تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ / بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ / وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾(19) فهذه الآيةُ واضحةٌ أيضًا في أنَّ صاحب ياسين قد انتقل إلى نعيم الله تعالى في دار كرامته بمجرَّد أنْ مات أو قُتل، وفي الآية أيضًا دلالةٌ على أنَّ صاحب ياسين لم يكن وحده في تلك الجنَّة التي صيَّره اللهُ إليها بل كان معه آخرون عبَّر عنهم بالمكرمين كما أوضحنا ذلك فيما سبق.
ومنها: قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ / ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾(20) فقد تقدَّم أنَّ الآية ظاهرةٌ في أنَّ العذاب المكنَّى عنه في الآية بالضرب على الوجوه والأدبار يقعُ على الكفار بعد توفِّيهم أي بعد القبض لأرواحهم، فالآيةُ صالحةٌ لإثبات وقوع العذاب بعد الموت على مَن أسخط الله تعالى، نعم لا ظهور للآية في استمرار العذاب للأبد وإلى قيام الساعة ولكنَّها ظاهرةٌ في وقوعه واستمراره إلى أمدٍ يسيرٍ أو طويل كما هو مقتضى ظهور الفعل المضارع "يضربون" في التجدُّد والإستمرار في الجملة.
آية العرض لآل فرعون على النار:
وثمة آيةٌ -لم نتعرَّض لها- تصلحُ أيضًا شاهدًا ودليلًا على وقوع العذاب -في الجملة- بعد الموت وقبل يوم القيامة على بعض الكافرين، وهي قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(21).
فالآية تتحدَّث عن أنَّ آل فرعون يُعرضون على النار صباحَ مساء، فإذا جاء يوم القيامة أُدخلوا في عذابٍ أشد ممَّا كانوا يتلقَّونه من عذابٍ قبل يوم القيامة، فمتى يتلقَّون هذا العذاب غدوًّا وعشيًّا قبل قيام الساعة والحال أنَّهم هلكوا وبادوا وقبل أنْ يهلكوا لم يكونوا في عذاب، فالمتعيَّن أَّن العذاب الذي يُعرضون عليه صباحَ مساء يقعُ عليهم في النشأة التي تفصلُ بين الدنيا والآخرة، وهي المعبَّر عنها بعالم البرزخ أي العالم الذي يفصلُ عالم الدنيا وعالم الآخرة.
ومن الواضح أنَّ هذا العذاب الذي يُصيبُ آلَ فرعون والذي امتدَّ ويمتدُّ إلى أمدٍ طويل لا يقعُ على أجسادِهم، فأجسادُهم أو أجسادُ أكثرهم قد تفسَّختْ وتلاشت بعد وقتٍ قصير من هلاكهم وهو ما يدلُّ على أنَّ المعذَّب من آل فرعون هي أرواحُهم.
وما قد يُقال إنَّهم لا يُعذَّبون وإنَّما يُعرَضون على النار، والعذابُ إنَّما يقعُ عليهم يوم القيامة حينها يؤمَر بهم فيدخلون أشدَّ العذاب، وأمَّا قبل يوم القيامة فإنَّهم يُعرضون على النار دون أنْ يُصيبهم من عذاب.
فجوابُه أنَّ ذلك خلافُ ظاهر الآية فإنَّه لولم يكن العرض نحو عذابٍ فأيُّ معنىً لاستمراره صباحَ مساء، وما معنى وغاية هذا العرض الدائم أو شبه الدائم هل هو للإستطلاع؟!
إنَّ الواضح من مساق الآية هو أنَّها بصدد بيان فقرة: ﴿وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ فإنَّ معنى حاق بهم سوءُ العذاب هو أنَّ العذاب قد أحاط بآل فرعون، وكيف أحاط بهم؟ تُجيب الآية: النارُ يُعرضون عليها صباحَ مساء، وحين تقومُ الساعة يُؤمَر بهم فيدخلون أشدَّ العذاب، فهم يُعذَّبون قبل قيام الساعة ويُعذَّبون بعد قيامها بعذابٍ أشد وأسوأ.
وأمَّا معنى العرض على النار فليكنْ بمعنى الإراءة بالمعاينة لأهوال النار وصنوف العذابِ فيها وموضعِ كلِّ واحدٍ منها، فإنَّ الرعب والذُعر الذي سينالُهم من معاينتها هو وحده عذابٌ تنخلعُ منه القلوب خصوصًا وأنَّه لن يكون اجراءً عابرًا بل إنَّهم يُقسرون على هذا العرض المقيت غدوًّا وعشيًّا لأمدٍ لا يعلمُ مداه إلا الله تعالى. ولكم أن تتصوروا أحوال هؤلاء الأشقياء ومستوى التنكيل الذي ينالُهم وهم يُجرُّون مُرغمين لهذا العرض صباحَ مساء، هذا لو كان العرض لا يتجاوزُ المعاينة لأهوال النار، وقد لا يكون العرض على النار بمعنى التقريب للمعاينة وحسب بل هو من نحو تقريب المعروض للنار لإنضاجه بألسنة اللهب المتصاعدة منها كما هو مقتضى استعمال أهل اللغة، فحين يُقال: عرضتُ اللحم على النار فإنَّ معنى ذلك هو تقريبُه من لهب النار لإنضاجه شِواءً أوطبيخاً، وذلك في مقابل قذفِه في النار، فالقذفُ في النار يكونُ غالبًا للإحراق والإتلاف، والعرضُ على النار يكونُ للإنضاج ونحوه، فالمُستظهَر -بناءً على ذلك- من قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾ هو تقريبُهم من النار بنحوٍ يطالُهم ويمسُّهم من لهبِها ما يتحقَّق به عنوان التعذيب بالنار.
وأيًّا كان المراد من الآية المباركة فإنَّها تدلُّ على وقوع العذاب على آل فرعون قبل يوم القيامة، ولن يكون ذلك إلا فيما يُعبَّرُ عنه بعالم البرزخ، وذلك لأنَّهم قد هلكوا وانتقلوا من الدنيا، والقيامة بعدُ لم تقُم ثم إنَّ القيامة ليس فيها صبحٌ ومساء كما قال تعالى: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾(22) فالعذابُ الذي يقعُ عليهم لن يكون إلا فيما يفصل بين النشأتين وهي الفترة التي يُصطلَحُ عليها بعالم البرزخ، ولذلك سوف يكونُ العذاب متناسبًا مع هذه النشأة البرزخيَّة والتي لا نعلمُ بطبيعتها لأنَّها من شؤون الغيب، ولم ننتقل إليها لنتعرَّف على طبيعتها، فغايةُ ما نُدركُه أنَّ الذي يقعُ عليه العذاب هي الأرواح لأنَّ الأجساد قد أصبحتْ جثثًا هامدة ثم تفسَّخت وبعده تلاشت، فالعذابُ في ذلك العالم يقعُ على الأرواح، وأما كيفيتُه فغيرُ قابلةٍ للإدراك، والتعبير القرآني سِيق لغرض التقريب للأذهان، نعم أفاد عددٌ من الروايات أنَّ الأرواح في ذلك العالم الذي يفصلُ بين النشأتين تكون في قوالب برزخيَّة ويعبَّر عنها بالمثاليَّة وهي تُشبه من حيث الصورة ما عليه صورةُ الإنسان في الدنيا(23).
وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ وقوع النعيم والعذاب في النشأة التي تتعقَّب الحياة في الدنيا وتسبقُ الحياةَ في الآخرة أمرٌ لا يُنافي القرآن- كما توهَّم صاحبُ الشبهة- بل هو ثابتُ بالقرآن وإنْ لم يتصدَّ لبيان تفاصيله بالنحو الذي تصدَّت له السنَّةُ الشريفة.
وبعد اتِّضاح فساد الشبهة المُثارة أرى من المناسب التنبيه على عددٍ من الأمور اتَّضح بعضُها من مطاوي البحث ولكنَّ اجمالها لا يخلو من فائدة:
عذابُ البرزخ ونعيمُه يُصيبان الأرواح:
التنبيه الأول: إنَّ العذاب والنعيم اللذان يَلحقان بعض مَن ينتقل من عالم الدنيا إلى العالم الذي يسبقُ يوم القيامة والمُعبَّر عنه بعالم البرزخ، هذا العذاب وهذا النعيم إنَّما يُصيبان الأرواح، وأمَّا الأجساد فهي تُصبح بعد الموت جثثًا خاوية وخامدة وفاقدةً للإدراك والشعور شأنُها في ذلك شأنُ سائر الجمادات، والذي يؤكِّد ذلك أنَّ القران الكريم وكذلك الروايات الكثيرة الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) قد نصَّت على أنَّ العذاب في عالم البرزخ وكذلك النعيم يمتدُّ ببعض الناس وبعض الأقوام أمدًا طويلًا، وهو يقتضي بطبعه تبدُّد الأجساد وتلاشيها، وذلك أمرٌ يُدركه الناس قبل عصر النبوَّة وقبله وبعده، فما مِن أحدٍ إلا وهو يعلم أنَّ أجساد الموتى تتفسَّخ وتهترء بعد وقتٍ يسيرٍ من حين الموت ثم لا تلبثُ أنْ تتبدَّد وبعده تتلاشى، فكلُّ أحدٍ يُدرك ذلك ويعلمُه لأنَّه معايَن بالوجدان، وتلك قرينةٌ على أنَّ المراد ممَّا دلَّ على وقوع العذاب وكذلك النعيم بعد الموت إنَّما يقعُ على الأرواح، وذلك هو المراد من الآيات والروايات فهو ما يتعيَّن فهمه من النصوص الدينيَّة، فما يُصيب الإنسان بعد الموت ليس من سِنخِ العذاب والنعيم الحسِّيين بل هو من طبيعةٍ أُخرى غير قابلةٍ للإدراك لعدم قابليَّة الأرواح للإدراك الحسِّي، على أنَّ الكثير من الروايات قد صرَّحت أن العذاب والنعيم إنما يُصيبان الأرواح.
وأمَّا ما ورد من التعبير عنها بمثل ضغطة القبر أو لدغ ولسع العقارب والأفاعي أو الضرب بمقامع الحديد أو الحرق بالنار فهو لغرض تقريب صورةِ العذاب للأذهان، وذلك لأُنس الإنسان بالمحسوسات، وكذلك ما ورد من التعبير عن النعيم بأنَّه يكونُ في روضةٍ من رياض الجنَّة ينعمُ بظلال الأشجار ويأكلُ من ثمارها ويشربُ من مياه الأنهار فإنَّ الغرض من كلِّ ذلك هو تقريبُ صورة النعيم للأذهان، وهذا لا يعني أنَّ العذاب والنعيم خياليَّان بل هما حقيقيَّان ولكنَّ حقيقتَهما متناسبةُ مع النشأة التي انتقل إليها، فالضغطةُ التي تُصيبه مثلًا هي ضغطةٌ حقيقيَّة ولكنَّها متناسبة مع طبيعة الحياة البرزخيَّة، أو أنَّ المراد من ذلك أنَّه يجدُ واقعًا ذاتَ الألم الذي يشعرُ به المضغوط ولكنَّه لم يحصل بواسطة الضغط الحسِّي بل وقع بواسطة ضغطٍ يتناسبُ وطبيعة الحياة البرزخيَّة.وهذا أمرٌ لا يسع العاقل إنكاره لمجرَّد عدم إدراكه بمُدركات الحسِّ فما أكثر الحقائق غير الخاضعة للحواس. فحقائق الوجود لا تتلخَّص في المحسوسات لذلك لا يسعُ العاقل أنْ ينكر شيئًا لمجرَّد عدم قابليَّة ذلك الشيء للوقوع تحت الحواسِّ من البصر والسمع واللمس، فما أكثر الحقائق والوجودات الواقعيَّة التي لا يُمكن الوقوف عليها بواسطة أدوات الحسِّ من السمع والبصر وغيرهما.
فنحن مثلًا نُؤمن بوجود الجنِّ والملائكة وأنَّهم وجودات حقيقيَّة وواقعيَّة رغم أنَّ هذه الوجودات لا تقع تحت شيءٍ من حواسِّنا الخمس، فنحن إنَّما آمنَّا بوجودها -بعد أنْ لم يكن وجودُها ممتنعًا عقلًا- فنحن إنَّما آمنَّا بوجودها لأنَّ الرسول (ص) -المتَّصل بعالم الغيب من طريق الوحي الإلهي- قد أخبر عن وجودها واقعًا فذلك هو ما نشأ عنه الإيمان بوجود الملائكة والجنِّ، كذلك هوالشأنُ في منشأ إيماننا بعذابِ البرزخ ونعيمِه، فأنَّ عذاب البرزخ ونعيمه من شؤون الغيب غير الخاضع لأدوات الحسِّ لذلك ينحصرُ الكشف عن وجوده واقعًا من طريق الإخبار عن معدن الوحيِّ والتنزيل وهم الرسولُ الكريم (ص) وأهلُ بيته (ع) فلأنَّهم أخبروا عن وجود الحياة فيما نُسمِّيه بعالم البرزخ وأخبروا عن وجود عذابٍ ونعيمٍ في ذلك العالم، ولأنَّ وجود ذلك غير ممتنعٍ عقلًا لذلك آمنَّا بوجوده رغم أنَّه من غير المُتاح لحواسِّنا الإدراك لطبيعة هذا الوجود وحقيقتِه، فإنَّنا آمنَّا بنبوَّة النبيِّ محمَّد (ص) وإمامة الأئمة من أهل بيته (ع) لذلك تعيَّن علينا التصديقُ والإذعان بما أخبروا عنه من شؤون الغيب، ولهذا مدح القرآنُ الكريم في الكثير من الآيات المؤمنين من عباده الذين يؤمنون بالغيب، فجلُّ ما نُؤمنُ به ممَّا هو مرتبطٌ بالدين هو من شؤون الغيب غيرِ الخاضع للشهود والمعاينة الحسِّية.
منشأُ التعبير عن عذابِ البرزخ بعذاب القبر:
وخلاصة القول: إنَّ التعبير عن العذاب والنعيم في عالم البرزخ بعذاب القبر ونعيم القبر لا يعني أنَّ القبر هو الظرف والمكان الذي يقعُ فيه العذاب والنعيم، فقد اتَّضح أنَّ العذاب والنعيم ليسا حسِّيين ولا يقعان على الجسد الفاقد للشعور وإنَّما يقعان على ذات الإنسان وروحه، والروايات إنَّما عبَّرت عن هذا العذاب والنعيم بعذاب القبر ونعيمه بإعتبار ما هو مأنوسٌ عند الناس من الإرتباط بين الإنسان وجسده، وحيثُ إنَّ جسده قد صار إلى القبر كما هو الغالب لذلك ناسَبَ أنْ يُضاف العذاب وكذلك النعيم للقبر وإلا فالموضعُ الذي يكونُ ظرفًا للعذاب هو الموضعُ الذي تكون فيه روحُ الإنسان، ويُمكن أنْ يكون منشأ إضافة العذاب للقبر هو أنَّ الله عزَّ وجل يُعذِّب روح الإنسان في الموضع الذي قُبر فيه الجسد وهذا ما نشأ عنه اضافة العذاب للقبر، ولعلَّ ما يُؤيِّد ذلك هو ما أشارت إليه بعضُ الروايات من أنَّ المصلوب الذي لم يُقبر تُعذَّب روحُه في الموضع الذي صُلب فيه(24).
المدلول اللغويُّ والقرآنيُّ لكلمة البرزخ:
التنبيه الثاني: إنَّ معنى البرزخ بحسب المدلول اللغويِّ هو الحاجز والفاصل الذي يفصلُ بين شيئين كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾(25) أي جعل بين الماء العذب والماء المالح الأجاج حاجزًا يفصلُ بين المائين كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾(26) فالبرزخُ هو الفاصل والحاجز الذي يمنعُ من تداخل الشيئين كما قال تعالى في سورة الرحمن: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ / بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾(27) أي لا يدخلُ أحدهما في الآخر.
هذا هو المدلول اللغويُّ لكلمة البرزخ، وقد استعمل القرآن هذه الكلمة للتعبير عن الفترة الفاصلة بين النشأتين الدنيا والآخرة قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ / لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(28) فالبرزخ هو الحاجز والفاصلة التي تكون بين الدنيا وبين يوم البعث، فقوله تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ فيه إشارةٌ إلى أنَّ البرزخ ظرفٌ زماني يمكثُ فيه مَن جاءه الموت إلى حين قيام يوم البعث، ولأنَّ هذا الظرف يتوسَّط ما بين النشأتين الدنيا والآخرة لذلك ناسب التعبير عنه بالبرزخ والذي هو بحسب المدلول اللغويِّ يعني الحاجز والفاصلة بين الشيئن.
والتعبيرُ عن الفترة الفاصلة بين الدنيا والآخرة بالبرزخ لا يدلُّ في نفسِه على حياة المُنتقِل من الدنيا إليها كما لا يدلُّ على عدم الحياة لكنَّ سياق الآية يدلُّ بوضوحٍ على حياة مَن ينتقل من الدنيا إلى هذه الفترة الفاصلة المعبَّر عنها بالبرزخ كما أوضحنا ذلك فيما سبق، فهذا الذي جاءه الموت ووقعَ عليه وخرج من عالم الدنيا وكان قد فرَّط وقصَّر يتمنَّى الرجوع إلى الدنيالتدارُك ما كان قد فرَّط فيه، ويطلبُ ذلك من ربِّه، فهو يتمنَّى، ويطلبُ، ويقولُ، ويتكلَّم، ويعرفُ أنَّ له ربًّا، ويُدرك العالَم الذي انتقل إليه، ويتذكَّر العالَم الذي انتقلَ منه، وكلُّ ذلك من شؤون الحياة، فالحيُّ هو مَن يدركُ ويشعرُ وأمَّا الميِّت فهو فاقدٌ للإدرك والشعور، وحيث إنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ للمنتقل إلى عالم البرزخ إدراكًا وشعورًا فذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّ له حياة ولكنَّها ليست حياةً للأجساد إذ أنَّ الأجساد قد صارت جثثًا هامدة ثم صارت رميمًا فاقدة للشعور لذلك فالحياةُ التي تدلُّ عليها هذه الآيةهي حياة الأرواح، فالأرواح لا تفنى بالموت وإنَّما تُستوفي وتُقبض كما أوضحنا ذلك فيما سبق.
الحياةُ في البرزخ عامَّة وأمَّا العذابُ والنعيم فخاصَّان:
التنبيه الثالث: إنَّ آية: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ وإنْ كانت تدلُّ على الحياة للأرواح بعد الإنتقال من عالم الدنيا ولكنَّها ليست متصدِّية للإخبار عن وقوع العذاب والنعيم لهذه الأرواح إلا أنَّ ثمة آياتٍ عديدة قد دلَّت -كما تقدَّم- على وقوع العذاب والنعيم لبعض الأرواح المُنتقلة لعالم البرزخ كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(29) وقوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(30) فالآيةُ الأولى تدلُّ على أنَّ ثمة أصنافًا من الناس يحظون بالنعيم في عالم البرزخ، والآيةُ الثانية تدلُّ على أنَّ أصنافًا من الناس يشقون بالعذاب في عالم البرزخ، نعم ليس في هذه الآيات دلالةٌ على أنَّ كلَّ مَن ينتقل إلى عالم البرزخ فهو إمَّا منعَّم أو معذَّب وإنَّما تدلُّ على أنَّ فيهم مَن هو منعَّم، وفيهم مَن هو معذَّب، وفيهم من هو مسكوتٌ عنه، فبعضُ الآياتُ التي ذكرناها وإنْ كانت تدلُّ على أنَّ كلَّ مَن ينتقلُ إلى هذا العالم يكونُ في الأحياء بالحياة البرزخيَّة ولكنَّها لا تدلُّ على حتمية وقوع العذاب والنعيم لهم جميعًا، فمثل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(31) يدلُّ على أنَّ النفوس تُقبض ولا تفنى ويتمُّ امساكها عند الله تعالى، وكذلك هو مدلول قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(32) فالتوفِّي يعني التسلُّم والقبض وليس الإفناء والإعدام، وقد أوضحنا ذلك فيما سبق.
إذن فالقرآنُ يدلُّ على حياة النفوس والأرواح في عالم البرزخ ولكنَّه لا يدلُّ على حتميَّة وقوع النعيم أو العذاب لجميع الأرواح.
وأمَّا الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) فكذلك يظهرُ من عددٍ مستفيضٍ منها أنَّ العذاب والنعيم لا يقعان على كلِّ مَن ينتقل إلى عالم البرزخ:
فمِن تلك الروايات ما رواه الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "لَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا مَنْ مَحَضَ الإِيمَانَ مَحْضًا أَوْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضًا"(33).
ومنها: ما رواه الكليني أيضًا في الكافي بسندٍ موثق عن يُونُسَ عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "إِنَّمَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِه مَنْ مَحَضَ الإِيمَانَ مَحْضًا والْكُفْرَ مَحْضًا وأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَيُلْهَى عَنْه"(34).
ومنها: ما رواه الكليني أيضًا في الكافي بسنده عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (ع): أَصْلَحَكَ اللَّه مَنِ الْمَسْؤُولُونَ فِي قُبُورِهِمْ؟ قَالَ: مَنْ مَحَضَ الإِيمَانَ ومَنْ مَحَضَ الْكُفْرَ قَالَ: قُلْتُ: فَبَقِيَّةُ هَذَا الْخَلْقِ قَالَ يُلْهَى واللَّه عَنْهُمْ مَا يُعْبَأُ بِهِمْ"(35).
ومنها: ما رواه الكليني أيضًا في الكافي بسندٍ صحيح عَنْ ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ قَالَ: قُلْتُ -لأبي جعفر الباقر(ع)-: أَصْلَحَكَ اللَّه فَمَا حَالُ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ (ص) مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ ولَيْسَ لَهُمْ إِمَامٌ ولَا يَعْرِفُونَ وَلَايَتَكُمْ؟ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ فِي حُفْرَتِهِمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَه عَمَلٌ صَالِحٌ ولَمْ يَظْهَرْ مِنْه عَدَاوَةٌ فَإِنَّه يُخَدُّ لَه خَدٌّ إلى الْجَنَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّه فِي الْمَغْرِبِ فَيَدْخُلُ عَلَيْه مِنْهَا الرَّوْحُ فِي حُفْرَتِه إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى اللَّه فَيُحَاسِبُه بِحَسَنَاتِه وسَيِّئَاتِه فَإِمَّا إلى الْجَنَّةِ وإِمَّا إلى النَّارِ، فَهَؤُلَاءِ مَوْقُوفُونَ لأَمْرِ اللَّه قَالَ (ع): وكَذَلِكَ يَفْعَلُ اللَّه بِالْمُسْتَضْعَفِينَ والْبُلْه والأَطْفَالِ وأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ .."(36).
فهذه الرواية تدلُّ على أنَّ هؤلاء الأصناف من الناس لا ينالُهم عذاب في البرزخ، وما يُصيبُهم من نعيمٍ لا يعدو دخول الرَوح عليهم في حفَرهم والتي هي كناية عن مقرِّ أرواحهم التي يسكنونها في عالم البرزخ، وأمَّا الروايات التي سبقت هذه الرواية وكذلك غيرها فهي صريحةٌ في أنَّ غير من محَض الكفر والإيمان يُلهى عنه بمعنى أنَّه يترك فلا ينالُه عذابٌ ولا يحظى بنعيم.
البرزخ ممتدٌّ ليوم القيامة ولكنَّ الحياةَ فيه تنقطع:
التنبيه الرابع: إنَّ القول ببقاء الأرواح في عالم البرزخ بعد موت الأجساد ليس معناه أنَّ الفناء لا يطرأ على الأرواح بل الثابتُ أنَّ الأرواح تفنى قبل قيام الساعة بأَمَدٍ لا يعلمُ مَداهُ إلا اللهُ تعالى، وثبتَ أنَّه لا تبقى في السموات والأرض مِن روحٍ إلا وتفنى بعد النفخ الأول في الصُوْر إلا مَن شاء ربُّك، وتظلُّ الأواح ومُطلقُ الكائنات كذلك في كتم الفناء والعدم إلى أنْ يأذنَ اللهُ تعالى فيُنفخُ في الصُوْر النفخة الأخرى فيكون ذلك إيذانًا بقيام الساعة ووقوع البعث، وقد نصَّت على ذلك العديدُ من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾(37).
وكذلك ورد في الروايات عن أهل البيت (ع) بنحوٍ مستفيض ما يؤكِّد هذا المعنى:
منها: ما ورد بسندٍ معتبر في تفسير عليِّ بن إبراهيم عند قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ قال: حدَّثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن النعمان الأحول، عن سلام بن المستنير، عن ثوير بن أبي فاختة، عن عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: سُئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: ما شاء الله، فقِيل له: فأخبرني يا بن رسول الله كيف يُنفخُ فيه؟ فقال: أمَّا النفخةُ الأولى فإنَّ الله يأمرُ إسرافيل فيهبط إلى الدنيا ..، قال: فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط إلى الدنيا ومعه الصور قالوا: قد أذِن الله في موت أهل الأرض وفي موتِ أهل السماء، قال: فيهبطُ إسرافيل .. فلا يبقى في الأرض ذو روح إلا صعِق ومات قال: فيقولُ الله لإسرافيل: يا إسرافيل مُت، فيموتُ إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء الله، ثم يأمرُ اللهُ السماوات فتمور، ويأمرُ الجبال فتسير، وهو قوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا مورا / وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ..﴾(38) ثم تحدَّثت الرواية عن النفخة الثانية ووقوع الحشر ليوم القيامة(39).
ومنها: ما ورد في كتاب الاحتجاج للطبرسي (رحمه الله) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديثٍ طويل، وفيه قال السائل: أفتتلاشى الروحُ بعد خروجه عن قالبه أم هو باقٍ؟ قال (ع): بل هو باقٍ إلى وقتِ يُنفخ في الصور، فعند ذلك تبطلُ الأشياء، وتفنى فلا حسٌّ ولا محسوس، ثم أُعيدت الأشياء كما بدأها مدبِّرُها ..، وذلك بين النفختين"(40).
ومن ذلك يتَّضح أنَّ الحياة في عالم البرزخ لا تمتدُّ إلى يوم القيامة بل يتعقَّب الحياة في البرزخ موتٌ تامٌّ وفناءٌ لمُطلق الكائنات يمتدُّ إلى ما شاء الله، بعده تقومُ الساعة ويُحشرُ الناس للحساب، فالبرزخُ والذي هو الفترة الفاصلة بين الدنيا والآخرة وإنْ كان يمتدُّ إلى يوم القيامة إلا أنَّ حياة الأرواح في البرزخ لا تمتدُّ إلى يوم القيامة بل تنقطعُ بالموت التامِّ لمُطلق الكائنات بعد النفخ الأول في الصُور وتظلُّ الأرواح في كتم العدم إلى أنْ يُنفخَ في الصٌور النفخةَ الأخرى إيذانًا بقيام الساعة.
﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ لا ينفي حياة البرزخ:
ومن ذلك يتبيَّن فسادُ ما استشكله بعضُهم من أنَّ قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ / قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾(41) يدلُّ على نفي الحياة والعذاب في عالم البرزخ، وذلك لأنَّ قولهم: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ يكشفُ عن أنَّهم كانوا رقودًا -أمواتًا- ولم يشهدوا عذابًا ولا أهوالًا قبل قيام الساعة.
فإنَّ الواضح أنَّ منشأ دعوى دلالة الآيةِ على نفي الحياة البرزخيَّة ونفي وجود العذابِ فيها هو توهُّم امتداد الحياة والعذابِ في البرزخ إلى يومِ البعث من الأجداث، حينئذٍ يمكن أنْ يُقال إذا كانوا رقودًا وأمواتًا بمقتضى الآية إلى يوم البعث فأين هي الحياة البرزخيَّة؟!
ولكنَّه اتَّضح أنَّ وجود الحياة والعذاب في عالم البرزخ لا يمتدُّ إلى يوم البعث بل تنقطعُ الحياة في البرزخ، وذلك بعد النفخة الأولى في الصُور ووقوع الموت التام لمطلق الأحياء، وبعد أمَدٍ لا يعلمُ مداهُ إلا الله تعالى يأذنُ جلَّ وعلا ببعثُ الأمواتَ ليوم القيامة. ولهذا يكون من المعقول جدًّا أنْ يصدر التساؤلُ من المبعوثين من الأجداث: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ إذ انَّهم كانوا واقعًا غارقين في كتم الموت ردحًا من الزمن لا يَعلمُ مداهُ إلا اللهُ، فحين بُعثوا أصابَهم الذعرُ -لهولِ ما يجدونه- فأذهلَهم ذلك عمَّا كانوا قد وجدوه في البرزخ وعمَّا كانوا قد تلقَّوه في الدنيا مِن وعد الأنبياء فتساءلوا: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ ثم ما لبِثوا أنْ استوعبوا المشهدَ فقالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾.
وأمَّا الآيات التي حشرها صاحبُ الإشكال وهي قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾(42) وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾ وقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾(43) هذه الآيات التي حشدها صاحبُ الإشكال دعمًا لإشكاله أجنبيَّةٌ تمامًا عن محلِّ البحث، فالمقصودُ من اللبث في الآيات الأربع هو اللبثُ في الدنيا.
فمفاد الآية الأولى هو أنَّ الناس الذين يسألون عن وقت قيام الساعة كأنَّهم حين تقوم الساعة ويُشاهدون أهوالَها وامتداد وقتِها يشعرون وكأنَّهم لم يلبثوا في الدنيا إلا عشيةً أو ضحاها، هذه الدنيا التي كانت مستطيلةً في أعينِهم بزخارفها ومشاغلها وطول الأمل فيها تُصبحُ في أعينِهم قصيرةً وصغيرة ومُحتقَرة بعد أنْ يُعاينوا الآخرة وأهوالَها وامتدادَ أمدِها، هذا هو مفادُ الآية كما يتَّضح ذلك من ملاحظة سياقها قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا / فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا / إلى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا / إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا / كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾(44) فالآية سِيقت جوابًا على سؤال مَن يسألون عن الساعة أيَّانَ مرساها فجاء الجوابُ أنَّه ليس من وظيفتك يارسول الله الإنباء عن وقت قيامِها وإنَّما أنت مكلَّفٌ بالتحذير منها ومن أهوالِها ثم أفادت الآية أنَّ هؤلاء الذين يستطيلون ويستبعدون وقت قيامها كأنَّهم حين تقوم الساعة ويُعاينونها يشعرونَ وكأنَّ لبثَهم ومكثَهم في الدنياالذي كانوايستعظمونه لم يكن شيئًا يُذكر كأنَّه لم يدُم أكثر من عشيةٍ أو ضحاها.
وأمَّا الآية الثانية فكذلك تتحدَّث عن اللبث في الدنيا وتُشبِّه قصره في مقابل ما يجده الإنسان من أهوال الآخرة وطول المكث فيها يشبِّه المكث في الدنيا لقصره بالساعة من النهار، ويتَّضح أنَّ المراد من اللبث هو اللبث في الدنيا من ملاحظة سياق الآية، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾(45) فالآية بصدد تحذير الناس من ظلم أنفسهم بغفلتهم عن الآخرة ومقتضياتها وطول أملِهم في الدنيا والخلود إلى زخارفها ومُتَعِها تُحذِّرهم بالقول إنَّهم حينيُحشرون ليوم القيامة سيُدركون أنَّ مكثهم في الدنيا التي خلدوا إليها كأنَّه في قصره وحقارة ما جنَوه منه في مقابل ما ضيعوه لم يكن أكثر من ساعةٍ من النهار، فهؤلاء قد خسروا لتفريطهم بما يبقى من أجل ما يفنى ولا يمتدُّ لأكثر من وقتٍ يسير.
وأمَّا الآية الثالثة فهي تتحدَّث أيضًا عن اللبث في الدنيا، وتُشبِّه أمده لحقارتِه في مقابل اللبث في الآخر بالساعة من نهار، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾(46) أي كأنَّهم يوم يرون العذاب ويشقَونَ بقسوتِه وشدَّته وتطاولِ المكث فيه يشعرون وكأنَّهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً من نهار، فنعيمُها وطول الأمد فيها حقيرٌ في مقابل ما سوف يلقونَه من عذاب.
وأمَّا الآية الرابعة: وهي قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ فكذلك تتحدَّث عن اللبث في الدنيا، فهُم حين تقومُ الساعة يستصغرون مقدار المكث الذي لبثوه في الدنيا، ويشهدُ لهذا الفهم سياق الآية قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ / وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾(47) هذه المراحل التي يقطعُها الإنسان في الدنيا ويجدُها طويلةً ومتمادية يشعرُ يوم تقوم الساعة أنَّها لم تكن أكثر من ساعةٍ لقصرِها في مقابل ما يجدُه من تطاول يوم القيامة.
فهذه الآيات المذكورة ليست متصدِّية للحديث عن اللبث بعد الموت حتى يُقال إنَّهم لو كانوا أحياء بعد الموت وكانوا يُعذَّبون لأدركوا أنَّ مكثهم لم يكن كأنَّه ساعة من نهار، فليس هذا هو مفاد الآيات بل مفادها هو استصغار مقدار المكث في الدنيا في مقابل طول المكث في الآخرة، ولو قبلنا جدلًا أنَّ المقصود منها هو اللبث بعد الموت فإنَّها لا تصلح لإثبات عدم الحياة في البرزخ وذلك لما ذكرناه أولًا من الحياة في البرزخ تنقطع بالموت التام بعد النفخ في الصُور فيصحُّ أن يتوهَّموا بعد حشرهم أنَّهم لم يلبثوا في موتهم أكثر من عشيةٍ أو ضحاها، وثانيًا يصحُّ لهم لو كانوا أحياءً تشبيه لبثِهم بالساعة من النهار لقصره في مقابل طول اللبث يوم القيامة وشدَّة ما يقع فيه من أهوال، فالأهوالُ التي يلقاها المجرمون في حياة البرزخ ليست شيئًا يُذكر بالقياس لأهوال يوم القيامة.
بقيَ الكلام حول عددٍ من الإشكالات التي أوردها البعضُ انتصارًا لدعواه نفي الحياة والعذاب في البرزخ
الشعورُ والإدراك غيرُ منوطيَن بارتباط الروح بالجسد:
الإشكال الأول: هو أنَّ حياة الأرواح في البرزخ بعد الموت معناه أنَّ الأرواح لها قابيليَّة الإدراك والشعور بعد الإنفصال عن الجسد وهو أمرٌ لا يمكن قبولُه، فالروحُ لا تُدرك و لا تشعرُ إلا حينما ترتبطُ بالجسد، فكما أنَّ الجسد لا يشعرُ بالراحة أو العذاب إلا إذا ارتبط بالروح كذلك الروح لا تدركُ ولا تشعر إلا إذا كانت متَّصلة بالجسد، ولذا فإنَّ الله عزَّوجل بيَّن لنا في القرآن أنَّ الموت راحةٌ من العذاب و أنَّ الميِّت لا يحسُّ بشيء.
والجواب عن هذا الإشكال ينبغي أنْ يكون قد اتَّضح ممَّا تقدَّم، فإنَّ المفترض من صاحب الإشكال أنَّه يُؤمن بالقرآن، وقد صرَّح القرآن بحياة مَن يقتلُ في سبيل الله في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(48) وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(49) فالآيتان صريحتان في أنَّ مَن يُقتلون في سبيل الله أحياءٌ رغم أنَّهم قُتلوا وتمزَّقت أشلاوهم وقُبِروا كما يُقبر سائر الموتى، فرغم ذلك أخبر القرآنُ عن أنَّهم أحياء وأكَّد بقوله: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ على أنَّ إسناد الحياة إليهم بعد موتِهم بالقتل حقيقيٌّ وليس مجازيًا، ونفى بقوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ﴾ ما يتوهَّمه المتوهِّمون بأنَّهم صاروا أمواتًا بالقتل ثم أكَّد على أنَّهم رغم موتِهم ووقوع القتل عليهم أحياءٌ ولهم خصائص الأحياء، فهم يفرحون وهو ما يعبِّر عن أنَّ لهم مشاعر، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم وهو ما يعنى أنَّهم يُدركون أنَّهم قد انتقلوا إلى عالمٍ آخر غير الذي كانوا فيه، ويتذكَّرون إخوانهم الذين كانوا معهم في ذلك العالم، فإذا لحِق بعالَمِهم الجديد أحدٌ من إخوانهم استبشروا به، ومعنى ذلك أنَّ لهم ادراكًا وذاكرةً ومشاعر، شأنُهم شأنُ الأحياء مع أنَّ أجسادهم قد أصبحت جثثًا هامدة وفاقدة للشعور وربما تكون قد تلاشت بفعل الإحراق أو تمادي الزمن، فلو كانت حياة الروح وقابليَّتها للإدراك والشعور منوطًا بإرتباطها بالبدن كما يزعم صاحب الإشكال لما صحَّ إسناد الحياة والشعور والإدراك للروح بعد انفصالها عن الجسد وصيرورة الجسد جثَّة هامدة أو أشلاء متناثرة أو رمادًا تذروه الرياح. فإسنادُ القرآن الحياة لمَن يُقتل في سبيل الله دليلٌ واضح على فساد ما توهَّمه صاحبُ الإشكال من أنَّ حياة الروح وإدراكها منوطٌ بارتبطها بالبدن، فإنَّ هذه الدعوى مناقضة لصريح القرآن. هذا أولًا.
وثانيًا: إنَّ مسألة حياة الروح بعد الموت وقابليتها للإدراك هو من شؤون الغيب غير الخاضع لأدوات الحسِّ، ولم ينتقلُ صاحبُ الإشكال أو غيره إلى عالم ما بعد الموت ليتهيأ له الوقوف على حقيقة هذا الأمر، فالإنكار لحياة الروح بعد انفصالها عن الجسد لا يعدو الرجم بالغيب والتخرُّص دون برهان إذ لا سبيل للتثبُّت من ذلك بعد أنْ لم يكن الإنتقال إلى ذلك العالم والعودة بعده إلى الدنيا مُتاحًا، فطريقُ الوقوف على حقيقة هذا الأمر منحصرٌ بإخبار الرسول الكريم (ص) ذلك لأنَّه متَّصل بعالِم الغيب والشهادة من طريق الوحي، وحيث إنَّه (ص) أخبر أنَّ الروح تظلُّ حيَّة شاعرة بعد موت الجسد لهذا يتعيَّن علينا الإذعان والتصديق بذلك فهو مقتضى الإيمان بنبوَّة النبيِّ الكريم (ص).
وأمَّا ما زعمه صاحبُ الإشكال من أنَّ القرآن قد دلَّ على ارتباط حياة الروح بحياة الجسد وأنَّ الروح تموتُ بموت الجسد فلا تكون قابلةً للحياة والإدراك بعد موت الجسد فهذه الدعوى جزافيَّة، فليس في القرآن ما يدلُّ على ذلك، فإنَّ عمدة ما تمسَّك به صاحبُ الإشكال هو قوله تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾(50) بتقريب أنَّ أصحاب النار لمَّا أنْ وجدوا شديد ما وقعوا فيه من عذاب النار خاطبوا مالكًا خازن النار بقولهم: ﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ أي أنَّهم طلبوا من خازن النار أنْ يطلب من ربِّه إماتتهم، وهم إنَّما طلبوا ذلك لأنَّهم يعلمون بأنَّهم إذا ماتوا فلن يشعروا بألم النار خصوصًا وأنَّهم قد جرَّبوا الموت قبل ذلك، فهُم يعلمون أنَّ الموت لا شعور معه ولا إدراك، ولهذا طلبوا من خازن النار أنْ يطلب من ربِّه إماتتهم ليستريحوا من ألمِ العذاب وهو ما يكشفُ عن أنَّه بالموت يفقدُ الإنسان كلَّ شعور.
والجوابُ عن ذلك هو أنَّ الواضح من طلبِهم هو أنَّهم يبتغون به الراحة من ألم العذاب، فهم إذن يطلبون الإعدام والفناء التام فذلك هو ما سيتحقَّق به غرضُهم من فقدان الشعور بالألم، إذ لا ريب أنَّهم إذا صاروا إلى العدم والفناء التام فإنَّهم لن يشعروا بشيء، فالموت بهذا المعنى ينتهي بالإنسان إلى فقدان مُطلق الإدراك والشعور، وهم حقًّا قد جرَّبوا ذلك بعد النفخ الأول في الصُور وظلَّوا كذلك في كتم العدم والفناء أمَدًا لا يعلم مداهُ إلا الله، ولذلك علموا أنَّ الموت بمعنى الفناء لا شعور معه ولا إدراك، ولهذا طلبوا من خازن النار أنْ يقضي عليهم ربُّهم بالفناء والعدم ليستريحوا من ألمِ العذاب، وأين هذا من الموت الذي هو بمعنى التوفِّي والقبض للأرواح.
فالموتُ الذي يُصيب الإنسان في عالم الدنيا قد صرَّح القرآنُ بأنَّه لا يعدو الإهلاك للأجساد والإستيفاء والقبض والإمساك للأرواح كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(51) فالنفس التى قضى عليها الموت يتمُّ امساكها وليس إعدامها، فنحن نُسلِّم أنَّ الموت لا شعور معه ولا إدراك لكنَّ الذي يُصيب الإنسان في الدنيا ليس إماتةً للروح كما صرَّح القرآن بل هو إماتةٌ للجسد وقبضٌ للروح، ولذلك فالجسدُ لا يشعرُ بعد الموت وأمَّا الروح فلا تزال بعد موت الجسد في عداد الأحياء، فلها خصائص الأحياء إلى أنْ يُنفخ في الصور النفخة الأولى.
وبذلك يتَّضح أنَّه إذا قيل إنَّ الموت راحة فهذا الكلام صحيح، فالميِّت يفقدُ الإدراك والشعور ولكنَّ الروح لم تمُت بانفصالها عن الجسد كما صرَّح القرآن، ولهذا تظلُّ محتفظة بخصائص الأحياء من الإدراك والشعور إلى أنْ يُكتب لها الموت، حينذاك ستفقدُ هي أيضا الإدراك والشعور.
وبهذا البيان يتَّضح الجواب أيضًا عن الإستدلال بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾(52) فمعنى: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ هو أنَّه لا يُحكم عليهم بالفناء فيستريحوا من ألم العذاب، فالآية تتحدَّث عما يُوجب الراحة من ألم العذاب، والذي يُحقِّق ذلك هو الموت بمعنى الإعدام وليس الموت الذي تظلُّ معه الروح حيَّةً كالذي يُصيبُ الإنسان في عالم الدنيا، فإنَّ الموت الذي يُصيبُ الإنسان في الدنيا لا يعدو الإعدام للبدن المُفضي لانفصال الروح عنه ورجوعها إلى مقرِّها الذي قدره الله لها كما أوضحنا ذلك فيما سبق، فالروح تظلُّ حيَّةً بعد إعدام البدن لذلك لا يكون ثمة موجبٌ لفقدانها للإدراك والشعور وإلا فأيُّ معنىً لحياتها الذي صرَّح به القرآن.
الجواب عن دعوى أنَّ الإنسانَ لا يعلم بأعماله ومصيره قبل القيامة:
الإشكال الثاني: ومن الإشكالات التي أوردها بعضُ من يُنكر الحياة والعذاب والنعيم في البرزخ هو دعوى أنَّ القرآن الكريم يُصرِّح في عشرات الآيات أنَّ الإنسان لا يعلم شئيًا عن أعماله ولا يعرف نتائج أعماله إلا يوم القيامة، وهذا يكشفُ عن أنَّه لا عذاب ولا نعيم في عالم البرزخ لأنّه لن يُعذَّب إلا بعد أنْ يتعرَّف على أعماله ويُدرك أنَّه يستحقُّ عليها العقوبة، وقد أفاد القرآن أنَّه لن يتعرَّف الإنسان على شيءٍ من أعماله وعلى نتائج ما عمله في الدنيا إلا يوم القيامة، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس هناك شيءٌ يُسمَّى بالحياة والعذاب في البرزخ.
فمِن هذه الآيات التي استدلَّ بها على أنَّ الإنسان لا يعلم شيئًا عن أعماله إلا إذا قامت القيامة قولُه تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ / فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ / وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(53) فالناسُ بحسب مفاد اللآية يُبعثون من قبورهم أشتاتًا ليُروا أعمالهم إذن فهُم -بحسب دعوى صاحب الإشكال- لا يرون أعمالهم قبل يوم البعث وإنَّما يرونها بعد البعث.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ / عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾(54) فمفاد الآية أنَّ القبور إذا بُعثرت وتحقَّق يومُ البعث حينذاك ستعلمُ النفس ما قدَّمت من أعمال وما أخرت ومعنى ذلك -بحسب فهم صاحب الإشكال- أنَّها لا تعلم شيئًا عن حقيقة أعمالها قبل يوم القيامة.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ / وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ / عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾(55) وكذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾(56) فالنفسُ بحسب فهم صاحب الإشكال للآيتين إنَّما تعلم بما أحضرته من أعمال يوم القيامة، فيومُ القيامة تُستحضر أعمال الإنسان وتُعرض عليه وليس قبل ذلك، إذن لم يكن الإنسان يعلم عن نتاج عمله شيئًا إلا بعد قيام القيامة وعرض أعماله عليه، فأين هو عالم البرزخ إذن.
والجواب عن هذا الإشكال أنَّه ينبغي أنْ يعدَّ من الغرائب، فالإنسانُ يعلمُ الكثير عن أعماله وهو في عالم الدنيا لذلك فهو مأمورٌ بالتوبة الإستغفار والمراجعة الدائمة لأعماله، وكذلك نصَّ القرآنُ الكريم على أنَّ الإنسان يستحضرُ بعض أعماله عند الموت فيندمُ أو يستبشر، يقول الله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ﴾(57) فلماذا يتوب لولا أنَّه استحضر أعماله السيئة، ويقول تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(58) فهو يُدرك قبل الموت وهو في عالم الدنيا أنَّه لم يكن من الصالحين، ولم يكن يفعل الصالحات كالصدقة ويتمنَّى لو يُؤخَّر عنه الموت حتى يتداركَ تقريطَه.
ويقول تعالى يحكي حال فرعون حين الموت بالغرق: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ / آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾(59) فهو حين أدركه الموتُ آمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل، فهو إذن قد علم حين أوشك على الموت أنَّه كان جاحدًا كافرًا وأنَّه ينبغي عليه أنَّه يُؤمن علَّه ينجو من المصير البائس الذي ينتظرُه، وقد خُوطب بعد أنْ قال إنَّه آمن بالله خُوطب بالتذكير أنَّه كان عاصيًا وكان من المفسدين، فإنْ كان الخطاب لفرعون قبل موته فهو يُثبت وقوع التذكير بالأعمال السيئة في الدنيا، وإنْ كان بعد زهاق روحِه فهو يُثبت وقوع التذكير بالأعمال في عالم ما بعد الموت فيكون من أدلَّة الحياة في البرزخ، وعلى أيِّ تقديرٍ فهو تذكيرٌ بالأعمال قبل يوم القيامة.
ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾(60) فالملائكة تُذكِّرُ الظالمين بأنَّهم كانوا يقولون على الله غير الحقِّ، وكانوا يستكبرون عن آيات الله تعالى، فإنْ كان خطابُ الملائكة لهم في حال النزع وغمرات الموت فهو تذكيرٌ بالأعمال السيئة في عالم الدنيا، وإنْ كان التذكير بهذه الأعمال بعد الموت فهو تذكيرٌ بها في عالم البرزخ، وعلى أيِّ تقديرٍ فهو تذكيرٌ بالأعمال السيئة قبل يوم القيامة.
ويقولُ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾(61) فهذه الآيةُ صريحةٌ في أنَّ الملائكة تزفُّ البشرى بالجنَّة لأهل الإستقامة وتُهدِّأ من رَوعهم، فلا موجب للخوفِ والحزن لانتفاء أسبابِه عنهم وذلك لإيمانِهم واستقامتهم، فإمَّا أنَّ الملائكة تُبشِّرُهم قبل الموت أو بعده وهو الأرجح، وعلى كلا التقديرين يثبتُ أنَّ الإنسان المستقيم يعلمُ بأعماله في الجملة وبنتيجة أعمالِه قبل يوم القيامة، فأين هي دعوى أنَّه لا يعلمُ بشيءٍ من ذلك قبل يوم القيامة؟!.
وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(62).
وأمَّا ما يدلُّ على تذكُّر الأعمال والعلم بها بعد الموت وفي عالم البرزخ فهو مثل قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ / لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(63) فهو بعد الموت يطلبُ الرجوع، وغايتُه من هذا الطلب هو العملُ للصالحات والتدارُك لِما كان قد تركه من امتثال أوامر الله تعالى، فهو يعلم إذن في عالم البرزخ وقبل يوم القيامة أنَّه قد ترك الصالحات ويتمنَّى لو يرجعُ إلى الدنيا ليتداركَ ما كان قد تركَه.
ويقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(64) فهم يُدركون في عالم البرزخ قبل يوم القيامة أنَّه لا خوفٌ عليهم ولا موجب عندهم للحزن، وذلك لاطمئنانِهم على مصيرهم بعد التطمين لهم، وتدلُّ الآية على أنَّهم يعلمون أنَّ منشأ ذلك هو أنَّ الله لا يضيعُ أجر المؤمنين فقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ متعلق ب (يستبشرون) فهم يستبشرون بنعمة الله ويستبشرون بما علموه من أنَّ الله لا يُضيع أجر المؤمنين، وحيث إنَّهم يعلمون من حالهم أنَّهم مؤمنون وأنَّهم قد التزموا بمقتضيات الإيمان، لذلك فهم مطمئنون في عالم البرزخ على ما سيصيرون إليه من نعيمٍ إذا بعث اللهُ الناس ليوم القيامة.
وأمَّا ما استدلَّ به صاحبُ الإشكال من الآيات فهي تُثبت أنَّ الإنسان يعلم يوم القيامة بكلِّ ما كان قد عمله في الدنيا من خيرٍ أو شرٍّ ولكنَّها لا تنفي علمَه بها ولو بنحو الإجمال قبل يوم القيامة، نعم ما يُميِّزُ يوم القيامة هو أنَّ الإنسان يطَّلع فيها على جميع أعماله تفصيلًا، فلا يفوتُه منها شيء مهما كان حقيرًا كما قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(65) وقال جلَّ وعلا في مورٍد آخر: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾(66).
فالإنسانُ في عالم البرزخ يحصلُ له العلم بما فعل واقترف من أعمالٍ صالحةٍ وسيئة ولكنَّه ليس من الضروري أنْ يعلمَ بذلك تفصيلًا، كما أنَّ علمَه بمصيره في الآخرة ليس ضروريًّا لجميع الناس، فمنهم من يعلمُ اجمالًا بمصيره، ومنهم من يظن، ومنهم مَن يرجو العفوَ أو الشفاعة، كما أنَّ العلم بالأعمال والمصير لا يحصلُ لجميع الناس في عالم البرزخ كما بيَّنا ذلك في التنبيه الثالث، وقلنا إنَّ الروايات المستفيضة دلَّت على أنَّ ثمة مَن يُلهى عنه ويترك فلا يُساءل ولا يحظى بنعيمٍ ولا يشقى بعذاب كما هو الشأن في المستضعفين والبُلْه ومَن كان له عملٌ صالح وآخرُ سيء، فلم يدَّعِ أحدٌ أنَّ العلم بالأعمال والمصير في عالم البرزخ يحصل لجميع الأفراد ويستوعبُ جميع الأعمال حتى يقال إنَّ ذلك من خصائص يوم القيامة.
العذابُ في البرزخ لا يُنافي أنَّ القيامة هي يوم الحساب:
الإشكال الثالث: الذي يتمسَّكُ به المُنكرون لعذابِ البرزخ هو أنَّ دعوى وجود العذاب في البرزخ لبعض الكافرين والعُصاة يتنافي مع ما دلَّ من الآيات على أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم الحساب، فإيقاعُ العذاب في البرزخ على الكافرين يقتضي أنْ يتقدَّم حسابُهم على يوم القيامة، وهذا يُنافي ما ثبتَ من أنَّ الحساب إنَّما يكون في يوم القيامة.
والجواب:
هو أنَّ يوم القيامة هو يومُ الحساب الأكبر، ففيه يُحاسبُ الناسُ على أفعالِهم الخطيرِ منها والحقير قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(67) وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ / وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ لكنَّه ليس في الآياتِ ولا في الروايات ما يدلُّ على انحصار الجزاء على العمل بالآخرة بل إنَّ الكثير من الآيات -وكذلك الروايات- صريحةٌ في أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه الحَسَنِ أو السَيءِ في الدنيا أو عند الموت أو ما بعد الموت وقبل قيام الساعة.
فمِن الآيات التي دلَّت على وقوع العذاب والعقوبة في الدنيا جزاءً على سوء العمل قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾(68).
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾(69).
ومنها: قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(70).
ومنها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم ﴾(71).
ومنها: قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾(72).
والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًّا، وهي صريحةٌ في أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه السيء في الدنيا قبل يوم الحساب في الآخرة، وفي عرض هذه الآيات ثمة آياتٌ تدلُّ على أنَّ الإنسان قد يُجازَى على حُسن صنيعه في الدنيا وله في الآخرى جزاءُ الضِعف.
فمِن تلك الآيات قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ / أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(73) لهم نصيبٌ ممَّا كسبوا في الدنيا وأمَّا في الآخرة فيُوفِّيهم أُجورهم.
ومنها: قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا / وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾(74). فثمة جزاءٌ في الدنيا وهو سعة الرزق والمدُّ بالأموال والبنين وثمة جنات في الآخرة وأنهار.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا / وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾(75). فجزاء التقوى في الدنيا الخلاص من المآزق والرزق غير المحتسب.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(76) فهذه الآية تدلُّ على جزاء التقوى وجزاء التكذيب في الدنيا.
ومن الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى جزاءَ صنيعه عند الموت قولُه تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾(77).
فهذه الآيةُ واضحةُ الدلالة في أنَّ مثل هؤلاء الظالمين يسوؤهم ما يجدونه في غمراتِ الموت من ملائكة العذاب، يتوعَّدونهم بالنكال وعذاب الهَوان بل الآيةُ ظاهرةٌ في أنَّهم يتلقَّون العذاب لحظةَ انتقالهم من عالم الدنيا، وهو ما يقتضي أنَّ لهم حياةً بعد الموت يتلقَّون فيها عذابَ الهَوان كما هو مقتضى مفاد قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ فالآية إمَّا أنْ تكون دالةً على وقوع العقوبة والجزاء على العمل في النشأتين الدنيا والبرزخكما هو الظاهر البيِّن منهاأو تكون دالة على وقوع العقوبة على سيء الأعمال في الدنيا، وعلى كلا التقدرين فهي تدلُّ على أنَّ الأنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه قبل يوم الحساب.
وبهذه الآيات ومثلها يتبيَّن أنَّ وصف القيامة بيوم الحساب لا يعني أنَّ الإنسان لا يلقى قبلها شيئًا من جزاء عملِه الحَسَن أو السَيء، وبذلك تسقطُ دعوى الإنكار لعذابِ البرزخ استنادًا إلى أنَّ الحساب والجزاءَ مؤجَّلٌ إلى يوم القيامة، فإنَّ هذه الدعوى تُناقضُ الكثيرَ من الآيات التي دلَّت على أنَّ الإنسان قد يلقى شيئًا من جزاء صنيعه في الدنيا وعند الموت وكذلك بعد الموت وقبل يوم القيامة كما هو مقتضى مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(78) فإنَّ هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الشهداء يتلقَّون شيئًا من جزاء عملِهم قبل يوم القيامة فهم: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
وكذلك فإنَّ قولَه تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾(79) يدلُّ كما أوضحنا ذلك على تلقِّي الكافرين شيئًا من العذاب والعقوبة بعد انتقال أرواحهم من عالم الدنيا، ومقتضى ذلك أنَّ الجزاء على سوء العمل لا يختصُّ بيوم الحساب.
وهكذا فإنَّ قولَه تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(80) يدلُّ بوضوحٍ على أنَّ آلَ فرعون يَحيق بهم ويحوطهم العذابُ قبل يوم القيامة، فهم يُعرضون على النار صباحَ مساء ثم إذا قامت الساعةُ أُمر بهم فأُدخلوا أشدَّ العذاب.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة فاطر / 22.
2- سورة النمل / 80.
3- سورة الأعراف / 77-79.
4- سورة الأعراف / 92-93.
5- سورة الزمر / 42.
6- سورة السجدة / 11.
7- سورة الأنعام / 61-62.
8- سورة الفجر / 27-29.
9- سورة المؤمنون / 99.
10- سورة المنافقون / 10.
11- سورة المؤمنون / 99-100.
12- آل عمران / 169-171.
13- سورة البقرة / 154.
14- سورة يس / 27-28.
15- سورة يس / 20-25.
16- سورة محمد / 27-28.
17- سورة الأنعام / 93.
18- سورة آل عمران / 169-171.
19- سورة يس / 27-28.
20- سورة محمد / 27-28.
21- سورة غافر / 45-46.
22- سورة الإنسان / 13.
23- كتاب الكافي للكليني ج3 ص 244 باب آخر في آرواح المؤمنين حديث رقم 1، 6، 7، الفصول المهمة للحر العاملي ج1 باب 71 ص 329.
24- صحيحة يونس الكافي للكليني ج 3 ص 241، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج1 ص 192.
25- سورة الفرقان / 53.
26- سورة النمل / 61.
27- سورة الرحمن / 19-20.
28- المؤمنون / 99-100.
29- آل عمران / 169-171.
30- غافر / 45-46.
31- سورة الزمر / 42.
32- سورة السجدة / 11.
33- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص235.
34- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص235.
35- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص237.
36- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص247.
37- سورة الزمر / 68.
38- سورة الطور / 9-10.
39- تفسير القمي ج2 / ص252.
40- الاحتجاج للطبرسي ج3 / ص97.
41- سورة يس / 51-52.
42- سورة النازعات / 46.
43- سورة الروم / 55.
44- سورة النازعات / 42-46.
45- سورة يونس / 45.
46- سورة الأحقاف / 35.
47- سورة الروم / 54-55.
48- سورة البقرة / 154.
49- سورة آل عمران / 169-171.
50- سورة الزخرف / 77.
51- سورة الزمر / 42.
52- سورة فاطر / 36.
53- سورة الزلزلة / 7-8.
54- سورة الانفطار / 4-5.
55- سورة التكوير / 12-14.
56- سورة آل عمران / 30.
57- سورة النساء / 18.
58- سورة المنافقون / 10.
59- سورة يونس / 90-91.
60- سورة الأنعام / 93.
61- سورة فصلت / 30.
62- سورة النحل / 32.
63- سورة المؤمنون / 99-100.
64- سورة آل عمران / 169-171.
65- سورة الكهف / 49.
66- سورة القيامة / 13.
67- سورة الأنبياء / 47.
68- سورة الرعد / 33-43.
69- سورة البقرة / 114.
70- سورة الزمر / 26.
71- سورة المائدة / 41.
72- سورة فصلت / 16.
73- سورة البقرة / 201-202.
74- سورة نوح / 10-12.
75- سورة الطلاق / 2-3.
76- سورة الأعراف / 96.
77- سورة الأنعام / 93.
78- سورة آل عمران / 169-171.
79- سورة الأنفال / 50.
80- سورة غافر / 45-46.