الخطيئة المنسوبة لداود (ع) في زيارة الناحية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم
هل سند الزيارة الناحية صحيح؟
يُوجد في فقرةٍ منها: "السلامُ عَلَى دَاوُدَ الَّذِي تَابَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَتِهِ".
ما هي خطيئة داود؟ كنتُ أظنُّ أنَّ اليهود هم الذين يقولون بخطيئة داود!.
الجواب:
زيارة الناحية من الزيارات المأثورة:
زيارة الناحية من الزيارات المأثورة عن الناحية المقدَّسة أوردها الشيخُ محمد بن جعفر المشهدي في كتابه المزار(1) وكذلك أوردها قبله الشيخ المفيد رحمه الله كما أفاد العلامة المجلسي في البحار(2)، هذا مضافًا إلى أنَّ مضامين الزيارة مطابقة في الجملة للمستفيض من الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، وهي تُعدُّ من النصوص المعتبرة في الجملة التي يُستعانُ بها على توثيق الأحداث التي وقعت في كربلاء نظرًا لإحراز وجودها في زمنٍ قريب نسبيًا من زمن واقعة الطف.
المقصود من فقرة: "دَاوُدَ الَّذِي تَابَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَتِهِ
وأمَّا المقصود من الخطيئة المنسوبة لنبيِّ الله داود (ع) في الفقرة المذكورة في الزيارة فهو ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ﴾(3).
وحاصلُ ما صدر عن داود (ع) فاقتضى ذلك منه الاستغفار والإنابة هو أنَّ خصمين حضرا عنده ليفصل بينهما فبدأ أحدُهما وهو المدَّعي فقال إنَّ أخاه -والذي هو خصمه- له تسعٌ وتسعون نعجة -وهي الأنثى من الضأن- وهو لا يملك إلا نعجة واحدة، ورغم ذلك طلب منه بأنْ تكون هذه النعجة إليه وتحت سلطانه وألحَّ في ذلك، فبادر داود (ع) بالجواب والفصل قبل أنْ يستمع إلى الطرف الآخر المدَّعى عليه فقال: إنَّ أخاك صاحب النعاج قد ظلمَك بطلبِه ضمَّ نعجتك إلى نعاجه ثم عقَّب على ذلك، وقال إنَّ الكثير من الخلطاء يظلمُ ويبغي بعضُهم على بعض، ثم تنبَّه داود (ع) إلى أنَّه لم يكن ينبغي له أنْ يُبادر للحكم وفصل الخصومة قبل أنْ يستمع للطرف الآخر المدَّعى عليه، لذلك استغفر ربَّه وخرَّ لله ساجدًا وتاب من هذه الخطيئة.
هذا هو حاصل قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ / إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلى سَوَاءِ الصِّرَاطِ / إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ / قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ / فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ﴾(4).
فخطيئةُ داود (ع) التي اقتضت منه الاستغفار والإنابة لربِّه هي أنَّه تعجَّل في الحكم قبل أنْ يستمعَ إلى حجَّة الطرف الآخر، وهذه الخطيئة ليست ذنبًا، إذ أنَّ الأنبياء منزَّهون عن الوقوع في الذنب -كما هو مقتضى الأدلَّة العقليَّة والنقليَّة- لذلك يتعيَّن حمل ما فعلَه داود على الحكم التقديري بمعنى أنَّ مقصوده من قوله: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ﴾ هو أنَّه قد ظلمَك على تقدير أنْ لا تكون له حجَّة سيُدلي بها، فداودُ لم يقصد من قوله: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ ..﴾ البتَّ النهائي في الحكم وإنَّما قصد من هذا القول هو أنَّك أيُّها المدَّعي تكون صاحب الحقِّ في القضيَّة إذا لم يأتِ خصمُك بحجَّةٍ تدفع دعواك.
فما أفاده داود لم يكن ذنبًا ولكنَّه رغم ذلك لم يكن ينبغي له المبادرة لإعطاء هذا الحكم وإن كان حكمًا تقديريًّا، ولهذا كان ما فعله داود مخالفًا للأولى، فخطيئةُ داود مصنَّفةٌ ضمن المخالفة لما يقتضيه الأولى، وصدور ذلك من الأنبياء لا يُنافي ما ثبت لهم من العصمة.
الخطيئة المشار إليها ليست هي الزواج من أوريا:
فالخطيئة التي أشارت إليها الآيات وكذلك زيارة الناحية ليست هي ما افترته اليهود من زواجه من زوجة أوريا أحد القادة لجنده حيث اطَّلع بزعمهم على زوجته وهي تغتسل فأعجبه جمالُها فبعث به -أوريا- إلى بعض سراياه، وأمر بتقديمه في الصفوف الأمامية ليُقتل فحين قُتل تزوَّج امرأته بعد أنْ انقضت عدَّتها فوُلد له منها سليمان، وزعم اليهود في كتابهم المقدَّس أنَّه ضاجعها قبل مقتل زوجها(5) فإنَّ مثل هذه الفعل -على أيِّ تقدير- لشناعته لا يصدرُ عن الأنبياء، فهي محضُ فِريةٍ افتراها اليهود وتسرَّبت عبرَ الإسرائيليات إلى تراث المسلمين، ولذلك رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: "لا أوتى برجلٍ يزعم أنَّ داود تزوَّج امرأة أوريا، إلا جلدتُه حدَّين: حدًّا للنبوَّة، وحدًّا للإسلام"(6).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1 / صفر المظفر / 1442هـ
19 / سبتمبر / 2020م
1- المزار -المشهدي- ص496.
2- بحار الأنوار- ج98 / ص327.
3- سورة ص / 24-25.
4- سورة ص / 21-25.
5- الكتاب المقدَّس العهد القديم -صموئيل الثاني- الإصحاح ج11 / ص498.
6- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج8 / ص354.