هل يُخلَّد أصحاب الكبائر في النار؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
رُوي عن الإمام موسى بن جعفر (ع) أنَّه: "لا يخلِّدُ اللهُ في النار إلا أهلَ الكفر والجُحود وأهلَ الضلال والشرك .." ألا تُنافي هذه الرواية قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾(1) فلو أنَّ رجلًا من أهل الإيمان قتل مؤمنًا متعمِّدًا فإنَّ جزاءه -بمقتضى الآية- الخلود في النار، ولكنَّ الرواية ذكرت أنَّه لا يخلُدُ في النار إلا أهل الكفر، فكيف نوفِّق بين الآية والرواية؟
الجواب:
العذاب منقطع عن أصحاب الكبائر:
الرواية المذكورة أوردَها الشيخُ الصدوق في كتاب التوحيد بسندٍ صحيح عن محمد بن أبي عمير، قال: سمعتُ موسى بن جعفر (عليهما السلام) يقول: "لا يُخلِّدُ اللهُ في النار إلا أهلَ الكفرِ والجُحود وأهلَّ الضلال والشرك .."(2).
والروايات الدالَّة على أنَّ العذاب منقطعٌ عن المؤمنين من أهل الكبائر وأنَّ المؤمن لا يخلُد في النار للأبد، الروايات في ذلك مستفيضة بل لعلَّها متواترةٌ إجمالًا، ولذلك أجمعت الإماميَّةُ على أنَّ أهل الكبائر من أهل الإيمان لا يُعذَّبون في النار إلى الأبد، نعم قد يمكثون فيها طويلًا كلٌّ بحسب ما اجترحه من الكبائر ثم ينقطعُ عنهم العذاب ويخرجون من النار.
وأمَّا الآيات التي ظاهرها بدْوًا خلود بعض أهل الكبائر من المؤمنين في النار فهي ثلاثُ آيات:
الأولى: هي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾(3).
والثانية: هي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾(4).
والثالثة: هي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(5).
فالذين أفادت الآياتُ الثلاث أنَّهم سيخلَّدون في النار هم ثلاثة أصناف من العصاة وهم مَن يقتل مؤمنًا متعمِّدًا، والزناة، والذين يأكلون الربا، فلو سلَّمنا بظهور الآيات الثلاث في خلود هؤلاء الأصناف الثلاثة في النار أبدَ الآبدين فإنَّ مقتضى الجمع العرفي -بين الروايات المستفيضة القاضية بانقطاع العذاب عن أهل الكبائر من المؤمنين وبين الآيات الثلاث- هو البناء على أنَّ أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلُد أحدٌ منهم في النار للأبد عدا هؤلاء الأصناف الثلاثة المذكورة في الآيات الثلاث، وعليه فلا تنافي بين ما دلَّ على انقطاع العذاب عن أهل الكبائر من أهل الإيمان وبين الآيات الثلاث، لأنَّ غاية ما تقتضيه الآياتُ الثلاث هو استثناءُ الأصناف الثلاثة من عموم ما دلَّ على انقطاع العذاب عن أهل الكبائر من أهلِ الإيمان.
كلمة الخلود تُستعمل في المكث الطويل:
هذا بناءً على ظهور الآيات الثلاث في خلود الأصناف الثلاثة في النار للأبد لكنَّه يُمكن أنْ يقال إنَّ الآيات الثلاث ليستْ ظاهرةً في الخلود الأبدي للأصناف الثلاثة في النار، فإنَّ كلمة الخلود بمختلف اشتقاقاتها كما تُستعمل في البقاء المؤبَّد الذي لا انقطاع له ولا زوال كذلك تُستعمل في المكث الطويل المتمادي في الطول بل قد يُقال إنَّ الأصل اللُّغوي لكلمة الخلود هو أنَّها وُضعت لإفادة المكث الطويل كما أفاد ذلك الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن قال: "وأصلُ المُخَلَّد: الذي يبقى مدّةً طويلة، ومنه قيل: رجلٌ مُخَلَّد لمَن أبطأ عنه الشيب، ودابَّةٌ مُخَلَّدَة: هي التي تبقى ثناياها حتى تخرجَ رباعيتها، ثم استُعير للمبقيّ دائمًا"(6).
ولذلك تُسمى الأثافي وهي الأحجار التي تُوضع عليها القدور للطهي تُسمَّى الخوالد وذلك لطول بقائها، ولأنَّها تبقى بعد فناء الديار ودروس الأطلال، وكذلك تسمَّى الجبال والصخور والحجارة خوالد، وهكذا فإنَّ: "كلَّ ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العربُ بالخلود، كقولهم للأثافي: خوالد، وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها"(7).
ولعلَّه لذلك يُسمِّي العرب بعض أولادهم "خالدًا" تفاؤلًا بطول بقائه رغم عدم بقائه للأبد، ومن ذلك قولهم للسلطان: "خلَّد اللهُ ملكك" فإنَّ مقصودهم من ذلك هو الدعاءُ له بطول البقاء والمكث في المُلك وليس الدوام، ولعلَّ ذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾(8) فإنَّ أحدًا لا يتوهَّم الخلود للأبد في الدينا فهو إذن يحسبُ أنَّ ماله يُؤمِّن له المكث الطويل، وكذلك هو معنى قوله تعالى على لسان هود (ع) يخاطب قومه: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ / وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾(9) فهم إنَّما يتَّخذون المصانع طمعًا في البقاء الطويل وليس الدائم المؤبَّد.
وعليه فأقصى ما تدلُّ عليه الآياتُ الثلاث هو أنَّ الأصناف الثلاثة -الذين توعَّدهم الله تعالى بالخلود في النار- سوف يمكثون طويلًا في النار جزاءَ ما اجترحوا ولكنَّها لا تدلُّ على بقائهم في النار إلى الأبد، وبذلك لا تكونُ هذه الآيات منافيةً لما دلَّ على انقطاع العذاب عن أهل الكبائر من أهل الإيمان.
ومع عدم القبول بأنَّ لفظ الخلود موضوعٌ في الأصل اللغوي لإفادة معنى المكث الطويل فلا أقلَّ من عدم إحراز أنَّه موضوع لإفادة البقاء المؤبَّد، فهو إذن مستعملٌ في المعنيين، فإنْ قامت القرينة على إرادة أحدهما وإلا كان المراد مُجمَلًا، ولهذا لا تكون الآياتُ دالَّةً على الخلود الأبدي للأصناف الثلاثة من أهل الإيمان.
الخلود الأبديُّ للكافرين في النار مستفادٌ من غير كلمة الخلود:
قد يُقال إنَّه بناءً على ذلك لا تكونُ الآياتُ التي دلَّت على خلود الكافرين في النار وعلى خلود أهل الجنَّة في النعيم صالحةً لإثبات البقاء المؤبَّد، وعليه فإنَّ الكافرين سوف ينقطعُ عنهم العذاب، وكذلك فإنَّ أهل الجنَّة سوف لن يكونوا منعَّمين فيها إلى الأبد، لأنَّه إنَّما علمنا ببقائهم للأبد من طريق الآيات التي أخبرت عن خلود الكافرين في النار وخلود أهل الجنَّة في النعيم.
والجواب إنَّ استفادة البقاء المؤبَّد للكافرين في النار ولأهل الجنَّة في النعيم لم يتم من طريق الآيات التي اقتصرت على الإخبار عن خلود الكافرين في النار وخلود أهل الجنَّة في النعيم بل استُفيد ذلك من الآيات التي وصفت الخلود بالمؤبَّد كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(10) وكقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾(11) فبقرينة التأبيد علمنا أنَّ المراد من الخلود هو الدائم غير المنقطع، فالدوام لم تتم استفادته من حاقِّ اللفظ لكلمة ﴿خَالِدِينَ﴾ وإنَّما استُفيد من وصف الخلود بالمؤبَّد، وكذلك استُفيد من مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾(12) ومن مثل قوله تعالى: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾(13) أي غير مقطوع، ومن مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾(14) وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾(15) فالآيتان نفت عنهم الخروج من النار وأفادت الآيةُ الثانية أنَّ لهم عذابًا مقيمًا أي دائمًا، هذا مضافًا إلى الروايات المستفيضة بل المتواترة التي أفادت أنَّ أهل الجنَّة يظلُّون كذلك في النعيم إلى الأبد، وأنَّ الكافرين يظلُّون في العذاب إلى أبد الآبدين، فالخلود الأبدي لأصحاب الجنَّة في النعيم وللكفار في النار يمكن إثباته بالآيات والروايات حتى بناءً على تفسير الخلود بالمكث الطويل.
قرينةٌ أخرى على نفي الخلود الأبديِّ لمرتكبي الكبائر:
ثم إنَّه لو سلَّمنا أنَّ كلمة الخلود ظاهرةٌ عرفًا في الدوام والبقاء المؤبَّد فإنَّ هذا الظهور إنَّما يستقرُّ في فرض عدم قيام القرينة على إرادة خلافه وأمَّا عند قيام القرينة على خلافه فالظهور يكون تابعًا لما تقتضيه القرينة، وهنا قرينةٌ -أفادها عددٌ من العلماء- تقتضي عدم الخلود الأبدي لأهل الكبائر من أهل الإيمان في النار، وهي ما دلَّت عليه الآياتُ والروايات من استحقاق المؤمنين للثواب على الطاعات وأنَّ المعاصي لا تُحبِط الطاعات -كما هو مذهب الإماميَّة- ولا تحول دون استحقاق فاعلها للمثوبة، فمِن الآيات الدالَّة على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾(16) وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾(17) وقوله تعالى: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾(18) وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾(19) وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾(20) وقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(21) والآيات في ذلك كثيرة، وهي واضحةٌ في أنَّ الله تعالى قد وعدَ المؤمنين المثوبة في الآخرة على عمل الصالحات سواءً كانوا ممَّن عملوا بالمعاصي كما هو الغالب على العباد أو لا، فكلُّ مَن عمِل بالطاعات فهو موعود من الله جلَّ وعلا بالمثوبةِ والجزاء الأوفى لا يُنقصه مِن عمله شيئًا ولا يُضيِّع أجره بل له الحسنى على إحسانه وزيادة، فذلك هو وعدُ الله تعالى لعباده المؤمنين، والله جلَّ وعلا لا يُخلفُ وعده ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾(22).
وعليه فإمَّا أنْ يُثيب اللهُ المؤمنين على طاعاتهم فيُدخلهم الجنَّة فإذا استوفوا أجورهم أخرجهم منها وأدخلهم النار جزاءَ ما اجترحوه من كبائر الذنوب وهذا منافٍ لما ثبتَ بالضرورة من أنَّ مَن يدخل الجنَّة فإنَّه لا يخرجُ منها، وإمَّا أنْ يُدخِلهم النار أولًا ليستوفوا جزاءَ ذنوبهم ثم يُخرجهم منها ويُدخلهم الجنَّة ليستوفوا جزاء طاعاتِهم، وهذا هو المتعيَّن، إذ لو كانوا مخلَّدين في النار لكان مقتضى ذلك هو ضياع ما استحقُّوه -بوعد الله- من مثوبةٍ على طاعاتهم، وقد ثبت بالآيات أنَّ الله تعالى لا يُضيع عمل عامل فيتعيَّن البناء على عدم خلودهم الأبدي في النار، وبذلك يثبت أنَّ الخلود الذي عنته الآياتُ الثلاث ليس هو الخلود الأبدي وإنَّما هو المكث الطويل في النار.
وخلاصة القول: إنَّ الآيات الثلاث لا تدلُّ على الخلود الأبدي للأصناف الثلاثة من المؤمنين وبذلك فهي لا تُنافي ما دلَّ على عدم الخلود الأبدي لمرتكبي الكبائر من المؤمنين، نعم البناء على عدم الخلود الأبدي لأصحاب الكبائر من المؤمنين في النار لا يشملُ -ظاهرًا- مَن كان إيمانه بالانتماء دون الحقيقة، فمثلُه يكون خارجًا عن حيِّز المؤمنين ويحشره اللهُ تعالى يوم القيامة في زمرة أهل الكفر والضلال المستوجبين للخلود الأبديِّ في النار. نستعيذُ بالله تعالى من النار.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
16 / ربيع الآخر / 1442هـ
02 / 12 / 2020م
1- سورة النساء / 93.
2- التوحيد -الشيخ الصدوق- ص407.
3- سورة النساء / 93.
4- سورة الفرقان / 68.
5- سورة البقرة / 275.
6- مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص292.
7- مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص291.
8- سورة الهمزة / 3.
9- سورة الشعراء / 128-129.
10- سورة الأحزاب / 64-65.
11- سورة النساء / 57.
12- سورة الكهف / 107-108.
13- سورة هود / 108.
14- سورة البقرة / 167.
15- سورة المائدة / 37.
16- سورة الزلزلة / 7.
17- سورة الكهف / 30.
18- سورة آل عمران / 195.
19- سورة الحجرات / 14.
20- سورة يونس / 26.
21- سورة النحل / 97.
22- سورة التوبة / 111.