دعاء الحسين (ع) على المعسكر الأموي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

نحن نؤمن بأنَّ الإمام الحسين (ع) هو الرحمة الواسعة، والإشكال هو أنَّه هل يُوجد تعارض بين الرحمة الواسعة للإمام (ع) وبين دعائه على القوم يوم عاشوراء، ودعائه على مثل عمر بن سعد وآخرين؟ أليس فيما يُروى من أنَّه قد دعا عليهم تعارضٌ لِما هو معلومٌ من أنَّ الحسين (ع) هو رحمةُ الله الواسعة؟

الجواب:

لا ريبَ أنَّ الإمام الحسين (ع) مظهرٌ من مظاهر رحمة الله الواسعة بل هو مِن أجلى مظاهر رحمة الله جلَّ وعلا، وكونُه (عليه السلام) كذلك لا يُنافي ما ورد من دعائه على المعسكر الأموي، وما ورد من دعائه على بعض أفراد المعسكر الأموي.

نماذج من دعاء النبيِّ (ص) على الطغاة من قومه:

وقبل بيان منشأ عدم المنافاة نذكر نماذج من دعاء النبيِّ الكريم (ص) على قومه أو بعضهم، ونماذج من دعاء الأنبياء على أقوامهم.

دعاؤه (ص) على الملأ من قريش:

النموذج الأول: دعاؤه على الملأ من قريش الذين تواطأوا على إلقاء فضلات جزورٍ على رأسه وكتفيه وهو ساجد بفناء الكعبة، فقد أوردت كتبُ الفريقين عن عبد الله ابن مسعود أنَّه قال: بينما رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يُصلِّي عند البيت وأبو جهل وأصحابٌ له جلوس، وقد نُحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيُّكم يقوم إلى سلى جزور فيضعه على كتفي محمَّدٍ إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم فأخذه فوضعه بين كتفيه فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته والنبي صلَّى الله عليه وسلم ما يرفع رأسه .. فلمَّا قضى صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثًا وإذا سأل سأل ثلاثًا ثم قال: "اللهمَّ عليك بقريش ثلاثًا فلمَّا سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ثم قال: اللهمَّ عليك بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأميَّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع ولم أحفظه. فوالذي بعث محمَّدًا بالحقِّ لقد رأيتُ الذين سمَّى صرعى يوم بدرٍ ثم سُحبوا إلى القَليب قَليب بدر"(1).

وفي المناقب قال: قال (ص): "اللهمَّ عليك الملأ من قريش اللهمَّ عليك أبا جهلٍ بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأميَّة بن خلف، فوالله الذي لا إله إلا هو ما سمَّى النبيُّ (ص) يومئذٍ أحدًا إلا وقد رأيتُه يوم بدر وقد أُخذ برجلِه تُجرُّ إلى القَليب مقتولًا إلا أميَّة فإنَّه كان متنفخًا في درعة فتزايل من جرِّه فأقرُّوه وألقوا عليه الحجر"(2).

دعاؤه (ص) على عتبة بن أبي لهب:

النموذج الثاني: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب الذي أوغل في الإيذاء لرسول الله (ص) وكان شديد العداوة والمناكفة لرسول الله (ص) ورُوي أنَّه بصقَ في وجهه، فدعا عليه بقوله (ص): "اللهمَّ سلِّط عليه كلبًا من كلابك" فخرج إلى الشام مع أصحابه فنزل منزلًا فطرقَهم الأسد فتخطَّى إليه من بين أصحابه فقتله(3)، قيل إنَّه ضمغه ضمغةً(4) فجعل يقول وهو بآخر رمَق: ألم أقل لكم إنَّ محمدًا أصدقُ الناس. ثم مات(5).

دعاؤه (ص) على قتلة شهداء بئر معونة:

النموذج الثالث: دعاؤه (ص) على قتلة شهداء بئر معونة وهم جمعٌ من الصحابة وكانوا من القرَّاء ومن خيار المسلمين بعثهم رسولُ الله (ص) في السنة الرابعة من الهجرة إلى أهل نجد ليعلِّموا الناس القرآن وأصول دينهم فغدرتْ بهم قبائل من بني سليم: عصيَّة ورعلًا وذكوان فقتلوهم عن آخرهم فحزن عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فظلَّ يقنتُ شهرًا في صلاة الصبح يدعو على هذه الأحياء رعل وذكوان وعصيَّة وبني لحيان(6).

اللهمَّ اشدُدْ وطأتك على مُضَر:

النموذج الرابع: ورد أنَّ قريشًا لما استعصمتْ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) دعا عليهم فقال: "اللهمَّ اشدُدْ وطأتك على مُضَر واجعلْها عليهم سنين كسنيِّ يوسُف، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز(7) وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفرٌ معه وناشدوه الله والرحم، وعاهدوه إنْ دعا لهم وكشفَ عنهم أنْ يؤمنوا فلمَّا كُشف عنهم رجعوا إلى شركهم"(8).

وروي أنَّه (ص) دعا على مضر بهذا الدعاء ولكنْ في غير هذا المورد المذكور.

هذه نماذجُ ممَّا دعا به النبيُّ الكريم (ص) على قومِه أو بعضهم وهو الذي وصفه القرآن بالرؤوف الرحيم في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(9) وهو ما يُنبِّه على أنَّ الرحمة -التي كان النبيُّ واجدًا لأكمل مراتبِها- لا تُنافي الدعاء على الطغاة المرَدة.

دعاء الأنبياء (ع) على أقوامهم:

النموذج الخامس: دعاء الأنبياء على أقوامهم كدعاء نبيِّ الله نوحٍ (ع) على قومِه بالهلاك بعد أنْ يئس من صلاحِهم وهدايتِهم، قال تعالى على لسانه: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا / إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا﴾(10).

ومن ذلك دعاء موسى وهارون (عليهما السلام) على فرعون وملئه، تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ / قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(11).

ومن ذلك دعاء نبيِّ الله هود أو صالح على قومه: ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ / قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ / فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(12) فدعاؤه بالنصر كان بمعنى دعاؤه عليهم بالهلاك بقرينة قوله تعالى بعد طلب النبيِّ للنصر: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ / فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾ وكذلك دعاء لوطٍ (ع) على قومه: ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾(13) إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾(14).

وروي أنَّ الجماعة من بني إسرائيل الذين مُسخوا خنازير كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾(15) رُوي أنَّ الذين مُسخوا خنازير كانوا قومًا من بني إسرائيل دعا عليهم عيسى بن مريم (عليه السلام) فمسخَهم الله خنازير(16)، ومعنى ذلك أنَّ الله تعالى مسخَهم على صورة خنازير عقوبةً لهم وعبرةً للناس ثم أهلكهم، لأنَّ من يُعذِّبُهم اللهُ تعالى بمسخِهم على صورة حيوان لا يبقون على قيد الحياة أكثر من ثلاثة أيَّام كما ورد عن الإمام الرضا (ع)(17).

الوجه في عدم المنافاة بين الرحمة وبين الدعاء على الطغاة والمردة:

وأمَّا الوجه في عدم المنافاة بين الدعاء على الطغاة والمرَدة من الكفار والعُصاة وبين الرحمة فهو أنَّ مثلَهم لا يستحقُّ الرحمة، بل إنَّ التعاطي معهم على أساس الرحمة يكون من وضع الشيء في غير موضعه وهو على خلاف الحكمة والتعقُّل، ولهذا خاطَب اللهُ تعالى نبيَّه (ص) بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(18) فأمَرَهُ بالغُلظة عليهم ثم توعَّدهم بالمصير البائس في جهنَّم، فلو كانت الغُلظة والعذاب منافيين للرحمة لكان الأولى بها ربَّ العالمين الذي وصف نفسه بالرحمن الرحيم وأنَّ رحمته وسعت كلَّ شيء كما قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾(19) فالمتَّقون هم المستحقون للرحمة دون العُصاة المتجاوزين عن إصرارٍ وتعنُّتٍ لحدود الله جلَّ وعلا.

هذا وقد مدح اللهُ تعالى نبيَّه (ص) والذين آمنوا معه بقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾(20).

وقال تعالى مشيرًا إلى منشأ عدم استحقاقِهم للرحمة: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(21) فالرحمةُ لا تزيدُ أمثال هؤلاء إلا عتوًّا وتماديًا واستكبارًا على الحقِّ والخير والصلاح. ولذلك فالتعاطي مع هؤلاء بالرحمة والتجاوز يكون نقمةً على سائر الناس لأنَّهم سوف يتمادون في غيِّهم وبغيهم وظلمِهم للناس، تمامًا كما هو الشأن في العفو والتجاوز عن المجرمين فإنَّه سيُغريهم ويُغري غيرهم على إشاعة الفساد والإجرام بين الناس، ولذلك قال الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾(22) وقال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾(23) أي ليكون التنكيل والشدَّة رادعًا وعبرةً، فيأمَنُ الناس على أنفسِهم وأموالِهم وأعراضهم، فالشدَّة والقسوة وإنْ كانت منافية للرحمة على هؤلاء ولكنَّها السبيلُ لأمْنِ الناس واستقرارِهم، وهي عين الرحمة للمستحقِّين لها وهم عامَّة الناس.

وهذا هو منشأ الأمر بجهاد أئمة الكفر وقتالِهم، قال تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ / أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(24) فقتالُهم هو السبيل إلى كفِّهم وردعِهم وإجبارهم على الانتهاء عن بغيهم وظلمهم للعباد.

كذلك هو الشأن في الدعاء عليهم حين لا يقوى المؤمنُ على مقارعتهم بالقوَّة، لذلك دعا نوح ربَّه بقوله: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ / فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾(25) وأفاد (ع) أنَّ منشأ دعائه عليهم هو أنَّ بقاءهم يكون سببًا في ضلال وضياع العباد: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾(26) فالرحمة بسائر العباد تقتضي إيقاع النقمة على هؤلاء.

الدعاء على الطغاة والبغاة بعد اليأس منهم:

ثم إنَّ الملاحظ من سيرة الأنبياء والأوصياء كسيِّد الشهداء (ع) أنَّهم لا يدعون على الطغاة والبُغاة والمفسدين إلا بعد إقامة الحجَّة عليهم ووعظهم ونصحهم بمختلف الوسائل فإذا يئسوا من صلاحهم وهدايتهم حينئذٍ يدعون عليهم كما قال تعالى يحكي من سيرة نوحٍ مع قومه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا / فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا / وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا / ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا / ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾(27) فحين يئس من استجابتهم ووجد منهم الإصرار على العناد بل والسعي الجاد للصدِّ والتضليل والحيلولة دون استجابة المستضعفين لرسالة الأنبياء حينئذٍ بثَّ شكواه إلى ربِّه: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا / وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا / وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ .. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ..﴾(28) لذلك استحقُّوا لأنْ ينبريَ (ع) للدعاء عليهم بالهلاك فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾(29).

كذلك فعل سيِّدُ الشهداء(ع) فقد أعذر في الدعاء والنصيحة لهم واستفرغ في ذلك وسعه، فقام فيهم خطيبًا المرَّة بعد المرَّة وعلى أكثر من هيئة، فتارة ينشرُ المصحفَ على رأسه ويلبس عمامة رسول الله (ص) ويتقلَّدُ سيفه وأخرى يخطبُهم فارسًا ويذكِّرُهم بعهودهم وكتبهم، ويتلو عليهم آياتٍ من كتاب الله ويُذكِّرهم بكلام رسول الله (ص) ويستشهدُ عليه بالأحياء من صحابته ثم لم يدع لهم عذرًا إلا أبطله ثم خوَّفهم عاقبة ما هم عليه بعد أنْ أبدى تعجُّبَه من خذلانهم له وانتصارهم لأمرائهم المارقين عن دين الله والسائرين فيهم بالبغي والعدوان والاستئثار عليهم بالفيء وقتلهم لصُلحائهم وصلبهم لهم فوق جذوع النخل وسَمْل عيونهم هذا مع تعطيلهم لحدود الله وتجاوزهم لكتاب الله وسنَّة رسوله (ص)، وحين لم يجد منهم استجابةً أذِن لشيوخ أصحابه بوعظِهم، فقام فيهم بريرُ بن خضير وتلاه زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ولكنَّ الشيطان قد استحوذَ عليهم فأنساهم ذكر الله تعالى، فلم يزدهم وعظُ الحسين (ع) وأصحابِه إلا استكبارًا وعنادا(30)، ورغم ذلك لم يبدأهم بحرب ولم يدعُ عليهم إلى أنْ تواثبوا عليه وعلى أصحابه وأهل بيته وسفكوا الدم الحرام وقتلوا أكثر أصحابه حينئذٍ قبض - روحي فداه- على شيبته وقال: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ تعالى عَلَى الْيَهُودِ إِذْ جَعَلُوا لَهُ وَلَدًا، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ تَعالى عَلَى النَّصارى إِذْ جَعَلُوهُ ثالِثَ ثَلاثَة .. وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلى قَوْم اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلى قَتْلِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ، أما وَاللهِ! لا أُجيبُهُمْ إلى شَيء مِمّا يُريدُونَ حَتّى أَلْقىَ اللهَ تَعالى وَأَنَا مُخَضَّبٌ بِدَمي"(31).

نماذج من دعاء الحسين على المعسكر الأموي:

ثم إنَّه وبعد أنْ أوغلوا في دماء أصحابه وأهل بيته دعا عليهم بمثل قوله: اللّهُمَّ قَدْ تَرى ما أَنَا فيهِ مِنْ عِبادِكَ هؤُلاءِ الْعُصاةِ الْعُتاةِ، أللّهُمَّ فأَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلا تَذَرْ عَلى وَجْهِ الأْرْضِ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلا تَغْفِرْ لَهُمْ أَبَدًا "(32).

وبمثل قوله (ع): "أللّهُمَّ إِنّي أَشْكُو إِلَيكَ ما يُصْنَعُ بِابْنِ بِنْتِ نَبِيِّكَ! اَللّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا"(33).

وقوله (ع): "اللّهُمَّ فَامْنَعْهُمْ بَرَكاتِ الأَرْضِ، وإنْ مَتعْتَهُمْ فَفَرِّقْهُمْ تَفْريقًا، وَمَزِّقْهُمْ تَمْزيقًا، وَاجْعَلْهُمْ طَرائِقَ قِدَدًا، وَلا تُرْضِ الْوُلاةَ عَنْهُمْ أَبَدًا، فَإنَّهُمْ دَعَوْنا لِيَنْصُرُونا، ثُمَّ عَدَوا عَلَيْنا يُقاتِلوُنا وَيَقْتُلُونا"(34).

ودعا على عمر بن سعد -كما في مقتل الحسين للخوارزمي- "قَطَعَ اللهُ رَحِمَكَ! وَلا بارَكَ لَكَ في أَمْرِكَ، وَسَلَّطَ عَلَيْكَ مَنْ يَذْبَحُكَ عَلى فِراشِكَ كَما قَطَعْتَ رَحِمي، وَلَمْ تَحْفَظْ قَرابَتي مِنْ رَسوُلِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله)" (35).

ودعا على رجلٍ من كندة يقال له: مالك بن نسر كان قد ضربه بالسيف على رأسه فقطع البرنس الذي كان على رأسه وامتلأ دمًا، فقال له الحسين (عليه السلام): لا أَكَلْتَ بِيَمينِكَ وَلا شَرِبْتَ وحَشَركَ اللهُ مَعَ الظّالِمينَ. وذكر أصحاب هذا الرجل الشقي أنّه يبست يداه، ولم يزل فقيرًا بأسوأ حال إلى أن مات"(36).

ونظر رجلٌ منهم إلى الحسين (عليه السلام) -كما في المناقب- وقد أهوى إلى فيه بماء، وهو يشرب فرماه بسهم، فقال الحسين (عليه السلام): "لا أَرْواكَ اللهُ مِنَ الْماءِ في دُنْياكَ وَلا آخِرَتِكَ". فكان يستقبل الراوية فيشربها إلى آخرها ولا يروى(37).

ولعلَّ واحدًا من مناشئ الدعاء عليهم هو تعريف الناس والأجيال بمقامه السامي وكرامته على الله تعالى وأنَّه مستجاب الدعوة فيكون ذلك مصدرًا لهدايتهم وحجَّة على المعاندين منهم، فما دعا دعوةً على أحدٍ في كربلاء إلا وقد أُجيبتْ حرفًا بحرف وكأنَّ قضاءَ الله وقدره قد جرى على لسانه.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / صفر/ 1442ه

24 / نوفمبر / 2020م


1- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج1 / ص217، ذخائر العقبى -أحمد بن عبد الله الطبري- ص47، الأمالي -الشريف المرتضى- ج2 / ص19، الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص51، صحيح البخاري -البخاري- ج1 / ص65.

2- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج1 / ص 55. السنن الكبرى -النسائي - ج5 / ص203.

3- السنن الكبرى -البيهقي- ج5 / ص211، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب - ج1 / ص71، الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص57، دلائل النبوة -الأصبهاني- ج2 / ص613.

4- ضمغه بمعنى عضَّه بملء فمه، وضغم به قعد عليه وأخذ برأسه فضغمه أي فعضَّه.

5- أنساب الأشراف -البلاذري- ج4 / ص304، الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص117، التذكرة الحمدونية -ابن حمدون - ج9 / ص160، كفاية الطالب -السيوطي- ج1 / ص148.

6- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج2 / ص386، صحيح البخاري -ج3 / ص204، صحيح مسلم -النيسابوري- ج2 / ص136، السنن الكبرى -البيهقي- ج2 / ص199، المغازي -الواقدي- ج1 / ص349.

7- العلهز: طعام كانوا يتّخذونه من الدم ووبر البعير ثم يشوونه بالنار ويأكلونه وذلك في سنين المجاعة. وقيل: كانوا يخلطون فيه القردان، ويقال: القراد الضخم العلهز.

8- جوامع الجامع -الطبرسي- ج3 / ص322، تخريج الأحاديث والآثار -الزيلعي- ج3 / ص267، قرب الأسناد -الحميري- ص 324، شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج3 / ص550، الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص59، صحيح البخاري -البخاري- ج1 / ص195، تأويل مختلف الحديث -ابن قتيبة الدينوري- ص233.

9- سورة التوبة / 128.

10- سورة نوح / 26-27.

11- سورة يونس / 88-89.

12- سورة المؤمنون / 39-41.

13- سورة العنكبوت / 30.

14- سورة العنكبوت / 34.

15- سورة المائدة / 60.

16- مسائل علي بن جعفر -علي بن جعفر الصادق- ص336، الخصال -الصدوق- ص493.

17- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص245. قال: (ع): وإنَّ المسوخ لم يبق أكثر من ثلاثة أيام حتى ماتت وما تناسل منها شيء".

18- سورة التحريم / 9.

19- سورة الأعراف / 156.

20- سورة الفتح / 29.

21- سورة المؤمنون / 75.

22- سورة النور / 2.

23- سورة المائدة / 38.

24- سورة التوبة / 12-13.

25- سورة القمر / 10-11.

26- سورة نوح / 27.

27- سورة نوح / 5-9.

28- سورة نوح / 21-24.

29- سورة نوح / 26.

30- الأمالي -الصدوق- ص222، الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص24، روضة الواعظين -النيسابوري- ص 186، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص40، تحف العقول -ابن شعبة- ص 240، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص 53، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص323- 325.

31- الفتوح - ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص101. مع اختلاف يسير مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج2 / ص12، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص 50، الأمالي -الصدوق- ص223.

32- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج2 / ص38. مع اختلاف يسير الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص117.

33- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص76. مع اختلاف يسير أنساب الأشراف -البلاذري- ج2 / ص201، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص203.

34- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- الفتوح - ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص114.

35- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج2 / ص35، مع اختلاف يسير الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص114.

36- مقتل الحسين (ع) -الخوارزمي- ج2 / ص40، مع اختلاف يسير الإرشاد -المفيد- ج2 / ص110، روضة الواعظين ج1 / ص427، شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج3/ ص163، الدر النظيم -ابن حاتم الشامي المشغري- ص557.

37- مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص214. وفي مجمع الزوائد للهيتمي قال: وعن الكلبي قال رمي رجل الحسين وهو يشرب فشكَّ شدقيه فقال: لا أرواك الله فشرب حتى تفطر .. رواه الطبراني ورجاله إلى قائله ثقات ج9 / ص193.