﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الحيِّ بغيرِ شبيهٍ، ولا ضدَّ له، ولا ندَّ له، الحمدُ لله لا تفنى خزائنُه ولا تبيدُ معالمُه، الحمدُ للهِ الذي لا الهَ معَه، سبحانَهمَن هو قيومٌ لا ينامُ، ومَلِكٌ لا يُضامُ، وعزيزٌ لا يُرامُ، وبصيرٌ لا يرتابُ، وسميعٌ لا يتكلَّفُ ومُحتَجِبٌ لا يُرى، وصمَدٌ لا يَطعمُ، وحيٌّ لا يموتُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداَ عَبْدُه ورسولُه (ص).
أُوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى الله، ألا فأفيضوا في ذكرِ اللهِ جلُّ ذكرُه، فإنَّه أحسنُ الذكرِ، وارغبوا فيما وُعدَ المتقونَ، فإنَّ وعْدَ اللهِ أصدقُ الوعدِ، وكلُّ ما وعدَ فهو آتٍ كما وَعَدَ، فاقتدوا بهديِّ رسولِ اللهِ (ص) فإنَّه أفضلُ الهديِّ، واستنُّوا بسنتِه. فإنَّها أشرفُ السُننِ. وتعلَّموا كتابَ اللهِ تبارك وتعالى، فإنَّه أحسنُ الحديثِ وأبلغُ الموعظةِ.
قال اللهُ تعالى في محكم كتابه المجيدِ مخاطبًا نبيَّه الكريمَ (ص): ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ / لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(1).
ما هو المرادُ من البخوعِ في الآيةِ المباركةِ؟
يذكرُ اللغويونَ أنَّ المرادَ من البخوعِ هو إهلاك النفسِ غمًّا وحزنًا وحسرةً، فالآية المباركة تُعبِّرُ عن الإشفاقِ على النبيِّ (ص) حيث إنَّه ولفرطِ حزنِه وحسرتِه على قومِه نظرًا لعنادهم، وجحودهم، وعدم إصغائهم إلى دعواه وبراهينه، لشدَّةِ حزنِه يبتغي إهلاكَ نفسه، فكأنَّه لا يعبأ بنفسِه ولا يهمُّه شأنُها، فهو يَكاد يُهلكُها حزنًا على رجالٍ كلَّما دعاهم إلى الهدى أعرضوا، وكلَّما بذل من وسعٍ في سبيل استنقاذِهم من الضلالةِ تمادَوا في غيِّهم وقابلوا حرصه على هدايتهم بالعناد والجحود والاستكبار، فهو لذلك شديدُ الحزن عليهم، فالآية كانت بصددِ التسلية والتعبير عن الإشفاق على نفس رسول الله (ص).
والملفتُ للنظر أنَّ عددًا غيرَ قليلٍ من الآياتِ تصدَّت لذاتِ هذا المضمونِ، وهو ما يكشفُ عن أنَّ الرسول (ص) كان دائمَ الحزنِ والأسفِ على قومِه، يقولُ اللهُ تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾(2) أي لعلَّك مُهلكٌ نفسَك أسفًا وحزنًاعليهم لعدم إيمانهم وإذعانهم لحديثِك الذي تُحدِّثُهم به، ويقول تعالى في مورد آخر: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾(3)، ويقول الله تعالى: ﴿طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾(4)، نحن بعثناك رسولًا ومبلغًا ومنذرًا، وما بعثناك لتُشقي نفسَك وتُهلكها غمًّا لمجرَّدِ أنَّهم جحدوا دعوتَك وتنكَّروا للهدى الذي أُرسلتَ به.
وهنا يحسنُ بنا الوقوفُ سريعًا على بعضما يمكنُ استلهامُه من مفادِ هذه الآيات، ونذكرُ لذلك أمرين:
الأمر الأول: إنَّ الآيةَ التي صدَّرنا بها الحديثَ وكذلك الآياتِ الأخرى التي تلوناها تُعبِّرُ عن حرصٍ شديدٍ انطوى عليه قلبُ رسولِ اللهِ (ص) فكان حريصًا على أنْ يهتديَ الناسُ بهديهِ، ويستولي الهمُّ على مجامعِ قلبِه حين يجدُ منهم اعراضًا وصدودًا عن الحقِّ، فكأنَّ هذه الآياتِ التي توصِّفُ لنا ما كان عليه رسولُ الله (ص) من حرصٍ على الدعوةِ تُوحي للدعاة إلى الله تعالى على اختلاف مراتبِهم أنّ الدعوةَ والهدايةَ للناس هي ما ينبغي أنْ يشغلَ اهتمامَ الداعية، والداعيةُ إلى الله تعالى قد يكون رسولًا، وقد يكون وصيًا وإمامًا، وقد يكون شأنُه التبليغُ والإرشاد، ولكن فئات الدعاة إلى الله لا تنحصرُ بهؤلاء، فكلٌ منَّا داعيةٌ إلى الله -عزَّ وجل-، فالأبُ من الدعاةِ إلى الله في أسرتِه ومع أطفالِه، والمدرِّسُ مع تلامذته والصديقُ والكاتبُ والشاعرُ، والمسئولُ في مؤسستِه التي يعمل فيها، كلُّ هؤلاء ومثلهم ينبغي أن يعتبروا أنفسَهم منالدعاةِ إلى الله كلٌّ بحسب موقعِه وطاقتِه، ولهذا يتعيَّنُ علينا تلقينُ أنفسِنا الحرصَ على الدعوةِ والهدايةِ لمَن حولنا، وأن يكون ذلك هو أبرزُ ما يشغلُ اهتمامَنا.
ثم إنَّ مقتضى الحرصِ على الدعوةِ إلى الله تعالى هو أنْ يتوسَّلَ الداعية بكلِّ وسيلةٍ متاحةٍ ومباحةٍ وناجعةٍ للوصولِ إلى قلوبِ الناس، فحينما لا تُجدي وسيلةٌ فينبغي أنْ لا ينتابُه اليأسُ بل ينصرفُ لوسيلةٍ أخرى، وحينئذٍ فإنْ كانت مجديةً وإلا بحثَ عن ثالثة وهكذا، شأنُه في ذلك شأنُ الأب فلأنَّه شديد الحرصِ على مصلحةِ ولده لذلك فهوحين يجد ولدَه يأبى أنَ يفعلَ ما يُصلحه، يشعر بالحزنٌ، وذلك هو ما يدفعُه للتوسل بوسائل أخرى لإصلاح شأنه، فالولدُ رغم انَّه قد لا يشعرُ بحُزنِ أبيه، ولو علم بحزنه فهو قد لا يكترث ورغم ذلك يظلُّ الأبُ حريصًا على مصلحة ولدِه، فهو يتوسَّلُ بكلِّ وسيلةٍ لإصلاحِ شأنِه، هكذا ينبغي أنْ يكونَ الدعاةُ إلى اللهِ تعالى يتوسَّلون بشتَّى الوسائلِ الناجعةِ من أجل إيصالِ النورِ والهدى إلى قلوبِ الناس، ولا ينتابهم اليأسُ ولا يساورُهم شعورٌ بالإحباط.
وقد ضربَ القرآنُ لنا مثالًا رائعًا بنبيِّ اللهِ نوحٍ (ع) فقد لبِثَ هذا النبيُّ الكريم في قومِه ليس عقودًا من الزمنِ بل لبِثَ فيهم ما يزيدُ على تسعةِ قرونٍ، فما وهِنَ رغم صدودِهم واعراضِهم، وما ضعُفَ ولم يساورْه يأسٌ ولا انتابه احباط، فإذا هامَ به الوَجدُ والحزنُ والأسى على لإعراضِ قومِهلجأ إلى مناجاةِ ربِّه، يشكو إليه صدودَهم وما ينالُه منهم: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا / فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا / وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا / ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا / ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا / فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا / يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارا / وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا / مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾(5)، فهو يشكو بثَّه وحزنَه إلى الله، لكنَّه يصبر على أذى قومِه وإعراضِهم، هكذا كان الأنبياء، الحرص المنتج للتوسلِ بكلِّ وسيلةٍ من أجل الوصول إلى الغاية، مع الأطفال إن كنت أبًا أو أمًا، ومع الأولاد إنْ كنت معلِّمًا، و مع الأصدقاء، ومع كل أحدٍ، فالمؤمنُ في كلِّ موقعٍ يحملُ بين جوانحِههمَّ الدعوة إلى اللهِ تعالى.
إننا نلاحظ في هذا الزمن العصيب، الدعاة إلى الضلال يحملون همَّ الترويج لضلالاتهم فهم حريصون على أن يُؤصلوا لقيمهم وأفكارهم ومبادئهم، والسلوكيات التي يطمحون أن يسلكها الناس، ولا يدَّخرون وسيلةً في هذا السبيل، فإذا أعيتهم الوسائلُ المتاحة، ابتكروا وسائلَ أخرى من أجلِ أنْ يؤصِّلوا للقيم التي يؤمنون بها ونحن الذين نحملُ الهدى والنورَ الذي جاء به الرسولُ الكريم (ص) أجدرُ بهذا الحرصِ منهم، يقولُ أميرُ المؤمنين (ع) فيما رُويَ عنه: "فلا يكوننَّ أهلُ الضلالِ إلى باطلِهم أشدَّ اجتماعًا على باطلِهم وضلالتِهم منكم على حقِّكم" لماذا لا يحملُ أحدُنا إلا همَّ نفسِه وشأنِه الخاص؟! حتى أصبحَ همُّ العملِ التطوعي والعملِ الدعوي والعملِ الرسالي لا يحملُه إلا رجالُ معدودون، ونحن نطمحُ أن يكونَ لنا جيلٌ يحملُ القيمَ التي نحملُها، ويسلكُ الطريقَ الذي نسلكُه، كيف ونحن سادرونَ وغارقونَ في شئونِنا الخاصةِ لا نكترثُ بما حولَنا ولا يسترعي شأنُ الدينِ شيئًا من اهتماماتِنا.
أكتفي بهذا المقدار.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(6).
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
10 من شوال 1437هـ - الموافق 15 يوليو 2016م
جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز
1- سورة الشعراء / 3.
2- سورة الكهف / 6.
3- سورة فاطر / 8.
4- سورة طه / 1-2.
5- سورة نوح / 5-13.
6- سورة النصر / 1-3.