معنى حجيَّة القطع ومقدار ما يترتَّب عليها
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
بناءً على الرأي المطروح في علم الأصول والذي مفاده أنَّ الحجيَّة -بمعنى المنجِّزيَّة والمعذِّريَّة- لازمٌ ذاتيٌّ للقطع، وأنَّ الحجيَّة لا يُمكن سلبُها عن القطع، بل حتى الشارع قالوا لا يُمكن أنَّ يسلب الحجيَّة عن القطع مادام الإنسان قاطعًا، فهل معنى ذلك أنَّ الذي يقطع بأنَّ الشذوذ حقٌّ إنساني معذورٌ أمام الله بل هل كلُّ مَن كان قطعه غير مصيباً للواقع يُعتبر معذوراً أو لا؟ الجواب على قولهم: نعم.
فالسؤال: هل قولهم بالمعذريَّة يقود إلى السفسطة واللاأدريَّة أم لا؟
الجواب:
معنى حجيَّة القطع ووسيلة الردع عنه:
إنَّ حصول القطع لأحدٍ بشيء معناه اعتقاده الجازم بانكشاف ذلك الشيء له انكشافًا تامًّا لا يشوبُه شكٌ أو احتمالٌ بالخلاف وإنْ كان ضئيلًا، ولهذا فهو لا يَلتفت لمَن ينفي الصحَّة عن قطعه ويراه مخطئًا أي أنَّه يقطع بخطأ كلِّ مَن ينفي الصحَّة عن قطعه تمامًا كمَن يُشاهد شروق الشمس بعينه فإنَّه لو نفى أحدٌ عنده شروق الشمس فإنَّه يقطع بأنَّ هذا النافي مخطئٌ في نفيه لشروق الشمس، وهذا هو معنى استحالة ردع القاطع عن قطعه ما دام قاطعًا، وذلك لأنَّه يرى أنَّ الرادع مخطئٌ جزمًا في ردعه، فكيف يرتدع بردعه، فمن يقطع مثلًا بأنَّ الشذوذ حقٌّ مجعولٌ من الشارع للإنسان فإنَّ أحدًا لا يستطيع أنْ يردعه عن هذا القطع، فكلُّ من ينفي له صحَّة قطعه فإنَّه سيراه مخطئًا وحتى لو أنَّ الشارع قد تصدَّى بنفسه لنفي الصحَّة عن قطعه فإنَّه سيعتقد بأنَّ هذا النافي ليس هو الشارع جزمًا، لأنَّ الشارع بحسب اعتقاده وجزمه هو من أعطاه هذا الحق، ولهذا لا سبيل إلى نفي صحَّة قطع القاطع إلا بواسطة هدم قطعه، وهذا تمامًا هو ما يفعله الأنبياء والمرشدون، فالنبيُّ حين يُبعث في قومٍ يقطعون بصحَّة ما يدينون به فإنَّه لو قال لهم إنَّ دينكم باطل ومنافٍ للواقع فإنَّهم جميعًا سيعتقدون باشتباهه وخطئه، فلن يقبلوا قوله، ولهذا يتعيَّن عليه أنْ يَعمَدَ إلى قطعهم بصحَّة دينهم فيهدمُه فيأتي بالبراهين والمنبِّهات الموجبة للتشكيك بصحَّة دينهم فإذا سرى الشكُّ إلى نفوسهم في صحَّة دينهم انهدم قطعُهم وتحوَّل من مقطوعٍ به إلى مشكوكٍ فيه وبهذا يُصبح قابلًا للمناقشة والبحث.
فالقاطع مثل الغافل ومثل النائم فكما لا يجدي الأمر والنهي للغافل حال غفلته لافتراض عدم التفاته وإنَّما يُنبَّه أولًا وبعد ذلك يُجدي معه الأمر والنهي وكذلك النائم لا يُجدي معه الزجر والأمر حال كونه نائمًا بل يتعيَّن قبل ذلك تنبيهه كذلك القاطع، فإنَّه غافل عن الواقع ومعتقدٌ أنَّ ما هو عليه هو الواقع لذلك لن يُصغي لأيِّ قولٍ ينفي واقعيَّة ما يقطعُ به ولذلك لا سبيل إلى نفي الصحَّة عن قطعه إلا بعد الهدم لقطعه.
ولذلك تجد الأنبياء حين يُبعثون لعبدة الأصنام الذين يعتقدون قاطعين بأنَّها معبودات يبدئون بأثارة المنبِّهات الموجبة لتحويل قطعهم إلى شك، فيقولون لهم مثلًا إنَّها لا تضرُّ ولا تنفع، وإنَّها لا تنطق، ولا تدفعُ عن نفسها، وبهذا وغيره يسري الشكُّ في نفوس القاطعين فإما أنْ يُذعنوا أو يُكابروا وفي كلا الفرضين ينتفي العذر الناشئ عن القطع.
ولو فُرض أنَّ بعضهم ظلَّ على قطعِه صادقًا فهو قاصرٌ غير سويٍّ لافتراض وضوح المنبِّهات وصلاحيتها لدى العقلاء الأسوياء لهدم القطع وتحويله على أقلِّ تقدير إلى ظن، فلو اتَّفق وجود مثل هؤلاء فهم معذورون لقطعِهم الناشئ عن القصور فلا يكونون مستحقِّين للعقوبة لأنَّ الله تعالى لعدله لا يُعذِّب الجاهل القاصر غير الملتفت بسبب قطعه إلى جهله وهذا هو معنى معذريَّة القطع ومنجزيَّته وهو مؤدَّى مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾(1) وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾(2).
حجيَّة القطع لا تعني القبول بدعوى القطع:
وليس معنى ذلك أنْ تُقبل دعوى من يدَّعي القطع لمجرَّد دعواه القطع، أمَّا عند الله تعالى يوم القيامة فهو جلَّ وعلا يعلم بالسرائر فيعلم أنَّ هذا المدَّعي صادقٌ في دعواه القطع أو هو كاذب وأنَّ الواقع هو أنَّه قاطعٌ بالخلاف أو هو شاكٌّ أو ظان ولكنَّه كان مكابرًا.
وأمَّا في الدنيا فما أيسر اكتشاف كذب مدَّعي القطع لو كان كاذبًا فإنَّ القطع لدى الأسوياء لا ينشأ جزافًا بل ينشأ عن أسباب فإذا تمَّ هدمُ هذه الأسباب انهدمَ بها القطع وتحوَّل على أقلِّ تقدير إلى شكٍّ أو ظن، فإذا لم ينهدم القطع رغم انهدام أسبابه وتبدُّدها فهذا المدَّعي للقطع كاذب أو معتوه فإنْ كان معتوهًا فليس عليه من حرج، وإنْ كان كاذبًا فيُمكن اكتشاف كذبه من خلال ملاحظة حاله في الشؤونات الأُخرى المشابهة فإنْ كان يُدركها كما يُدركها سائر العقلاء فهو كاذب في زعمه القطع فلا يُصغى إلى دعواه القطع.
وهنا يحسن بنا التنبيه على أمور ينبغي أنْ تكون قد اتَّضحت مما تقدَّم:
حجيَّة القطع لا تعني أنَّ كلَّ قاطع مصيب:
الأمر الأول: إنَّ البناء على حجيَّة القطع ليس معناه البناء على أنَّ كلَّ قطعٍ فهو مصيب للواقع، بل معنى حجيَّة القطع أنَّ القاطع معذورٌ لو كان مخطئا للواقع فلا يُعاقب على جريه وفق قطعه، وكونُه معذورًا بسبب قطعه لا يعني أنَّه يُترك غارقًا في قطعه، بل يتمُّ العمل على هدم قطعه بواسطة الهدم لأسباب القطع، وهذا ما يفعله الأنبياء والمرشدون وأرباب العلوم فيما يتَّصل بالشؤون العلميَّة فإنَّهم لا يأتون للقاطع فيقولون إنَّ قطعك خاطئ بل يعمدون إلى أسباب القطع ويُنبِّهونه على أنَّها لا تُنتج القطع وحينئذٍ ينهدم قطعه تلقائيًا لانهدام أسبابه في نفسه.
حجيَّة القطع لا تعني استحقاق القاطع للأجر:
الأمر الثاني: إنَّ البناء على حجيَّة القطع تعني كما ذكرنا معذوريَّة القاطع لو أخطأ قطعُه الواقع فلا يكون مستحقًا للعقاب لكنَّه لا يكون مستحقًّا للثواب والأجر، تمامًا كما لو قال السيِّد لعمَّاله: على كلِّ واحدٍ منكم أنْ يأتيني بشاة، فمَن جاني بشاةٍ أكرمتُه ومَن لم يأتني بشاة عاقبتُه فذهب كلُّ واحدٍ وجاءه بحيوان يعتقد أنَّه شاة فبعد فحصها جميعًا تبيَّن أنَّ بعضهم جاء بشاةٍ واقعًا فهذا يستحقُّ على المولى الثواب والأجر، وبعضُهم جاء بخنزير يعتقدُ أنَّه شاة، فلو أراد المولى أنْ يعاقبه فإنَّ له أنْ يحتجَّ عليه بأنَّه كان قاطعًا بأنَّها شاة ولكنَّه أخطأ الواقع، وبهذا لا يكون مستحقًّا للعقوبة ولكنَّه لا يستحقُّ على المولى الأجر والمثوبة، وكذلك لو قال أحدُهم من أصلح باب داري فله عشرة دنانير، فلو ذهب النجَّار فأصلح باب دار رجلٍ آخر معتقدًا أنَّها دار المستأجر فإنَّه لا يستحقُّ العشرة دنانير على المستأجر لمجرَّد أنَّه كان قاطعًا أنَّها دار المستأجِر، فالقطع لا يُصحِّح الثواب وإنَّما ينفي الاستحقاق للعقوبة.
ومن ذلك يتَّضح أنَّ البناء على حجيَّة القطع لا يقتضي التصحيح لكلِّ الأديان والبناء على أنَّ كلَّ متديِّنٍ بدينٍ فهو مُثاب ومستحقٌّ للجنَّة لمجرَّد قطعه، نعم لا يكون مستحقًا للعقوبة لو كان قاطعًا واقعًا بصحَّة دينه، وهذا هو معنى حجيَّة القطع فهو لا يقتضي أكثر من ذلك.
تفنيد دعوى استلزام حجيَّة القطع للسفسطة واللاأدريَّة:
الأمر الثالث: لم يتَّضح لماذا يقودُ القولُ بحجيَّة القطع إلى السفسطة أو الى اللاأدريَّة فالقطع إنَّما هو حجَّة على القاطع وللقاطع، ولا ربط لغيره به، ولو قال القاطع ألفَ مرَّةٍ إنَّه قاطع فإنَّه لا تأثير لقطعه على العقلاء ما لم يُبرهن على صحَّة قطعه ومطابقته للواقع، فلو جاء اثنان يقطعُ احدُهما بشيءٍ ويقطعُ الآخر بنقيضه فإنَّ العقلاء غير معنيين بقطع كلٍّ منهما، فما لم يُبرهن القاطع على صحَّة قطعِه بالبراهين التي يعتمدها العقلاء فإنَّ قطعه لا قيمة له، فالمدار هو البراهين وليس قطوعات القاطعين، نعم لو كان معنى حجيَّة القطع هو أنَّ كلَّ قطعٍ فهو مصيب لكان ذلك مقتضيًا للسفسطة إذ أنَّه سيؤدي إلى البناء على أنَّ القاطع بالشيء والقاطع بنقيضه كلاهما مصيب للواقع إلا أنَّ الامر ليس كذلك فحجيَّة القطع لا تعني إصابة القاطع للواقع، ثم إنَّ البناء على حجيَّة القطع لا تُصحِّح القبول بدعوى مدَّعي القطع ليُقال أنَّ مؤدَّى ذلك هو القبول بدعوى مدَّعي القطع بشيء وبدعوى مدَّعي القطع بنقيضه وهو ما يؤدِّي إلى اللاأدريَّة، فالأمر ليس كذلك فحجيَّة القطع لا تعني القبول بدعاوى القطع، فالعقلاء غير معنيين بدعوى من يدَّعي القطع، فالمدار في قبول قول الآخر هو البراهين التي يُدلي بها.
ينتفي القطع بالهدم لأسبابه:
الأمر الرابع: إنَّ مَن يزعم مثلًا أنَّه قاطع بأنَّ الله تعالى قد جعل الشذوذ حقًا للإنسان لا يُحكم بمعذوريَّته لمجرَّد دعواه القطع، فالقطع لدى العقلاء لا ينشأ جزافًا بل له أسباب ومقدِّمات فإذا تمَّ الهدم لهذه الأسباب والمقدِّمات فإنَّ قطعه يزول تلقائيًا، ويكفي إحداث الاحتمال الضئيل في نفسه بخطئه وبذلك لا يكون قاطعًا، فليس له بعد ذلك التشبث بمعذِّريَّة القطع لأنَّه لم يعُد قاطعًا، فإذا بقي مصرًّا على دعوى القطع رغم زوال أسباب القطع فهو كاذب لو كان من العقلاء، ولذلك تصحُّ إدانته، ولا يُصغى إلى دعواه القطع، فهو كالذي شرب الخمر أيام أمير المؤمنين (ع) فلمَّا سُئل عن ذلك زعم أنَّه حديثُ عهدٍ بالإسلام ولم يكن يعلم أنَّه حرام في الإسلام فأمر (ع) بأنْ يُطاف به على المسلمين ليُعلم هل قرأ عليه أحدٌ آية تحريم الخمر، فلو كان قد قرأ عليه أحدٌ آية تحريم الخمر فإنَّ أسباب قطعه بحليَّة الخمر تنهدم، لذلك تكون دعواه القطع بالحليَّة كاذبة فلا يُصغى لها، هذا لو كان من العقلاء، واكتشاف أنَّه من العقلاء ميسور، فإذا كان من العقلاء وقد تمَّ الهدم لأسباب القطع ورغم ذلك ظلَّ مدَّعيًا للقطع فهو كاذب لذلك تصحُّ إدانته، وأمَّا إذا لم يكن من العقلاء فليس عليه حرج.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمَّد صنقور
10 / ربيع الآخر / 1442هـ
26 / نوفمبر / 2020م
1- سورة الإسراء / 15.
2- سورة القَصَص / 59.