قاعدة ارتكاب أخفِّ الضررين
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل تجري عندنا قاعدة ارتكاب أخفِّ الضررين كما هي عند أهل الجماعة؟
الجواب:
المراد إجمالًا من القاعدة -بناءً على جريانها- هو تعيُّن اختيار أخفِّ الضررين إذا دار الأمر بين اختيار أحدِهما أي إذا ألجئت الضرورة إلى اختيار أحدهما.
والظاهر أنَّه لم يقل أحدٌ منَّا بجريانها مطلقًا، نعم هي تجري في بعض الفروض دون بعض، ولكي تتَّضح موارد جريان هذه القاعدة نستعرض الفروض المحتملة لمجرى القاعدة. فتارة يُفترض أنَّ الضررين متوجِّهان لشخصِ المكلَّف، وتارةً يكون الضرران متَّجهين لشخصين غير المكلَّف، وتارةً يكون الضرر متجهًا إما للمكلَّف أو لغيره.
توجُّه الضررين لشخصٍ المكلَّف:
أمَّا الفرض الأول: وهو ما لو كان الضرران متوجِّهين لشخصِ المكلَّف وكان عليه ارتكاب أحدهما فلهذا الفرض صورٌ ثلاث:
الصورة الأولى: أنْ يكون كلٌّ من الفعلين الضرريين مباحاً في نفسه -بناءً على جواز الإضرار بالنفس في بعض مراتبه- ومثاله ما لو علقت دابته في سياج منزله وكان استنقاذها يتوقف على اتلاف السياج فهو هنا بين ضررين، فإمَّا أنْ يُتلف السياج ويستنقذ دابَّته أو يقتل دابَّته فيحمي سياجه من التلف، فلو فُرض أنَّ في إتلاف السياج ضررًا أكبر من الضرر المترتِّب على قتل الدابَّة، فمقتضى قاعدة تعيُّن اختيار أخفِّ الضررين هو لزوم اختيار قتل الدابَّة على إتلاف السياج وهكذا لو كان العكس فالعكس.
إلا أنَّ الصحيح هو أنَّ القاعدة لا تجري في هذه الصورة بمعنى أنَّه لا يجب عليه اختيار أخفّ الضررين، وذلك لأنَّ الفرض هو إباحة ارتكاب المكلَّف لكلا الفعلين ابتداءً حتى في فرض عدم الدوران فيجوز للمكلَّف ابتداءً أن يُتلف سياج بيته وأنْ يقتل دابَّته، ولذلك لو اختار ما هو أكثر ضررًا فإنَّه لا يكون قد ارتكب حرامًا، وهذا هو معنى عدم جريان القاعدة في هذه الصورة. نعم يحسن منه اختيار أخف الضررين إلا أنَّه لا يلزم.
الصور الثانية: أن يكون أحد الفعلين الضرريين محرَّمًا على المكلَّف ويكون الآخر مباحًا كما لو دار الأمر بين إتلاف النفس أو الجناية عليها وبين الإتلاف لشيءٍ من أمواله وهنا لا إشكال في تعيُّن ارتكاب الإتلاف للمال لا لأنَّه أخفُّ الضررين بل لأنَّ الخيار الآخر - وهو إتلاف النفس أو الجناية عليها- محرَّم ولأنَّ إتلاف المال بحسب الفرض مباح.
الصورة الثالثة: أنْ يكون كلٌّ من الفعلين الضرريين محرَّمًا ودار الأمر بين ارتكاب أحدهما، وهنا تارةً تكون الحرمتان متساويتين في الأهميَّة، وتارةً تكون إحدى الحرمتين أشدَّ من الأخرى.
فلو كانت الحرمتان متساويتين في الأهميَّة شرعًا أي ليست إحداهما أشدَّ من الأخرى بنظر الشارع فالمكلَّف في هذا الفرض مخيرٌ بينهما، وذلك لأنَّ هذه الفرضيَّة من صغريات كبرى باب التزاحم، فلأنَّ المكلَّف عاجزٌ عن الترك لكلا الحرمتين معًا بحسب الفرض، ولأنَّ ترك إحدى الحرمتين بعينها دون الأخرى ترجيحٌ بلا مرجِّح بعد افتراض التساوي في الأهميَّة شرعًا لذلك فالمتعيَّن هو التخيير.
هذا لو كان الضرران- المترتِّبان عن الحرمتين المتساويتين في الأهميَّة- متساويان أمَّا لو كانت إحدى الحرمتين أخفَّ ضررًا من الأخرى، فإنَّ قاعدة تعيُّن ارتكاب أخفِّ الضررين تقتضي لزوم اختيار الحرمة الأخف ضررًا وإنْ كانت مساوية للحرمة الأخرى في الأهميَّة، فالقاعدة لو كانت تجري لكان هذا الفرض من موارد جريانها، إلا أنَّه لا أحد من فقهائنا -ظاهرًا- يبني على لزوم اختيار أخف الضررين أي لزوم اختيار الحرمة الأخف ضررًا، والوجه في ذلك أنَّ الضرر وشدَّته ليس هو الملاك الذي يدور الحكم مداره وجودًا وعدمًا ولذلك فالحرمة ثابتة للفعلين بقطع النظر عن اقتضائهما للضرر، ولذلك لو فُرض أنَّ الفعليين غير مقتضيين للضرر أصلًا فإنَّ الحرمة تظلُّ ثابتةً لهما، وهو ما يكشف عن أنَّ الضرر لم يكن دخيلًا في جعل الحرمة لهما، فالمكلَّف في فرض تساوي الحرمتين في الأهميَّة مخيَّرٌ في ظرف التزاحم بين ارتكاب أحدهما بقطع النظر عن كون أحدهما أشد ضررًا أو كانا متساويين من حيث مستوى الضرر، وذلك لأنَّ الضرر لم يكن دخيلًا في جعل الحرمة لهما، نعم لو فُرض أنَّ للأشدِّية من حيث الضرر دخلًا في اتِّصاف الأشد ضررًا بالأهمية شرعًا أو احتُمل ذلك ففي مثل هذا الفرض يتعيَّن ارتكاب الأخف ضررًا لكنَّه ليس لكونه الأخف ضررًا بل لأهمية الأشد ضررًا من حيث الملاك الشرعي وحينئذٍ سيكون الفرض أجنبيًا عن الصورة المفروضة وهو ما لو تساوت الحرمتان في الأهمية شرعًا.
وأمَّا الفرض الثاني من هذه الصورة وهي ما لو كانت إحدى الحرمتين أهم ملاكًا من الأخرى ففي هذا الفرض لا إشكال في لزوم ارتكاب الأقل أهميَّة ولزوم الترك للحرمة الأهم ملاكًا، وذلك لأنَّ الفرض من صغريات باب التزاحم وعجز المكلَّف عن ترك كلا الحرمتين، فهنا يدور الأمر بين التخيير أو الحكم بلزوم ترك الأقل أو الحكم بلزوم ترك الأهم ملاكًا، أما الحكم بلزوم الترك للأقل ملاكًا فهو من ترجيح المرجوح، ولذلك يتعيَّن الحكم بلزوم الترك للأهم ملاكًا، وذلك لأنَّ الحكم بالتخيير في الفرض السابق نشأ عن عدم وجود مرجِّح شرعي والمقام ليس كذلك إذ أنَّ المفترض هو أنَّ ترك إحدى الحرمتين بعينها أهم ملاكًا لذلك يتعيَّن تركها وارتكاب الأخف ملاكًا سواءً كان الأخفُّ ملاكًا أقلَّ ضررًا أو كان أشدَّ ضررًا، فالمناط في التقديم هو الأهميَّة من حيث الملاك الشرعي. وبذلك يتبيَّن عدم جريان قاعدة لزوم ارتكاب أخف الضررين.
نعم لو كانت الأهميَّة في الملاك ناشئة عن الأشديَّة في الضرر أو احتمل ذلك فحينئذٍ يقدَّم الأشدُّ ضررًا بمعنى أنَّه يلزم ارتكاب الأخف ضررًا لكنَّ ذلك ليس ناشئًا عن كونه أخفَّ ضررًا بل هو ناشئ عن كون الأقل أهميَّة من حيث الملاك الشرعي.
والخلاصة أنَّ لزوم الترك للفعل الضرري الأشد ضررًا ولزوم ارتكاب الأخف ضررًا ليس لقاعدة لزوم ارتكاب أخف الضررين بل لافتراض أنَّ الأخفَّ ضررًا أقلُّ أهميَّةً من حيث الملاك الشرعي.
توجُّه الضررين لشخصين غير المكلَّف:
وأمَّا الفرض الثاني: وهو ما لو كان الضرران متَّجهين لشخصين غير المكلَّف، ومثاله ما لو أصابت المكلَّف مخمصة وليس له طعام يتبلُّغ به ووجد طعامًا لزيد وآخر لبكر وكان أحدهما كافيًا لرفع المخمصةِ عنه، وهنا تارة يُفترض أنَّ الضرر الذي سيعود على زيد من تناول طعامه بغير رضاه مساويًا للضرر الذي سيعود على بكرٍ من تناول طعامه، وتارة يُفترض أنَّ الضرر الذي سيعود من تناول طعام أحدهما أشدُّ من الضرر الذي سيعود على الآخر من تناول طعامه.
أمَّا الفرض الأول فهو خارج عن مجرى قاعدة تعيُّن ارتكاب أخفِّ الضررين وذلك لافتراض تساوي الضررين، ولهذا يكون المكلَّف في هذا الفرض مخيَّراً بينهما إذ أنَّه عاجز بحسب الفرض عن ترك التناول للطعامين معًا والبناء على تعيُّن اختيار الطعام الأول دون الثاني أو العكس ترجيحٌ بلا مرجِّح لذلك فالحكم في هذا الفرض هو التخيير.
وأمَّا الفرض الثاني وهو ما لو كان الضررُ العائد على أحدهما من تناول طعامه أشدَّ من الضرر العائد على الآخر كما لو فُرض أنَّه ليس للأول سوى ذلك الطعام وكان يحتاجه وفُرض أنَّ للثاني طعامًا آخر أو كان مستغنيًا عنه أو فُرض أنَّ طعام الأول كان باهظ الثمن وكان طعامُ الآخر زهيدَ الثمن فالضررُ من تناول طعام الأول أشدُّ من الضرر الذي ينشأ عن تناول طعام الآخر.
وهنا يكون المتعيَّن هو لزوم اختيار أخفِّ الضررين إذ أنَّ تركهما معًا غير ممكنٍ بحسب الفرض، والحكم بلزوم اختيار الأشد ضررًا ترجيحٌ للمرجوح، والحكم بالتخيير بلا مبرِّر بعد افتراض عدم التساوي فالمتعيَّن هو لزوم اختيار الأخف ضررًا، فقاعدة ارتكاب أخف الضررين جارية في هذا الفرض ومدرك ذلك هو اقتضاء مرجحات باب التزاحم للقاعدة في هذا الفرض.
والفرق بين المقام وبين الصورة الثالثة من الفرض الأول هو أنَّ ملاك الحرمة للفعلين في الصورة الثالثة ليس هو الضرر وهذا بخلاف المقام فإنَّ ملاك الحرمة للفعلين أو قل إنَّ موضوع الحرمة لتناول الطعامين هو الإضرار بالغير المستفاد من قاعدة نفي الضرر، وحيث دار الأمر -بحسب الفرض- بين الإضرار الأشد بالغير والإضرار الأخف فيكفي احتمال اهتمام الشارع بنفي الإضرار الأشد لترجيح تركه وتعيُّن اختيار الإضرار الأخف.
دوران الضرر بين المكلَّف أو غيره:
وأمَّا الفرض الثالث: وهو ما لو كان الضرر دائرًا بين المكلَّف أو غيره، ومثاله المعروف هو ما لو أدخلت دابَّة لمكلَّف رأسها في قدر رجلٍ آخر ودار الأمر بين إنقاذ الدابَّة وبين حفظ القِدْر من الكسر بأن لم يكن من الممكن إنقاذ الدابَّة إلا بكسر القدر، ولم يكن من الممكن حفظ القدر من الكسر إلا بذبح الدابَّة فأيُّ الخيارين يجب تقديمه؟
فهنا صورٌ ثلاث للفرضيَّة:
الصورة الأولى: أنْ يفترض أنَّ إدخال الدابَّة راسها في القدر مسبَّبٌ عن أحد المالكين كما لو كان إدخال الدابة رأسها في قدر الغير مسبَّب عن مالك الدابَّة، ففي هذا الفرض يتعيَّن على مالك الدابَّة تخليص القدر وحفظه حتى وإنْ أدَّى ذلك إلى ذبح دابَّته، ولا فرق في ذلك بين كون الضرر العائد عليه من ذبح دابَّته أقلَّ من الضرر العائد على مالك القدر لو تمَّ كسره كما لو كان القدر أغلى ثمنًا من الدابَّة أو كان الضرر العائد على مالك الدابَّة أشد كما لو كانت الدابة أغلى ثمناً من القدر، فعلى أيِّ تقدير يكون هو المكلَّف بتحمُّل الضرر.
ومدرك ذلك -كما أفاد السيد الخوئي-(1) هو قاعدة على اليد ما أخذت حتى تؤدِّي، فهو مكلَّف بمقتضى هذه القاعدة بأداء القِدْر لمالكه كما هو، وليس له كسره وضمان قيمته لحرمة إتلاف مال الغير، ولأنَّه لا تصل النوبة لضمان المثل أو القيمة مع القدرة على إرجاع العين كما هي. وبذلك يتَّضح أنَّ قاعدة ارتكاب أخفِّ الضررين لا تجري في هذه الصورة.
الصورة الثانية: أنْ يُفترض أنَّ إدخال الدابَّة رأسها في القِدْر مسبَّبٌ عن ثالث أي عن غير مالك الدابَّة ومالك القدر، وفي مثل هذا الفرض يجب على المتسبِّب اختيار إمَّا ذبح الدابَّة وضمان قيمتها لمالكها وتسليم القدر لمالكه أو كسر القدر وضمان مثله أو قيمته لمالكه وتسليم الدابَّة لمالكها كما هي، والوجه في ذلك -كما أفاد السيد الخوئي-(2) هو أنَّ المكلَّف المتسبِّب مخاطب بتسليم عين المالين لمالكيهما إلا أنَّ المفترض هو تعذُر إيصال كلا العينين للمالكين كما هما ولكنَّه حيث يتمكَّن من إيصال أحدهما لمالكه لهذا يتعيَّن عليه ذلك ويكون مخيرًا لعجزه عن إيصالهما معًا فهو إما أنْ يُتلف القدر ويضمن قيمته أو يذبح الدابَّة ويضمن قيمتها.
ولا يقال في المقام بتعيُّن اختيار أخفِّ الضررين لأنَّه ملزمٌ بتحمُّل كلا الضررين فيلزمه إيصال كلا المالين لمالكه غايته أنَّه ملزم بإيصال أحد المالين بعينه والآخر بمثله أو قيمته. نعم يمكن أن يقال أنَّ من حقِّ كلٍّ من المالكين المطالبة قبل اتلاف أحدهما بعين ماله وحيث يتعذَّر عليه الاستجابة لهما معًا فإنَّ لهما مقاضاته ليُلزمه القاضي بإتلاف ما يكون ضرر ضمان مثله أو قيمته أقل.
الصورة الثالثة: هو افتراض أنَّ إدخال الدابة رأسها في القدر لم يكن مسبَّبًا عن أحد، وفي هذا الفرض ذهب المشهور -كما أفاد السيِّد الخوئي-(3) إلى تعيُّن اختيار أخف الضررين، فإنْ كان إتلاف القدر أقلَّ ضررًا من ذبح الدابَّة تعيُّن إتلافه واستنقاذ الدابَّة ويُلزم مالك الدابَّة بضمان القدر لأنَّ اتلاف القدر كان لأجل التحفُّظ على دابَّته لذلك يلزمه ضمان قيمة القدر أو مثله.
وأجاب السيِّد الخوئي(4) أنَّه بناء على ذلك يتحمَّل مالكُ الدابَّة تمام الضرر والحال أنَّه لم يكن السبب -بحسب الفرض- في دخول رأس دابَّته في القدر بل كان ذلك خارجًا عن إرادة كلا المالكين فلماذا يتعيَّن عليه ضمان قيمة القدر لمجرَّد أنَّ ماله أغلى ثمنًا من مال الآخر، فالصحيح أنَّ الضرر لما كان مشتركًا فإنَّ كلًا من المالكين يتحمَّل جزءً منه على نحو الشركة فإمَّا أن يتوافقا على إتلاف أحد المالين ويتحملان معًا الضرر بالنسبة وإذا تشاحَّا رجعا إلى القاضي فيختار اتلاف أيَّهما شاء ويُقسَّم الضرر بينهما ، وذلك لقاعدة العدل والإنصاف هذا في فرض تساوي المالين في القيمة ، وأمَّا لو فرض أنَّ قيمة أحد المالين أعلى من قيمة المال الأخر فيتعيَّن على القاضي الحكم بإتلاف الأقل قيمة وذلك لأنَّ الحكم بإتلاف الأعلى قيمة يقتضي تحميل المتخاصمين ضرراً أكبر وهو بلا موجب، وبذلك يكون هذا الفرض من موارد تعيُّن ارتكاب أخفِّ الضررين .
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
29 / ربيع الأوّل / 1442هـ
15 /11 / 2020م
1- مصباح الأصول -السيد الخوئي- ج47 / ص653.
2- مصباح الأصول -السيد الخوئي- ج47 / ص653.
3- مصباح الأصول -السيد الخوئي-ج47 / ص653.
4- مصباح الأصول -السيد الخوئي- ج47 / ص654.