شرح مبنى الكليني في فرض تعارض الخبرين

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

سماحة الشيخ الجليل

يفهم البعض من كلام الشيخ الكليني أنَّ منهجه الاختيار إذا تعارضت الروايات التي ينقلها، فهو مخيَّرٌ في الأخذ بما شاء .. وهذا الفهم في رأيي لا يتم، إذ المعصوم (ع) لا يتناقض، ثم إنَّ هذا الرأي نفسه منهج أبي حنيفة، فهو يأخذ برأي الصحابي، وإذا اختلفت آراؤهم يأخذُ بأيِّهما شاء .. ما رأيكم شيخنا؟

هل فعلًا هذا ما يُفهم من منهج الكليني؟

وخاصَّة أنَّ الكتاب كتبه للعمل -كما يُقال- أي هو ما يُفتي به ويرى صحَّته.

الجواب:

يقول الشيخ الكليني (رحمه الله) في مقدمة كتاب الكافي: "فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا" تمييز شيء ممَّا اختلف الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام) برأيه، إلا على ما أطلقه العالم بقوله (عليه السلام): " اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردُّوه"، وقوله (عليه السلام): "دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرُشد في خلافهم"، وقوله (عليه السلام): "خذوا بالمجمع عليه، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه" ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقلَّه ولا نجد شيئا" أحوط ولا أوسع من ردِّ علم ذلك كلِّه إلى العالم (عليه السلام) وقبول ما وسِعَ من الأمر فيه بقوله (عليه السلام): "بأيِّما أخذتم من باب التسليم وسعكم"(1).

توضيح المراد من كلام الكليني:

المستظهَر ممَّا أفاده الكليني (رحمه الله) في ديباجة كتابه أنَّ مبناه في فرض تعارض الخبرين مع فقد المرجِّح هو التخيير، فليس مبناه هو التخيير مطلقًا -كما فهم البعض- فإنَّ ظاهر كلامه أنَّ الخبرين المتعارضين يُعرَضان على كتاب الله تعالى، فالموافق منهما لظاهر الكتاب يُؤخذُ به ويردُّ المُخالِف منهما لكتاب الله تعالى، فلا تصلُ النوبة في هذا الفرض للتخيير، وكذلك لا تصلُ النوبةُ للتخيير بين الخبرين المتعارضين لو كان أحدُهما موافقًا لفتوى العامَّة، فإنَّ الموافق للعامَّة -بحسب النصِّ الذي نقله- يتعيَّن طرحُه في فرض التعارض وليس مطلقًا، وهذا هو معنى: "دعوا ما وافقَ القوم فإنَّ الرُشد في خلافِهم" فإنَّ الأمر بترك ما وافق القوم إنَّما هو في فرض التعارض، إذ أنَّ الكليني بصدد بيان العمل في ظرف اتِّفاق هذه الفرضيَّة، على أنَّ الواضح هو أنَّه ليس كلُّ ما يُفتي به العامَّة مخالفًا للرُشد، فالكثير من فتاواهم مطابقةٌ لفتاوانا، فالأمر بترك ما وافق العامَّة إنَّما هو في فرض التعارض، وكذلك لا تصلُ النوبة للتخيير بين الخبرين المتعارضين -بنظر الكليني- لو كان أحد الخبرين موافقًا لما عليه المشهور شهرة عظيمة، وهذا هو ما فهمه -ظاهرًا- من قولهم (ع): "فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه" إشاره إلى قوله (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: "ويُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْه لَا رَيْبَ فِيه"(2).

فإذا تعارض الخبران ولم يكن ثمَّة شيءٌ من المرجِّحات المذكورة فحينئذٍ يكون المرجع هو التخيير، وهنا لابدَّ من التنبيه على أمور:

اشتراط التكافؤ بين المتعارضين:

الأمر الأول: إنَّ المقصود من الخبرين المتعارضين هما الخبران المتكافئان أي الواجدان لشرائط الحجيَّة لولا التعارض، فلو كان أحدُهما مثلًا ضعيف السند والآخر صحيح السند فإنَّ مثل هذا الفرض يكون خارجًا عن محلِّ البحث لأنَّه يكون من تعارض الحجَّة باللاحُجَّة، فيكون المقدَّم هو الخبر الصحيح، لأنَّ الخبر الضعيف فاقدٌ للحجِّيَّة بقطع النظر عن التعارض، وكذلك لو كان أحدُ الخبرين مخالفًا لصريح القرآن وليس لظاهره أو للسنَّة القطعية فإنَّ مثل هذا الخبر يكون فاقدًا للحجيَّة بقطع النظر عن التعارض يعني سواءً كان له معارض أو لم يكن له معارض فهو ساقط ٌعن الاعتبار والحجيَّة.

المراد من التعارض هو المستحكم غير القابل للجمع:

الأمر الثاني: إنَّ تعارض الخبرين الذي يكون مرجعُه التخيير بعد فقدان المرجِّح هو التعارض المستحكِم غير القابل للجمع العرفي، وأمَّا التعارض الذي يُمكن معه الجمع العرفي فإنَّه يتعيَّن في مورده العمل بما يقتضيه الجمع العرفي، فلو كان التعارض بنحو الإطلاق والتقييد أو العام والخاص أو الظاهر والأظهر أو الحاكم والمحكوم أو الوارد والمورود فإنَّ المقدَّم في هذه الفروض هو ما يقتضيه المقيِّد والمخصِّص والأظهر والحاكم والوارد، فإن ذلك هو ما يقتضيه الجمع العرفي المعتمَد لدى العقلاء وأهل اللسان والمحاورة، فإنَّهم يجمعون بين المطلق والمقيِّد بحمل المطلق على إرادة المقيِّد، وحمل العام على إرادة المخصِّص وهكذا.

الحاجة للرجوع إلى التخيير نادر الوقوع:

الأمر الثالث: إنَّ البناء على التخيير في ظرف التعارض المستقِر وفقدان المرِّجِّح لا يكاد يتَّفق إلا في موارد محدودة، خصوصًا مع البناء على أنَّ المرجِّحات لا تختصُّ بموافقة الكتاب ومخالفة العامَّة بل تشمل مثل الشهرة وصفات الراوي كما لو كان أحدُ الخبرين صحيحًا والآخر موثَّقًا، وهكذا لو بُني على عدم اختصاص الترجيح بالمرجِّحات المنصوصة بل يشمل غير المنصوصة أيضًا كالترجيح بالاحتياط أو الأحدثيَّة أو الأجماع المنقول، فإنَّه بناءً على ذلك يكون الوصول للتخيير نادر الوقوع بل هو نادر الوقوع حتى بناءً على اختصاص الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، وذلك لأنَّ المراد من الترجيح بموافقة الكتاب هو الترجيح بظواهر الكتاب مثل العمومات والإطلاقات فإذا أُضيف إليها الترجيح بموافقة العامَّة فإنَّ افتقاد الخبرين لكلٍّ من المرجِّحين قليل الوقوع كما هو واضح لمَن له معرفة بالأخبار وآيات الأحكام وفقه العامَّة.

البناء على التخيير لا يعني مطابقتهما للواقع:

الأمر الرابع: إنَّ البناء على التخيير في فرض استحكام التعارض بين الخبرين وفقدان المرجِّح لا يعني البناء على أنَّ مؤدَّى الخبرين مطابقين للواقع حتى يُقال إنَّ المعصوم (ع) لا يتناقض في قوله، إنَّ التعارض بين مدلولي الخبرين معناه تكاذُب الخبرين وأنَّ كلًا منهما ينفي الأخر ويدلُّ على عدم مطابقته للواقع، ومعنى ذلك أنَّ أحدهما لم يصدر من الإمام (ع) يقينًا أو أنَّ كلاهما صدرا عن الإمام (ع) لكنَّ أحدَهما صدر لبيان الحكم الواقعي والآخر صدر تقيةً، وحيث إنَّنا نجهل بالصادر عن الإمام (ع) واقعًا أو نجهل بتحديد الصادر تقيةً من الصادر لبيان الحكم الواقعي لذلك فنحن أمام طرقٍ ثلاثة إمَّا أنْ نعمل بكلا الخبرين وهو مستحيل لأنَّ مقتضى ذلك هو التعبُّد بالمتناقضين، أو نبني على سقوطهما معًا عن الحجيَّة للجهل بالصادر عن الإمام (ع) وذلك لأنَّ العملُ بأحدهما دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجح، وهذا هو ما تقتضيه الطريقة العقلائية في فرض تعارض الخبرين وفقدان المرجح فحتى مع العلم بمطابقة أحدهما للواقع إلا أنَّه ونظرًا لعدم إمكان الوصول إليه لافتراض التعارض والجهل بما هو الصادر لذلك يتعيَّن البناء على عدم العمل بهما معًا وهذا هو معنى التساقط والرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العمليَّة. وهذا هو الذي يبني عليه الكثير من المحققين كالسيِّد الخوئي (رحمه الله)(3).

والطريق الثالث هو البناء على التخيير تعبُّدًا بالروايات التي أفادت أنَّه إذا تعارض الخبران فبأيِّهما أخذتَ من باب التسليم وسعك(4).

 ومعنى الأخذ بأيِّهما ليس هو البناء على أنَّه الحكم الواقعي بل معناه التعبُّد بأنَّ مقتضى الوظيفة الشرعيَّة الظاهرية في فرض التعارض هو التخيير فإنْ طابق ما اختاره الواقع فبها ونعمت وإنْ لم يُطابق الواقع فهو معذورٌ شرعًا وغيرُ مؤاخذٍ على مخالفة الواقع.

المراد من التخيير هو الابتدائي دون الاستمراري:

الأمر الخامس: إنَّ التخيير الذي يكون مرجعًا في ظرف التعارض المستقِر وفقدان المرجِّح هو التخيير الابتدائي وليس هو التخيير الاستمراري بمعنى أنَّه ليس للمجتهد أنْ يُفتي تارةً بهذه الرواية ويُفتي تارةً بالرواية المعارضة لها، لأنَّه لو فعل ذلك لحصل له العلم بمخالفة إحدى الفتويين للواقع، ولا يجوز للفقيه أنْ يُفتي بما يعلم بمناقضته للواقع تفصيلًا أو إجمالًا، فهو إمَّا أنْ يُفتي بمؤدَّى الرواية الأولى أو بمؤدَّى الرواية الثانية، وهذا هو ما يُعبَّر عنه بالتخيير الأصولي، فهو ليس من قبيل التخيير بين خصال الكفارة مثلًا، فإنَّ كلًا من خصال الكفارة مطابق للواقع، وأمَّا المقام فأحدهما لا بعينه مخالفٌ للواقع جزمًا، فلو أفتى بمضمون الروايتين حتى لو كان ذلك في وقتين مختلفين لكان مقتضى ذلك هو الإفتاء بما هو مخالف للواقع يقينًا، لذلك فالتخيير ابتدائي، وفي فرضه لا يقطع المجتهد بمخالفة الواقع لاحتمال أنَّ ما اختاره هو المطابق للواقع ولو اتَّفق أنَّ ما اختاره كان مخالفًا لواقع فإنَّه يكون معذورا لأنَّه قد عمل بما هو مقتضى الوظيفة الظاهريَّة المتعبَّد بها شرعًا.

وكيف كان فما أفاده من أنَّ المرجع -في فرض التعارض واستحكامه وفقدان المرجّح- هو التخيير ليس تامًّا فالروايات التي اعتمدها لإثبات ذلك إمَّا أنْ تكون ضعيفة السند أو غير ظاهرة فيما أفاده (رحمه الله) فالصحيح أنَّه مع استحكام التعارض بين الخبرين وفقدان المرجِّح هو التساقط تمامًا كما هو الشأن عند تعارض دليلين من غير الأخبار والمرجع بعد البناء على التساقط هو العمومات الفوقانية إنْ وجدت وإلا فالمرجع هي الأصول العمليَّة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

4 / ربيع الآخِر / 1442هـ

20 / نوفمبر / 2020م


1- الكافي -الكليني- ج1 / ص8-9.

2- الكافي -الكليني- ج1 / ص68.

3- مصباح الأصول -السيد الخوئي- ج48 / ص440-442.

4- لاحظ وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص108.