حملُ رأس الحسين (ع) إلى مدينة الرسول (ص)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمد

المسألة:

هل حُمل رأسُ الإمام الحسين (ع) إلى مدينة الرسول (ص) وهل تمَّ دفنُه كما قيل في البقيع؟ أليس ذلك منافيًا لما هو المعروف من أنَّه أُعيد إلى كربلاء وأُلحق بالجسد الشريف؟

الجواب:

لا منافاة بين حمل الرأس إلى المدينة ودفنه في كربلاء:

قد يُلتزم بأنَّ رأس الحسين (ع) قد تمَّ حملُه إلى مدينة الرسول (ص) وفي ذات الوقت يُلتزم بأنَّه أُعيد إلى كربلاء وأُلحقَ بالجثمانِ الطاهر، فليس بين الأمرين تنافٍ، بل ليس بين الأمرين تنافٍ حتى مع الالتزام بأنَّه قد دُفن في البقيع، فقد يكونُ ذلك قد وقع في أوَّل الأمر وبعده أُخذ إلى كربلاء وأُلحق بالجثمان الطاهر.

استعراض النصوص التي أفادت حمل الرأس إلى المدينة:

وعلى أيِّ تقدير فالنصوص المتضمِّنة لإفادة أنَّ رأسَ الحسين (ع) قد حُمل إلى مدينة الرسول (ص) وافرةٌ وصالحة -ظاهرًا- للإثبات التاريخي لولا وجود ما يُعارضها. فمِن هذه النصوص:

النص الأول: ما أورده ابنُ سعد في الطبقات الكبرى بسندٍ له: قال: ".. وبعثَ يزيدُ برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وهو عاملٌ له يومئذٍ على المدينة، فقال عمرو: وددتُ أنَّه لم يبعثْ به إليَّ، فقال مروان: اسكت! ثم تناول الرأس فوضعه بين يديه وأخذ بأرنبتِه فقال:

يا حبَّذا بردُك في اليدين ** ولونُك الأحمرُ في الخدَّين

كأنَّما بات بمجسدين ..

ثم أمرَ عمرو بن سعيد برأس الحسين فكُفِّنَ ودُفن بالبقيع عند قبر أُمِّه"(1).

النص الثاني: ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف: "وقال عمرو بن سعيد: وددتُ والله أنَّ أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه فقال مروان: بئس ما قلت هاته!! ثم أخذ الرأس وقال:

يا حبّذا بردك في اليدين ** ولونُك الأحمر في الخدَّين

وحدَّثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو بكر عيسى بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: رعِف عمرو بن سعيد على منبر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم .. قال: فجيء برأس الحسين فنُصب، فصرخ نساءُ آل أبي طالب، فقال مروان:

عجَّت نساءُ بني زبيد عجّةً ** كعجيج نسوتِنا غداة الأرنب

ثم صحن أيضا فقال مروان:

ضربت دوشر فيهم ضربة ** أثبتت أركانَ ملكٍ فاستقر

وقال عمرو بن سعيد: وددتُ والله أنَّ أمير المؤمنين كان نحَّاه عنِّي ولم يُرسل به إلي، ووددتُ والله أنَّ رأس الحسين كان على عنقه وروحه كان في جسده"(2).

النص الثالث: ما أورده القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار: "ولمَّا أمر اللعين بأنْ يُطاف برأس الحسين (عليه السلام) في البلدان أُتي به إلى المدينة، وعاملُه عليها يومئذٍ عمرو بن سعيد الأشدق فسمع صياح النساء، فقال: ما هذا؟ قيل: نساء بني هاشم يبكين لَمَّا رأينَ رأس الحسين. وكان عنده مروان بن الحكم. فقال مروان اللعين متمثلا:

عجت نساء بني زياد عجة ** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

عنى اللعين عجيج نساء بني عبد الشمس لمَن قُتل منهم يوم بدر .. قال عمرو بن سعيد -عامل المدينة يومئذٍ-: لوددتُ والله أنَّ أمير المؤمنين لم يكن يبعثُ إلينا برأس الحسين. فقال له مروان: اسكت لا أمَّ لك، وقل كما قال الأول:

ضربوا رأس شريزٍ ضربة ** أثبتتْ أوتاد ملكٍ فاستقر

ثم أُتى برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد، فأعرض بوجهه عنه واستعظم أمرَه، فقال مروانُ اللعين لحامل الرأس: هاته. فدفعه إليه، فأخذَه بيده، وقال:

يا حبَّذا بردك في اليدين ** ولونُك الأحمر في الخدَّين"(3).

النص الرابع: ما أورده يحيى بن الحسن الجرجاني في الأمالي الخميسيَّة للشجري قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، بقراءتي عليه، قال: حدَّثنا محمد بن العباس بن حيويه، من لفظه، قال: حدَّثنا أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري، قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدَّثنا محمد بن الحسن، قال "كان بنو أميَّة مجتمعين عند عمر بن سعد فسمعوا صياحا فقالوا: ما هذا؟ فقيل: نساء بني هاشم يصحنَ لمَّا رأينَ رأس الحسين (عليه السلام)، فقال: مروانُ بن الحكم:

عجَّت نساءُ بني زبيدة عجَّة ** كعجيج نسوتنا غداة الأربد

فلمَّا دخل عمر بن سعد، قال: وددتُ والله أنَّ أمير المؤمنين ما كان وجَّه إليَّ، فقال له مروان: اسكت، لا أسكت ألا قلتَ كما قال القائل:

ضربت دوسر منهم ضربةً ** أثبتت أوتادَ ملكٍ فاستقر

ثم أخذ مروانُ الرأس فوضَعه بين يديه، فقال:

يا حبَّذا برده في اليدين ** ولونُه الأحمر في الخدَّين

 كأنَّما بات بمحسدين

والله إنِّي لكأنِّي أنظر إلى أيَّام عثمان(4)، ونقل ما يقرب من هذا النصِّ ابنُ نما الحلي في مثير الأحزان(5).

النص الخامس: قال اليافعي في مرآة الجنان: واختلف الناسُ أين حُمل الرأسُ المكرَّم من البلاد، وأين دُفن، فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أنَّ يزيد حين قدِم عليه رأسُ الحسين بعث إلى المدينة .. وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو إذ ذاك عاملُه على المدينة، فقال عمرو: وددتُ أنَّه لم يبعث به إليَّ، ثم أمرَ عمرو بن سعيد برأس الحسين رضوان الله عليه فكُفِّن ودُفن في البقيع عند قبر أمِّه فاطمة رضي الله عنها. قال: هذا أصحُّ ما قيل فيه، وكذلك قال الزبير بن بكار وأنَّ الرأس حُمل إلى المدينة. وما ذكر أنَّه نُقل إلى عسقلان أو القاهرة لا يصح"(6).

وأورد ما يقرب من هذا النصِّ الخوارزمي في مقتل الحسين (ع)(7).

النص السادس: قال ابن الجوزي المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: ثم بعث بهم إلى المدينة، وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص -وهو عامله على المدينة- فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة. هكذا قال ابن سعد(8).

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: وقال ابن سعد، عن الواقدي، والمديني، عن رجالهما، أنَّ محفز بن ثعلبة العائذي، عائذة قريش، قدم برأس الحسين على يزيد .. ثم بعث يزيد برأس الحسين إلى عامله على المدينة، فقال: وددتُ أنَّه لم يبعثْ به إليَّ، ثم أمر به، فدُفن بالبقيع عند قبر أمِّه فاطمة، رضي الله عنها"(9).

وفي تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزية قال: والثّاني: إنّه دفن بالمدينة عند قبر أمّه فاطمة (عليها السلام) قاله ابن سعد، قال: لمَّا وصل إلى المدينة كان سعيد بن العاص واليًا عليها فوضعه بين يديه وأخذ بأرنبة أنفِه ثمّ أمر به فكُفِّن ودُفن عند أمِّه فاطمة (عليها السلام). وذكر الشّعبيّ: إنّ مروان بن الحكم كان بالمدينة فأخذه وتركه بين يديه وتناول أرنبة أنفه وقال:

يا حبّذا بردُك في اليدينِ ** ولونُك الأحمرُ في الخدَّينِ

والله لكأنِّي أنظرُ إلى أيّام عثمان، وقال ابنُ الكلبيّ: سمع سعيد بن العاص أو عمرو بن سعيد الضَّجَّة من دور بني هاشم فقال:

عجَّت نساءُ بني تميم عجَّةً ** كعجيج نسوتِنا غداة الأرنب

والبيت لعمرو بن معدي كرِب والرّواية (عجَّت نساء بني زيادٍ). ورويَ أنَّ مروان أنشد:

ضرب الدوسر فيهم ضربةً ** أثبتت أوتادَ ملكٍ فاستقر"(10).

النص السابع: قال السيِّد الأمين في أعيان الشيعة: وفي كتاب جواهر المطالب لأبي البركات شمس الدين محمد الباغندي الشافعي كما في نسخةٍ مخطوطةٍ في المكتبة الرضويَّة عند ذكر أحوال الحسين (ع): وأمَّا رأسُه فالمشهور بين أهل التاريخ والسِيَر أنَّه بعثه ابنُ زياد الفاسق إلى يزيد بن معاوية، وبعث به يزيدُ إلى عمرو بن سعيد الأشدق لطيم الشيطان، وهو إذ ذاك بالمدينة فنصَبه ودُفن عند أمِّه بالبقيع"(11)، ونقل ذلك أيضًا في شرح إحقاق الحقِّ للمرعشي النجفي(12).

هذا وقد نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن شيخه أبي جعفر الإسكافي أنَّه وصف خبر حمل رأس الحسين (ع) إلى المدينة بالخبر المشهور(13).

النصوص التي أفادت أنَّ الرأس الشريف أُعيد إلى كربلاء:

وفي مقابل هذه النصوص ورد ما هو صريحٌ في أنَّ رأس الإمام الحسين (ع) رُدَّ إلى كربلاء وأُلحق بجسده الشريف، فمِن ذلك ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده عن فاطمة بنت عليٍّ (صلوات الله عليهما): ثم إنَّ يزيد أمر بنساء الحسين (عليه السلام) فحُبسنَ مع عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) في محبسٍ لا يكنُّهم من حرٍّ ولا قَرٍّ حتى تقشَّرت وجوهُهُم، ولم يُرفع ببيت المقدس حجرٌ عن وجه الأرض إلا وُجد تحته دمٌ عبيط، وأبصر الناسُ الشمسَ على الحيطان حمراء كأنَّها الملاحف المعصفرة، إلى أنْ خرج عليُّ بن الحسين (عليهما السلام) بالنسوة، وردَّ رأسَ الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء"(14).

ومنه: ما أفاده السيِّد المرتضى (رحمه الله) في رسائله قال: "وقد رووا أيضا "أنَّ الرأس أُعيد بعد حمله إلى هناك ودُفن مع الجسد بالطف .."(15).

ومنه: ما أفاده السيِّد ابن طاووس قال: "فأمَّا رأس الحسين (عليه السلام) فرُوي إنَّه أُعيد فدُفن بكربلاء مع جسده الشريف (عليه السلام) وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه"(16).

ومنه: ما أفاده العلامة المجلسي في بحار الأنوار قال: "والمشهور بين علمائنا الاماميَّة أنَّه دُفن رأسه مع جسده، ردَّه عليُّ بن الحسين عليهما السلام"(17).

ردُّ الرأس إلى كربلاء لا يُنافي حمله إلى المدينة بل ولا دفنه في البقيع:

والظاهرُ أنَّه لا مانع من الالتزام بأنَّ رأس الحسين (ع) قد تمَّ ردُّه إلى كربلاء وأُلحق بالجسد الشريف استنادًا إلى قول مشهور الاماميَّة كما أفاد صاحبُ البحار وكما هو المُستظهَر من عبارة السيِّد ابن طاووس فيُمكن الالتزام بذلك وفي ذات الوقت يُمكن الالتزام بأنَّ رأس الحسين (ع) قد تمَّ حمله قبل دفنِه في كربلاء إلى مدينة الرسول (ص)، إذ لا منافاة بين أنْ يكون الرأس الشريف قد حُمل إلى المدينة ثم ردَّه الإمامُ السجاد (ع) إلى كربلاء وألحقه بالجثمان الطاهر، فالبناءُ على هذا الجمع لا يُنافي ما عليه مشهور الاماميَّة، إذ أنَّ مقدار ما أفاده صاحبُ البحار والسيِّد ابن طاووس لا يقتضي أكثر من الدلالة على أنَّ الرأس الشريف قد أُلحِق في منتهى الأمر بالجثمان الطاهر وهذا ما لا تنفيه النصوص التاريخيَّة التي أفادت أنَّ الرأس الشريف قد حُمل إلى مدينة الرسول (ص).

المُستظهر من رواية الشيخ الصدوق (رحمه الله):

نعم قد يُقال إنَّ رواية الشيخ الصدوق عن السيِّدة فاطمة بنت عليٍّ (ع) ظاهرةٌ في أنَّ ردَّ الإمام السجاد (ع) للرأس الشريف إلى كربلاء قد وقع في طريق العودة من الشام، وعليه تكون هذه الرواية منافية للنصوص التاريخيَّة التي نصَّت على حمل الرأس إلى المدينة.

والجواب إنَّ الرواية ليست صريحةً بل ولا هي ظاهرة في ذلك، فإنَّ أقصى ما تدلُّ عليه الرواية أنَّ الإمام السجاد (ع) قد ردَّ الرأس إلى كربلاء، وأمَّا أنَّه قد ردَّه إلى كربلاء في طريق عودته من الشام أو أنَّه ردَّه إليها بعد عودته إلى المدينة فهذا ما لم تتصدَّ الروايةُ لبيانه، ومجرَّد أنَّ فقرة الإخبار عن الردِّ جاءت بعد فقرة الإخبار عن خروجه بالنسوة لا يدلُّ على أنَّ الفعلين قد صدرا عن الإمام السجاد (ع) في سياقٍ وزمانٍ واحد أو متقارب، على أنَّه لو أحتُمل من مفاد الرواية أنَّ ردَّ الرأس الشريف قد وقع في طريق العودة من الشام فإنَّ هذا الاحتمال يتعيَّن رفعُ اليد عنه وذلك لمنافاته مع الصريح من النصوص التي أفادت أنَّ رأس الحسين (ع) قد بعثه يزيدُ إلى مدينة الرسول (ص) ولا مقتضي لإسقاط هذه النصوص الموصوف مضمونها بالاشتهار خصوصًا وأنَّها مناسبة لما عُرف من سياسة يزيد الرامية إلى إشاعة الإرهاب والرعب في قلوب الناس حتى لا يُحدِّث أحدٌ نفسَه بالخروج عليه والمدينة هي من أهمِّ الحواضر التي يستهدفها النظام الأموي بهذه السياسة، كما أنَّ بعث الرأس الشريف إلى المدينة مناسبٌ لما انطوت عليه سريرته من الحرص على التشفِّي والانتقام، وقد تجلَّى ذلك في صلبه للرأس الشريف ثلاثًا في دمشق بعد أنْ طِيف به في العديد من حواضر الإسلام، وكذلك في تنكيله بالرأس الشريف وضربه له بالخيزران في محضرٍ من أجناده وحاشيته وعلى مرأىً من بناتِ الرسول (ص) وكان يُنشد الأشعار المُعبِّرة عن سروره بإدراكه للثأر من الرسول (ص) الذي قَتل أشياخه في بدر، فحملُ الرأس الشريف إلى مدينة الرسول (ص) وصلبِه هناك يقعُ في هذا السياق.

على أنَّ مَن أورد هذه النصوص ليسوا متَّهمين بالممالئة لأهل البيت (ع) بل إنَّ هذه النصوص إنْ لم تكن منافية لهواهم ومقتضياتِ مذهبهم فليس في مذهبهم ما يدفع لاختلاقها بل فيه ما يدعو للسكوت عنها بل والتستُّر عليها، فصدورُها مِن مثلهم واشتهار تناقلها بينهم ومناسبتها لمجريات الاحداث وسياسة الامويين كلُّ ذلك يُعزِّز من الوثوق بصدقها.

وأمَّا اشتمال بعض هذه النصوص على أنَّ رأس الحسين (ع) قد تمَّ دفنُه في البقيع فهو كذلك غير منافٍ لرواية الصدوق، وغير منافٍ لما عليه مشهور الاماميَّة من ردِّ الإمام السجاد (ع) الرأس الشريف إلى كربلاء، فإنَّ من الممكن أنْ يقوم الإمام (ع) بعد عودته واستقراره بنقل الرأس المعظَّم من البقيع إلى كربلاء واِلحاقه بالجثمان الطاهر، ونقلُ الجثامين بعد دفنها من موضعٍ إلى آخر بل ومن بلدٍ إلى بلد آخر أمرٌ متعارف، فلا منافاة بين الالتزام بوقوع الدفن للرأس مِن قِبَل والي المدينة في البقيع والالتزام بأنَّ الإمام السجاد (ع) قد ردَّه بعد ذلك إلى كربلاء.

المُستظهَر من روايات دفنِ الرأس الشريف في النجف:

بقي الكلام في الروايات التي قد يُستظهَر منها أنَّ الرأس الشريف قد تمَّ دفنُه عند أمير المؤمنين (ع) في النجف الأشرف، فهذه الروايات لا ينفي أكثرُها حمل الرأس إلى المدينة بل ولا ينفي دفنه أولًا في البقيع، على أنَّ أكثر هذه الروايات ليست ظاهرة في أنَّ الرأس الشريف قد تمَّ دفنُه في النجف الأشرف بل هي ظاهرة في أنَّ محلًا قريبًا من قبر الإمام أمير المؤمنين (ع) كان قد وُضع عليه الرأس الشريف، فهذا هو المستظهَر من مثل رواية المفضَّل بن عمر، قال: "جاز مولانا جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بالقائم المائل في طريق الغري، فصلَّى عنده ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟ قال: هذا موضع رأس جدِّي الحسين بن علي (عليهما السلام)، وضعوه هاهنا".

وكذلك هو المستظهَر من رواية أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَمَرَّ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ فَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَارَ قَلِيلًا فَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَوْضِعُ قَبْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ والْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ صَلَّيْتَ فِيهِمَا قَالَ: مَوْضِعُ رَأْسِ الْحُسَيْنِ (ع) ومَوْضِعُ مَنْزِلِ الْقَائِمِ (ع).

وذاتُ التعبير ورد في رواية مبارك الخباز، فالمستظهَر من قوله (ع): "مَوْضِعُ رَأْسِ الْحُسَيْنِ (ع) ومَوْضِعُ مَنْزِلِ الْقَائِمِ (ع). هو المحلُّ الذي وضعوا عليه الرأس الشريف، وقد اكتسب من ذلك شرفًا وفضلًا، وصار محلًّا لاستنزال الرحمة، لذلك كان مِن المستحَب زيارة الحسين (ع) عند ذلك الموضع وصلاة ركعتين كما فعل الإمامُ الصادق(ع) بحسب الروايات.

ويُؤكِّد هذا الفهم ما رواه الشهيد الأول في المزار مرسلًا عن المفضَّل بن عمر قال: "جاز الصادق (عليه السلام) بالقائم المائل في طريق الغري فصلَّى ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة فقال: هذا موضعُ رأس جدِّي الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام) وضعوه ههنا لما توجَّهوا من كربلاء ثم حملوا إلى عبيد الله بن زياد لعنة الله عليه .."(18).

نعم صرَّحت بعضُ الروايات بأنَّ رأس الحسين (ع) قد دُفن في النجف الأشرف عند أمير المؤمنين (ع) إلا أنَّها مضافًا لضعف سندها فإنَّها لا تخلو من غرابة تمنع من الوثوق بصدقها، فقد أفادت أنَّ منشأ دفن الرأس هناك أنَّ أحد الموالى سرقَ الرأس ودفنه عند أمير المؤمنين (ع) واشتملت روايةٌ أخرى من هذه الطائفة من الروايات على أنَّ: "ابن زياد لما بعث برأس الحسين بن علي إلى الشام رُدَّ إلى الكوفة فقال: أخرجوه منها لا يُفتنُ به أهلُها، فصيَّره الله عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فدُفن، فالرأس مع الجسد، والجسد مع الرأس" وهذه الرواية مضافًا إلى ضعفها ومضافًا إلى عدم اشتمال مصدرها - وهو كامل الزيارات- على كلمة "فدُفن" فإنَّ مضمونها لا يخلو من اضطراب فليس من الواضح ما معنى: "فالرأسُ مع الجسد، والجسدُ مع الرأس" فلم يبقَ في هذه الطائفة من الروايات سوى مرفوعة عليِّ بن أسباط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنك إذا أتيت الغري رأيت قبرين: قبرًا كبيرا وقبرًا صغيرا، فأمَّا الكبير فقبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمَّا الصغير فرأسُ الحسين عليه السلام".

فهذه الرواية وإنْ كانت ظاهرةً بدوًا في أنَّ الرأس الشريف مدفونٌ عند أمير المؤمنين (ع) كما هو مقتضى التعبير عن موضع الرأس بالقبر الصغير إلا أنَّه يتعيَّن رفع اليد عن هذا الظهور البدوي لصراحة رواية المفضَّل بن عمر في أنَّ الموضع هو المحلُّ الذي وضعوا عليه الرأس في طريقهم من كربلاء إلى الكوفة، وعليه فيكون المراد من القبر الصغير -بمقتضى الجمع- هو صورة لقبرٍ صغير وليس قبرًا حقيقيًا وإنَّما هو قبرٌ رمزي أُريد منه الإشارة إلى الموضع الذي كان محطًّا للرأس الشريف، وهذا المعنى هو المناسب لرواية أبان ورواية مبارك الخباز.

ولعلَّ مجموع ما ذكرناه هو منشأ إعراض علماء الاماميَّة عن مفاد الروايات المتضمِّنة لدعوى دفن الرأس الشريف في النجف الأشرف.

وخلاصة القول: إن الذي استقرَّ عليه رأيُ الامامية وعملُهم أنَّ الرأس الشريف قد أُلحق بالجسد الطاهر في كربلاء وذلك لا ينفي حمل الرأس إلى المدينة قبل ذلك بل ولا ينفي الأخبار التي أفادت أنَّه قد دُفن أولًا في البقيع قبل أنْ يردَّه الإمام السجاد (ع) إلى كربلاء، ولذلك فالصحيح بمقتضى النصوص التاريخيَّة الموصوفة بالشهرة أنَّ رأس الحسين (ع) قد حُمل إلى مدينة الرسول (ص) وتمَّ صلبُه أو عرضه هناك قبل أنَّ يُلحقه الإمام السجاد(ع) بالجثمان الطاهر في كربلاء.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / محرم الحرام / 1442ه

26 / أغسطس / 2020م


1- الطبقات الكبرى ترجمة الإمام الحسين -ابن سعد- ص84-85.

2- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص217-218.

3- شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص159-161.

4- الأمالي الخميسيَّة للشجري -يحيى بن الحسن الجرجاني- ص248.

5- مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص57.

6- مرآة الجنان -اليافعي- ج1 / ص109-110.

7- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج1 / ص75.

8- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج5 / ص344.

9- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج5 / ص20.

10- تذكرة الخواص -سبط ابن الجوزية- ص301.

11- أعيان الشيعة -السيد محسن الأمين- ج1 / ص626.

12- شرح إحقاق الحق -المرعشي النجفي- ج33 / ص702.

13- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج4 / ص72.

14- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص231-232.

15- رسائل الشريف المرتضى -الشريف المرتضى- ج3 / ص130.

16- اللهوف في قتلى الطفوف -السيد ابن طاووس- ص114.

17- بحار الأنوار -المجلسي- ج45 / ص145.

18- المزار -الشهيد الأول- ص32.