يشربُ الخمر ويصبُّ فضلته ممَّا يلي الرأس الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد

المسألة:

يتناقل البعض خبرًا مضمونه أنَّ يزيد بن معاوية سكب الخمر على رأس الحسين (ع) فهل صحَّ ذلك؟! وهل يُمكن أن يقع ذلك؟!

الجواب:

أورد الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه وكتاب عيون أخبار الرضا (ع) بسندٍ مُعتبرٍ عن الفضل بن شاذان قال: سمعتُ الرضا (عليه السلام) يقول: "لمَّا حُمل رأس الحسين (عليه السلام) إلى الشام أمرَ يزيد فوُضِع ونُصِب عليه مائدة، فأقبل هو وأصحابه يأكلون ويشربون الفقَّاع، فلمَّا فرغوا أمرَ بالرأس فوُضع في طست تحت سريره وبسط عليه رقعة الشطرنج وجلس يزيد يلعب بالشطرنج، ويذكر الحسين بن علي وأباه وجدَّه (عليهم السلام) ويستهزئ بذكرهم، فمتى قامرَ صاحبَه تناول الفقَّاع فشربه ثلاث مرَّات ثم صبَّ فضلته على ما يلي الطست من الأرض .."(1).

وأورد كذلك في كتابه عيون أخبار الرضا (ع) بسندٍ عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعتُ أبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: أوَّل مَن اتُّخذ له الفقَّاع في الإسلام بالشام يزيد بن معاوية فأُحضر وهو على المائدة وقد نصَبها على رأس الحسين (عليه السلام) فجعل يشربُه ويسقى أصحابه ويقول: اشربوا فهذا شرابٌ مبارك ولو لم يكن بركتُه إلا أنا أوَّل ما تناولناه ورأسُ عدوِّنا بين أيدينا، ومائدتُنا منصوبةٌ عليه، ونحن نأكلُ ونفوسنا ساكنة وقلوبُنا مطمئنة .."(2).

يصبُّ الخمرَ على الأرض ممَّا يلي الطست:

والفقَّاع نوعٌ من الخمر يُتَّخذُ من الشعير، ومفاد الروايتين أنَّ يزيد كان يشربُ الخمر ويلعبُ بالشطرنج في محضر الرأس الشريف، وتُضيف معتبرة الفضل بن شاذان أنَّ يزيد كان يصبُّ ما يفضُل في الكأس من شراب الخمر على الأرض ممَّا يلي الطست الذي وُضع فيه الرأس الشريف، فليس في الرواية أنَّه كان يصبُّه على الرأس المعظَّم، وإنْ كان ما يفعلُه من صبِّه على الأرض ممَّا يلي الطست موبقةٌ وعظيمة من العظائم سوف يبوءُ ومَن معه بإثمها يوم يعضُّ الظالم عليه يديه.

وأمَّا السؤال عن إمكانيَّة ذلك فجوابه أنَّ شرب يزيدٍ للخمر في محضر الرأس المكرَّم وصبِّه ما يفضل منه ممَّا يلي الطست ليس بأعظم من قتل الحسين (ع) والتمثيل بجسده المطهَّر وحمل رأسه الشريف وصلبه والطواف به في حواضر الإسلام، وكلُّ ذلك قد وقع، وهو بعينِ الله، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم، والعاقبة للمتقين، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾(3).

وقد سبق لآباء هذا الرجل وأشياخه أنْ نصبوا الأصنامَ والأوثان على ظهر الكعبة الشريفة، فكان هبلُ وكانتِ اللاتُ والعزَّى وما يقرب من ثلاثمائة وستين صنمًا منصوبةً على الكعبة وفي أفنية أطهرِ وأكرم بيتٍ وُضع للناس فما عاجلَهم بعقوبة.

طرحوا أحشاء جزورٍ على النبيِّ (ص) وهو ساجد:

ثم حين بعث اللهُ تعالى فيهم نبيَّه (ص) -جدَّ الحسين- وأنزل معه الكتاب آذوه أشدَّ الأذى وسخِروا منه، يقول عبد الله بن مسعود: "بينما رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُصلِّي عند البيت وأبو جهلٍ وأصحابٌ له جلوس، وقد نُحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيُّكم يقوم إلى سلى جزور فيضعُه على كتفي محمَّد إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم فأخذه فوضعه بين كتفيه فضحكوا، وجعل بعضُهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظرُ لو كانت لي منعة طرحتُه والنبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) ما يرفع رأسه فجاءت فاطمة وهي جويرية فطرحتْه عنه .."(4).

وأخرج البخاري في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله هو ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: بينما رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يُصلِّي عند الكعبة وجميع قريش في مجالسهم ينظرون، إذ قال قائل منهم: ".. أيُّكم يقوم إلى جزور أبي فلان فيعمَدُ إلى فرثِها ودمِها وسلاها فيجيء به ثم يُمهلُه حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه فانبعث أشقاها فجاء به فلمَّا سجد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وضعَه بين كتفيه وثبت النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) ساجدًا وضحكوا حتى مال بعضُهم على بعضٍ من الضحك، فانطلق منطلِقٌ إلى فاطمة (ع) وهي جويرية فأقبلتْ تسعى حتى ألقته عنه .."(5).

ما وقع للنبيِّ (ص) في الطائف:

كذلك كانت أيام رسول الله (ص) معهم في مكة، وحين رحل إلى الطائف -يصحبُ معه عليًّا وزيدًا- يدعوهم إلى الهدى لم يكنْ أذاهم له ولم تكن سخريتُهم به تقصرُ في شدَّتها ونكايتها عمَّا كانت تفعلُه قريش، فقد أمعنوا في امتهانه والاستهزاء به ما وسِعَهم وأغروا سُفهاءهم وعبيدَهم يسبُّونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وتحلَّقوا حوله، وفي منصرفه عنهم قعدوا له صفَّين على طريقه، فكان لا يرفعُ بينهم رِجليه ولا يضعُهما إلا رضخوهما بالحجارة، وكانوا أعدُّوها لذلك حتى أدمَوا رجليه، وهم في ذلك يتضاحكون، وكان إذا أذلقته الحجارة وأقعدته ألجأوه للقيام، فإذا مشى عادوا يرجمونه، فما خلص منهم بعد عناءٍ وإعياء إلا ورجلاه تسيلان بالدماء فعمِد (ص) إلى حائطٍ من حوائطهم يستظلُّ عنده وهو مكروبٌ موجع تشخبُ رجلاه دمًا وقد شُجَّ رأسُ مَن كان معه شجاجًا عديدة وكان يقيه بنفسه(6).

وحين عاد من الطائف إلى مكَّة -وكان ذلك بعد موت أبي طالب- صار لا يأمنُ على نفسِه، وصاروا يتآمرون عليه، فكان رأيُ بعضِهم توثيقه بالأغلال وحبسه أو وقْذه بالضرب المبرِّح وإثخانه إلى حدِّ الإقعاد به، وكان رأيُ آخرين إخراجَه وطردَه من موطنه، ثم استقرَّ رأيُهم على قتله على فراشِه فأذِن الله له بالهجرة كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(7).

وقع كلُّ ذلك الهوان منهم بسيِّد المرسلين (ص) وما عاجلهم اللهُ تعالى بعقوبته إملاءً واستدراجًا ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾(8).

راثتْ خيولُهم وبالت في المسجد النبويِّ وعند قبره الشريف:

وقد كان من أبنائهم أنْ هتكوا مدينة الرسول (ص) واستباحوها ثلاثًا وجالت خيولُهم وراثتْ وبالت في مسجده وبين قبره الشريف ومنبره(9)، ثم ضربوا الكعبة بالمنجنيق والنار فتصدَّعت حيطانها واحترقت أستارُها، وكان من نيَّة بعض أبنائهم أنْ يشرب الخمر على ظهر الكعبة استهتارًا(10)، "واشتهر عنه أنَّه فتح المصحف فخرج: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾(11)، فألقاه ورماهُ بالسهام، وقال:

تُهدِّدُني بجبارٍ عنيدٍ ** فها أنا ذاكَ جبارٌ عنيدُ

إذا ما جئتَ ربَّك يومَ حشرٍ ** فقلْ يا ربُّ مزَّقني الوليدُ(12)

يقول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾(13).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / محرم الحرام / 1442هـ

4 / سبتمبر/ 2020م


1- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج4 / ص419 عيون أخبار الرضا (ع) ج2 / ص25.

2- عيون أخبار الرضا (ع) ج2 / ص25.

3- سورة فاطر / 45.

4- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج1 / ص217، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج5 / ص180، الخرائج والجرائح -قطب الدين الراوندي- ج1 / ص51.

5- السنن الكبرى -البيهقي- ج9 / ص7، صحيح البخاري- البخاري- ج1 / ص131.

6- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج1 / ص212، دلائل النبوة -البيهقي- ص415، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج3 / ص13، السيرة النبوية عيون الأثر- ابن سيد الناس- ج1 / ص176، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج14 / ص97.

7- سورة الأنفال / 30.

8- سورة محمد / 4.

9- فيض القدير شرح الجامع الصغير المناوي- ج1 / ص58، خلاصة الوفا -السمهودي- ص33، التذكرة بأحوال الموتى- القرطبي- ص1187، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص323، السيرة الحلبية -الحلبي- ج1 / ص268.

10- هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك تاريخ الإسلام -الذهبي- ج8 / ص290، البداية والنهاية -ابن كثير- ج10 / ص9، تاريخ الخلفاء -السيوطي- ص273، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج63 / ص335.

11- سورة إبراهيم / 15.

12- الكامل في التاريخ -ابن الأثير ج5 / ص 290، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك- ابن الجوزي- ج7 / ص241 ورد فيه: فقلْ يا ربُّ حرَّقني الوليدُ، مروج الذهب -المسعودي ج3 / ص216 ورد فيه: فقلْ يا ربُّ خرَّقني الوليدُ، الفتوح -ابن أعثم- ج8 / ص303.

13- سورة هود / 8.