الدينُ الواقعي أينَ منه فتاوى الفقهاء
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
الإسلامُ الواقعي، المطابِق لما جاء به رسوُل الله (ص) هل هو الذي نأخذُه من الفقهاء الآن؟!
كيف نفسرُ إذن الاختلافَ بين الفقهاء الأعلام (بين الشيـعة أنفسهم).
الجواب:
الاختلافُ الواقعُ بين الفقهاء لا يُمثِّل أكثرَ من عشرةٍ بالمائةِ في مقابل ما هو موردُ وفاقٍ بينهم، ولو تنزَّلنا فالنسبة لا تتعدَّى العشرين بالمائة قطعاً، على أنَّ المقدار الذي هو موردُ خلافٍ بينهم إنَّما هو في التفاصيلِ غالباً وأما أصول المسائل فليست مورداً للخلاف كما هو واضح بأدنى تتبُّع، فلا يختلفُ الفقهاءُ مثلاً في وجوبِ الصلاة ولا في أعدادِها ولا في عددِ ركعاتِها كما لا يختلفونَ في الجهة التي يجب التوجُّهُ إليها حينها، ولا في اعتبار الطهارةِ والإباحِة ولا في جزئيَّةِ الركوعِ والسجوِد فيها، ولا في ناقضيَّة الحدثِ والكلامِ لها، وهكذا فالاختلافُ إنَّما هو في بعضِ التفاصيل كمن نسيَ جزءً هل يلزمُه القضاءُ أولا، ومن شكَّ بعد الفراغ أو في الأثناءِ ما هي وظيفتُه، وكيف يصنعُ من شكَّ في عددِ الركعات، فهذه التي يمكن التعبيرُ عنها بتفاصيلِ التفاصيل هي التي وقعَ في بعضِها الاختلافُ وليس في جميعها أيضاً.
ولو نقلنا الحديثَ إلى الصومِ فإنَّك لن تجدَ اختلافاً في أحكامه إلا في تفاصيلِ التفاصيل وإلا فوجوبُه وأنَّه في شهرِ رمضان وأنَّه يبدأُ بالفجرِ وينتهي بالغروبِ وأنَّ المفطرات فيه هي الأكلُ والشربُ والجماع والاستمناء وتعمُّد البقاءِ على الجنابِة وغير ذلك، فإنَّها ليست موردًا للخلاف، نعم وقعَ الاختلافُ مثلاً في أنَّ النومَ قبل الاغتسال من الجنابة هل هو من تعمُّد البقاءِ على الجنابة أولا؟، وأنَّ مَن أكلَ دون الفحصِ عن طلوع الفجر هل تلزمُه الكفارة أولا؟، وأنَّ مَن أفطر على محرَّمٍ هل تلزمُه كفارةُ الجمع أو الكفارة التخييرية؟. وهكذا هو الشأن في سائر العبادات كالزكاة والحج.
ولو نقلنا الحديثَ إلى المعاملات فالحالُ فيه هو الحال في العبادات.
فالغشُّ في البيع حرامٌ، والربا في البيعِ والقرضِ حرامٌ، والغَبن مصحِّحٌ للفسخ، والزواجُ من المتزوِّجة باطلٌ، والسفيهُ والمجنونُ والصغيرُ محجورٌ عليهم في المعاملات الماليَّة، والتكسُّب بالقمار حرامٌ وباطلٌ، وهكذا الشأنُ في الأطعمة والأشربة، فالمحرَّماتُ من الأطعمة والأشربة أكثُرها محلُّ وفاقٍ بين الفقهاء، فالنجسُ والخمرُ والخنزيرُ والسباعُ والمسوخُ محرَّمة. والأنعامُ والحبوبُ والأسماكُ من ذوات الفلس محلَّلة.
والاختلافُ في كَّل ذلك إنَّما هو في بعضِ التفاصيل.
فالتشريعاتُ التي هي موردُ وفاقٍ بين الفقهاءِ هي مِن الدِّين الواقعي والذي ثبتَ إمَّا بالقرآنِ الكريم أو بالسُنَّة الشريفةِ القطعيَّة الواصلةِ من طريقِ أهلِ البيت (ع) وما دون ذلك فهي أحكام ظاهريَّة قد تكون مطابقةً للواقع وقد لا تكون كذلك وإنَّما يلزم اعتمادُها باعتبارِ قيام الحجَّة على اعتبارِها.
فالمكلَّفُ إمَّا أنْ يكون فقيهاً فتسوقُه الأدلةُ المعتمدَة إلى تبنَّي حكمٍ يكون حجَّةً بينه وبين الله تعالى، وإمَّا أن يكون مقلِّداً فحينئذٍ لا طريقَ له في معرفة الأحكام الظاهريَّة الخلافيَّة إلا بالرجوع إلى الفقيه.
وبتعبير آخر:
إنَّ الأحكام الواقعيَّة المتوافَق عليها والمُحرَز صدورُها عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع) يجبُ على كلِّ مكلَّف التديُّنُ بها والالتزامُ بامتثالِها.
وأمَّا الأحكام التي لا تكونُ كذلك فهي وإنْ كانت مجهولةً تفصيلاً للمكَّلف مجتهداً كان أو مقلِّداً إلا أنَّها معلومةٌ اجمالاً لكلِّ مكلَّف. فما من مكلَّفٍ إلا ويعلم أنَّ ثمة أحكاماً جاء بها الرسولُ (ص) واقعةٌ ضمن الروايات التي وصلتْ إلينا بطريقٍ غير متواتر، فيستطيعُ أحدُنا أنْ يضع يدَه مثلاً على كتاب فروع الكافي ويقولُ إنَّ جملةً معتدَّاً بها من الروايات الواردة في هذا الكتاب قد صدرتْ قطعاً عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) وجملة منها ليست كذلك.
وبهذا يكون كلُّ مكلَّف عالماً بأنَّه مسئولٌ عن مجموعةٍ من الأحكام غير الأحكام القطعيَّة إلا أنَّه لا يعلمُ بها تحديداً وإنْ كان يعلمُ بها اجمالاً، وبذلك يكون مسئولاً بمقتضى التزامِه بدين الله تعالى عن الفحصِ والتنقيب ضمن هذه الروايات عن الأحكامِ الصادرة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، ولأنَّ الفحصَ ليس مُتاحاً لكلِّ أحد نظراً لتوقُّفه على مجموعة من المقدِّمات والآليات التي يحتاجُ اتقانُها إلى دراسة متأنِّية وشاقَّة، وهو ما يتطلب وقتاً طويلاً واستعداداً ذهنيَّاً متميزاً، ومن غير الممكن أن يتفرَّغ كلُّ الناس لذلك، ولهذا ينبري مجموعةٌ من الناس إلى دراسة هذه الآليات فإذا تمَّ لهم اتقانُها اعتمدوها وسيلةً لتمييز ومعرفة الأحكام الواردة ضمن الروايات المقطوع بصدور بعضِها في الجملة وعدم صدور البعض الآخر.
وحينئذٍ قد يختلفون فيما هو الصادر من غير الصادر وإذا اتَّفقوا على ما هو الصادر قد يختلفون في فهمِه ومدلولِه.
إلا أنَّه لا وسيلةَ للمكلَّفين غير المجتهدين في مقام الالتزام بالأحكام المعلومةِ اجمالاً والمجهولة تفصيلاً إلا الاحتياط لإحراز الالتزام بالواقع، وهذا الطريق شاقٌّ وعسير أو اعتماد ما وصل إليه الفقهاء من نتائج اجتهادِهم.
وهذا هو أيسرُ الطريقين، أمَّا أنْ يتجاهلَ المكلَّفُ تلك الأحكامَ المعلومةَ اجمالاً فذلك ينافي مقتضى كونه مسلماً حريصاً على الالتزام بدينِ الله تعالى.
فالأحكامُ التي يستنبطُها الفقهاءُ من الرواياتِ غير القطعيَّة وإن لم تكن جميعاً مطابقةً للواقع إلا أنَّ مقداراً منها وافراً مطابقٌ للواقع جزماً، غايتُه أنَّ ما هو مطابِقٌ للواقع وما هو غير مطابقٍ للواقع غيرُ محرَزٍ لنا. لذلك كان السبيل هو إمَّا الاحتياط لإدراك الواقعِ أو اعتماد قول واحدٍ من الفقهاء.
والطريق الثاني وإنْ كان يستلزمُ الوقوع في مخالفة الواقع في بعض الموارد إلا أنَّ المكلف لا يكونُ في هذا الفرض مُداناً ومسئولاً أمام الله تعالى عن ارتكابِه لما هو مخالفٌ للواقع وذلك لأنَّ هذا الطريق مجعولٌ من قِبل الله تعالى.
فهو تعالى لمَّا كان يعلمُ بأنَّه مِن غير المُتاح للمكلَّفين الوقوف على تمام الأحكام الواقعيَّة وأنَّ بعضَها قد لا يصلُ للمكلَّفين وصولاً قطعيَّاً، وأنَّ بعض الأحكام الواقعيَّة قد تقعُ في ضمن رواياتٍ متضمِّنة لأحكامٍ غير واقعيَّة لذلك جعل طريقاً يكونُ معها المكَّلفُ معفيَّاً من المسئوليَّة لو سلكها فأخطأ الواقع،هذه الطرق هي المُعبِّر عنها في الأصول بالأمارات كالخبر الموثوق وأخبار الثقاة، فمثلُ هذين الطريقين جُعلا لغرض إحراز الصدور، وهناك أماراتٌ جُعلت لغرض إحراز المُرادِ الواقعي من الخطابات الشرعيَّة مثل الاستظهارات العرفَّية.
فمؤدَّى هذه الإمارات والطرق وإنْ كان ظنِّيًا وقد يُخطأ الواقع ولكنَّ حجيَّته قطعيَّة بمعنى أنَّ من المقطوع به أنَّ الشارع جعل هذه الطُرقَ وسائلَ للوصول إلى أحكامِه الواقعيَّة لأنَّها غالبًا ما تُصيب الواقع، وجعلَ العملَ على طبقِ ما تؤدِّي إليه هذه الطرق أمرًا إلزاميًا على المكلَّفين، فما تُؤدِّي إليه هذه الطرق والأمارات وإنْ كانتْ أحكامًا ظنيَّة إلا أنَّها شرعيَّة بمعنى أنَّ الشارع هو مَن أمر قطعًا باعتمادِها في ظرفِ عدم الإحراز القطعيِّ للأحكام الواقعيَّة.
ثم إنَّ الطرق المذكورة لا يُجيدُ التعاطي معها غيُر الفقهاء، وذلك لأنَّ إتقانها يتوقَّف على مقدِّمات لا يُمكن تحصيلُها إلا بالدراسة المتأنية والشاقَّة، وهذا غير مُتاحٍ لغير المتفرغ لتحصيل هذا العلم.
لذلك كان ثمة طريقٌ مجعولٌ من قبل الله تعالى لغير الفقهاء من المكلَّفين وهو التقليد للفقيه الجامع للشرائط.
وهذا الطريق وإنْ كان قد يُخطأ الواقع ولكنَّ الحجيَّة المجعولةَ له من قِبَل الله تعالى قطعيَّة بمعنى أنَّ كلَّ مكلفٍ فهو مُلزَم باعتماد فتوى الفقيه الجامع للشرائط للخروجِ عن عهدة التكاليف المعلومةِ إجمالاً لكلِّ مكلَّف.
فلأنَّ كلَّ مكلَّفٍ يعلم أجمالاً بوجود أحكام واقعيَّة في ضمن ما ورد من الأدلَّة الشرعية، ولأنَّه لا يستطيعُ تمييز الواقعي منها من غير الواقعي ولأنَّ الاحتياط بالالتزامِ بكلِّ ما يُحتملُ أنَّه حكمٌ واقعي غير ممكنٍ أو عسيرٌ وشاق لذلك جعل الشارعُ المقدس فتوى الفقيه الجامع للشرائط طريقاً للخروج عن عهدة التكاليف المعلومةِ اجمالاً والمجهولة تفصيلاً.
فالحكم بوجوب الرجوع للفقيه الجامع للشرائط حكم واقعي وإن كان الفقيه قد يُخطأ الواقع في بعض فتاواه.
وهذه الوسيلة التي اعتمدها الشارعُ المقدَّس لغرض الوصول إلى الأحكام الواقعيَّة المعلومة اجمالاً وسيلةٌ يعتمدُها العقلاء جميعًا فيما يرتبطُ بشئونهم التنظيمية.
فالمواطن في بلدٍ ما يعلم أنَّ ثمة قوانين هو مسئولٌ عن الالتزام بها، وهذه القوانين بعضُها معلومة له تفصيلاً لذلك فهو يلتزم بها أو يرى نفسَه ملزماً بها، وبعضهما الآخر مجهولة له إلا أنَّه يُدرك أن ثمة قوانين موضوعة هو ملزم بها لكنه يجهلها تفصيلاً لذلك يرى نفسه ويراه القانون أيضاً مسئولاً عن التعرُّف عليها والالتزام بها، فجهله التفصيلي بها لا يُعفيه من مسئولية الالتزام بها.
ولهذا فقد يفحص عنها بنفسه وهنا قد يجد صعوبة تمنعه من القدرة على التعرُّف على هذه القوانين إما لأنَّها مصاغه ضمن مواد لا يُجيد فهمها لأنَّه من غير أهل الاختصاص أو لأنَّ هذه المواد القانونية يحتاج التوثُّق من صدورها إلى جهدٍ أو معرفةٍ بوسائل الإثبات القانونيَّة وكلا الأمرين أو أحدهما غير واجدٍ له.
ورغم ذلك لا يرى نفسه ولا يراه القانون معفيًا من المسؤولية عن الالتزام بالقوانين الموضوعة فلا سبيل له حينئذٍ إلا الرجوع إلى أهل الاختصاص لغرض تعريفه بما يلزمه من قوانين، وهنا قد يخطأ أهل الاختصاص ولكنه حينئذٍ يكون معفيًا من مسؤولية المخالفة للقانون نظرًا لاعتماده على أهل الاختصاص في مقام التعرُّف على القانون.
هذا لو كان أهل الاختصاص الذين رجع إليهم قد تمَّ تعيينهم من قبل المقنِّن إذ ليس للمقنَّن حينئذٍ بنظر العقلاء أنْ يساءل أو يُدين المواطنين لو خالفوا القانون الواقعي الموضوع بعد أن كانت مخالفتهم له نشأت من الاعتماد على فقهاء القانون الذين جعلهم المقنِّن طرقًا لمعرفة القانون الموضوع من قبله وهكذا الحال بالنسبة لفقهاء الشريعة فإنَّ الشارع هو من جعل الحجية لفتواهم.
والمتحصل مما ذكرناه أنَّ الاختلاف وإن كان موجودًا لكنَّه محدود ولا يؤدي إلى مسخ الصورة الواقعية للتشريع الإسلامي، على أنَّ المقدار غير المقطوع به من التشريع لا يتم تقريره جزافًا وإنَّما يتم تقريره بواسطة طرقٍ وأمارات معتمدة بنحوٍ قطعي من قبل المشرِّع جلَّ وعلا وهذا ما صحِّح لمؤدَّياتها أن تكتسب صفة الشرعية رغم أنَّها ظنية المطابقة للواقع.
وبتعبير آخر أنَّ المصحَِح لاتِّصاف الأحكام غير القطعية بالأحكام الشرعية هو أنَّ الطرق والأمارات التي استُفيدت منها هذه الأحكام قطعية الاعتبار من قبل الشارع المقدس.
هذا كلُّه فيما يتصل بالتشريع الإسلامي، وأمَّا ما يتصل بالعقيدة الإسلامية فليس ثمة اختلاف يُذكر بين الإمامية في الأصول الاعتقادية وإذا كان ثمة اختلاف فهو في بعض تفاصيل هذه الأصول والتي لا يضرُّ بإيمان المكلَّف جهلها أو عدم الاعتقاد بها.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور