توبة من سمِع واعية الحسين..وحال حميد بن مسلم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد
المسألة:
الرواية القائلة: "من سمع واعيتنا أهلَ البيت فلم ينصرنا أكبَّه الله على منخريه في نار جهنم"، السؤال: حتى وإنْ تاب قبل موته؟ وماذا عن حميد بن مسلم الأزدي؟
الجواب:
ورد هذا الحديث الشريف بألسنةٍ متفاوتة تفاوتًا يسيرًا:
فقد أورد الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن هرثمة قال: ".. كنتُ في البعث الذين بعثهم عبيدُ الله ابن زياد .. ثم صرتُ إلى الحسين (عليه السلام)، فسلمتُ عليه .. فقال (ع): معنا أنتَ أم علينا؟ فقلتُ: لا معك ولا عليك، خلَّفتُ صبيةً أخافُ عليهم عبيدَ الله بن زياد. قال: فامضِ حيثُ لا ترى لنا مقتلًا، ولا تسمعُ لنا صوتًا، فوالذي نفسُ الحسينِ بيده، لا يسمعُ اليومَ واعيتنا أحدٌ فلا يُعيننا إلا كبَّه الله لوجهِه في جهنَّم"(1).
وأورد الشيخ الصدوق كذلك في الأمالي بسنده إلى جعفر بن محمَّدٍ الصادق (ع) قال: ".. ثم سار الحسين (عليه السلام) حتى نزل القطقطانة، فنظرَ إلى فسطاطٍ مضروب، فقال: لمَن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله بن الحرِّ الجعفي فأرسل إليه الحسين (عليه السلام) فقال: أيُّها الرجل، إنَّك مذنبٌ خاطئ وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ آخذك بما أنتَ صانعٌ إنْ لم تتب إلى الله تبارك وتعالى في ساعتك هذه، فتنصرني ويكون جدِّي شفيعك بين يدي الله تبارك وتعالى.
فقال: يا بن رسول الله، والله لو نصرتُك لكنتُ أول مقتولٍ بين يديك، ولكن هذا فرسي خذْه إليك، فوالله ما ركبتُه قطُّ وأنا أرومُ شيئًا إلا بلغتُه، ولا أرادني أحدٌ إلا نجوتُ عليه، فدونك فخذْه. فأعرضَ عنه الحسينُ (عليه السلام) بوجهِه، ثم قال: لا حاجة لنا فيك ولا في فرسِك ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾(2) ولكن فرَّ، فلا لنا ولا علينا، فإنَّه من سمِع واعيتنا أهلَ البيت ثم لم يُجبنا، كبَّه اللهُ على وجهه في نار جهنَّم"(3).
وفي رواية الإرشاد فقال له الحسين عليه السلام: "فإنْ لم تنصرنا فاتقِ الله أنْ تكون ممَّن يُقاتلنا، والله لا يسمعُ واعيتنا أحدٌ ثم لا ينصرنا إلا هلَك"(4).
وفي حديث الأربعمائة عن الإمام الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) قال: "من شهدَنا في حربنا أو سمع واعيتنا فلم ينصرْنا أكبَّه الله على مَنخريه في النار"(5).
المراد من الواعية:
والمراد من الواعية هو الصوتُ المشتمل على مثل الاستنصار وطلب المؤازرة، ويُمكن أنْ يكون المراد من قوله (ع): "من سمع واعيتنا" الكناية عن أنَّ كلَّ من وجدنا بحاجة إلى المعونة على العدوّ والمؤازرة فلم يُبادر لذلك فهو في النار وإنْ لم نطلب منه ولم يسمع لنا استغاثة.
ومن موارد استعمال الواعية هو الصُراخ على الميِّت ونَعْيُه إلا أنَّ ذلك غير مرادٍ من الرواية الشريفة لعدم مناسبته لما سِيقت إليه الرواية وهو البيان لوجوب المبادرة للنصرة عند سماع الواعية، ولا موجب لذلك عند سماع صوت النعي للميت كما هو واضح، فالواعية في الرواية ليست بمعنى صوت النعي بل هي بمعنى الصوت المعبِّر عن طلب المعونة والمؤازرة.
نعم هي بمعنى الصراخ والنعي في مثل هذا النص: "ولما أنفذ ابنُ زياد برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد، تقدَّم إلى عبد الملك بن أبي الحديث السلمي فقال: انطلق حتى تأتي عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة فبشِّره بقتل الحسين، فقال عبد الملك: فركبتُ راحلتي وسرتُ نحو المدنية.. ولما دخلتُ على عمرو بن سعيد قال: ما وراءك؟ فقلتُ: ما سرَّ الأمير، قُتل الحسينُ بن علي، فقال: اخرجْ فنادِ بقتلِه، فناديتُ، فلم أسمعْ واللهِ واعيةً قطُ مثلَ واعيةِ بني هاشم في دورهم على الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام) حين سمعوا النداء بقتله، فدخلتُ على عمرو بن سعيد، فلمَّا رآني تبسَّم إلي ضاحكا .. ثم قال عمرو: هذه واعيةٌ بواعيةِ عثمان"(6).
فالواعية في هذا النص تعني البكاء الشديد والنعي.
هل تقبل توبة من سمع الواعية فلم يستجب؟
وأمَّا السؤال عن قبول توبة مَن صدر منه هذا الذنبَ العظيم -أعني سماع واعية أهل البيت وعدم المبادرة لبذل النصرة لهم- فجوابُه أنَّ الله تعالى واسعٌ كريم، فلو أخلص التوبة لله تعالى من هذا الذنب واستغفر منه فإنَّ الله قد يستجيبُ لدعائه واستغفاره، ويقبلُ توبته لكنَّ الاستقراء لأحوال عددٍ وازن ممَّن سمِع واعية أهل البيت (ع) ممَّن كان في معسكر عمر بن سعد يُفضي إلى الاطمئنان بأنَّ أحدًا منهم لم يوفَّق للتوبة، فما منهم من أحدٍ إلا وهو مخذول قد أوكلَه اللهُ إلى نفسه فامتنعتْ عليه التوبة.
الشأن في حُميد بن مسلم الأزدي:
وأما حُميدُ بن مسلم فهو رجلٌ فاسق لم تثبتْ توبتُه، وذكر عددٌ من المؤرِّخين كالبلاذري أنَّ المختار طلبه ليقتله فهرب ونُسب إليه أنَّه قال بعد أنْ نجا من سيف المختار:
ألم ترني على دهَشٍ ** نجوتُ ولم أكدْ أنجو
رجاءُ اللهِ أنقذني ** ولم أكُ غيرَه أرجو(7)
وهو كما أفاد الشيخ المفيد ممَّن سُرِّح مع خولِّي بن يزيد الأصبحي برأس الحسين(ع) إلى ابن زياد(8).
وذكر الطبري أنَّ عمر بن سعد أرسله إلى أهله ليبشِّرهم بعافيته وبفتح الله عليه فذهب -كما أقرَّ هو- وبشَّر أهله بذلك(9) وذكر ابنُ قتيبة الدينوري في الأخبار الطوال أنَّ حميد بن مسلم قال: إنَّ عمر بن سعد كان صديقاً له وكان يزوره، قال: فأتيته عند منصرفه من قتال الحسين، فسألته عن حاله، فقال: "لا تسأل عن حالي، فإنَّه ما رجع غائبٌ إلى منزله بشرٍّ ممَّا رجعتُ به، قطعتُ القرابة القريبة، وارتكبتُ الأمر العظيم"(10) فإنْ كان حميد بن مسلم قد ندم على ما اقترفه فهو كندم عمر بن سعد أخزاهما الله وشدَّد عليهما العذاب.
وأمَّا دعوى أنَّه كان في جيش التوابين فلم تثبتْ وإنَّما ورد ذلك على لسانه، على أنَّه رجلٌ يُنافِق يكون مع مَن غلب.
وأمَّا إخباراتُه فيُقبلُ منها ما تقومُ القرائنُ على صدقِها أو الظنِّ بصدقها، وأما ما يتفرَّد بنقلِه ولم تقم القرينة على صدقِه أو الظنِّ بصدقه فلا يُعبأُ به.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
22 / محرَّم الحرام / 1442هـ
15 / سبتمبر / 2020م
1- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص199-200.
2- سورة الكهف / 51.
3- الأمالي -الصدوق- ص219.
4- الإرشاد -المفيد - ج2 / ص82.
5- الخصال -الصدوق- ص625.
6- الإرشاد - المفيد- ج2 / ص123.
7- أنساب الأشراف -البلاذري- ج6 / ص409، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص530.
8- الإرشاد -المفيد- ج2/ ص 113، الدر النظيم- ابن حاتم المشغري- 559.
9- تاريخ الطبري -الطبري- ج4/ ص349. البداية والنهاية - ابن كثير- ج8 / ص207.
10- الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص260. بغية الطلب في تاريخ حلب -ابن العديم- ص2631.