بكاءُ الملائكةِ على الحسين (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
أورد الكليني في كتاب الكافي عن محمد بن حمران، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: "لَمَّا كان مِن أمْرِ الحسين (عليه السلام) ما كان، ضَجَّتِ الملائكةُ إلى اللهِ بالبكاءِ، وقالت: يُفْعَلُ هذا بالحسينِ صَفِيِّكَ وابنِ نبيِّكَ؟". قال: "فَأَقَامَ اللهُ لَهُمْ ظِلَّ القائمِ (عليه السلام) وقال: بهذا أنتَقِمْ لِهذا"(1).
وقد نصَّت رواياتٌ كثيرة على أنَّ الملائكة بكتْ على الإمام الحسين (ع)، والسؤال هو أنَّ البكاء من خصائص الإنسان وأمَّا الملائكة فهي وجوداتٌ مجرَّدة أو هي وجوداتٌ روحانيَّة فكيف تبكي على الحسين (ع)؟
الجواب:
البكاءُ من كلِّ شيء بحسبه:
البكاءُ من كلِّ شيءٍ بحسبِه أي بحسب ما تقتضيه طبيعةُ خَلْقِه وتكوينِه، ولهذا قال اللهُ تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾(2) وهو ما يُشعِر أو يدلُّ على أنَّ السماء قد تبكي وكذلك الأرض، غايته أنَّ بكاء السماء والأرض يكون بالنحو المُناسب لطبيعة تكوينِهما، وجهلُنا بالكيفيَّة لا يُصحِّحُ النفيَ والإنكار، فما أكثرُ الحقائق التي نجهلُها عن هذا الكون وعن هذا العالمِ المشهود فضلًا عن العوالِم الأُخرى، يقولُ الله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾(3).
ويقولُ الله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾(4)، فكلُّ شيء يُسبِّح بحمد الله تعالى ولكنَّ الإنسان لقصوره ومحدوديَّة مداركه لا يُدرك كيفيَّة تسبيحِ الأشياء بحمد الله تعالى إلا أنَّ عليه أنْ يؤمِنَ ويُذعنَ بوقوع ذلك حقيقةً لأنَّ خالق الأشياء والأعلم بخصوصيَّات تكوينِها قد أخبرَ عن هذه الحقيقة، وهذا هو معنى الإيمان بالغَيب الذي هو أحدُ أركان الإيمان كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾(5).
بكاء الملائكة من شؤون الغَيب:
فبكاءُ الملائكة الذي أخبرتْ عنه الرواياتُ المستفيضة واقعٌ في هذا السياق، فهو مِن شؤون الغَيب بل إنَّ مُجمل وجودِهم (ع) بما لهم من خصوصيَّات وما يقومونَ به من أفعال هو من شؤون الغَيب، ولهذا يتعيَّن على المؤمن الإيمان بهذه الحقيقة وبما هي عليه من خصوصيَّات إذا ثبت عن الله تعالى أنَّه قد أخبرَ عنها مِن طريق مَن ارتضاهم من خلْقِه للاطِّلاع على شيءٍ من غَيبه، قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾(6) وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(7) وقال جلَّ وعلا: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا﴾(8)، فحيثُ ثبتَ عن الرسول (ص) المؤيَّد بالغَيب أو عن أهل بيتِه (ع) المتَّصلين بالغَيب مِن طريقِ رسول الله (ص) فحيثُ ثبَتَ عنهم أنَّ الملائكة قد ضجَّت بالبكاء على الحسين (ع) لذلك يتعيَّنُ على المؤمن الإذعانُ بوقوع ذلك على إجماله كما هو الشأنُ في سائر المغيَّبات التي نُؤمنُ بها على إجمالها رغم عدم العلم بكُنهِها وحقيقتِها كالإيمان بالبرزخ والبعث والحساب.
منشأُ الاستيحاش وجوابُه:
ثم إنَّ منشأ الاستيحاش من بكاء الملائكة هو دعوى أنَّ البكاء من خصوصيَّات الإنسان المركَّب من لحمٍ ودمٍ وعصَب وبما ينطوي عليه من مشاعرَ وأحاسيس، وحيثُ إنَّ الملائكة وجوداتٌ مجرَّدة لذلك فلا يُتعقَّل في حقِّهم البكاء!!
إلا أنَّ هذه الدعوى لا تصحُّ، فإنَّ البكاء من شؤون المشاعر النفسانيَّة كمشاعر الحزن أو الخوف أو الألم، ولذلك ثبتَ من القرآن أنَّ الإنسان ينتابه الشعورُ بالحُزن والفرح والخوف بعد موته رغم تجرُّده مِن بدنه بعد موته وهو ما يكشفُ عن أنَّ المشاعر النفسانيَّة لا صلة لها بالبدن، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(9).
فالملائكةُ وإنْ كانوا مجرَّدين عن المادَّة إلا أنَّه قد ثبتَ من القرآن أنَّ لهم مشاعرَ، فهم يخافون ويغضبون، والخوفُ والغضبُ من شؤون المشاعر النفسانيَّة، قال تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾(10) وقال جلَّ وعلا: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(11) وقال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾(12) فهم يخشون ربَّهم إلى حدِّ الإشفاق وهو أعلى درجات الخوف والخشية، وقال تعالى يصفُ ملائكة العذاب: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾(13) والغِلْظة من مظاهر الغضب والذي هو من شؤون المشاعر النفسانيَّة، فإذا صحَّ على الملائكة الخوفُ والخشيةُ والغضب فأيُّ محذورٍ في أنْ يصحَّ عليهم البكاءُ والذي هو تعبيرٌ عن الحزن، نعم تختلفُ مظاهرُ التعبير عن الحزن باختلاف طبيعة الخَلْق والتكوين، فبكاءُ كلِّ شيءٍ بحسب ما يُناسب طبيعة خلْقِه وتكوينِه.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
2 / محرم الحرام / 1442هـ
22 / أغسطس / 2020م
1- الكافي -للكليني- ج2 / ص509.
2- سورة الدخان / 29.
3- سورة الإسراء / 85.
4- سورة الإسراء / 44.
5- سورة البقرة / 3.
6- سورة الجن / 26-27.
7- سورة آل عمران / 179.
8- سورة هود / 49.
9- سورة عمران / 169-170.
10- سورة الرعد / 13.
11- سورة النحل / 50.
12- سورة الأنبياء / 28.
13- سورة التحريم / 6.