فاطمة (ع) الصِّدِّيقة الكبرى

المَفَاد والدِّلالة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

السلام عليكم شيخنا

تُلقَّبُ السيِّدة فاطمة (ع) بالصدِّيقة الكبرى فما هو تعريف الصدِّيق وما هي مميزاتهُ؟ وعلى مَن ينطبق وهل مِن الممكن أنْ ينطبق عنوان الصدِّيق على غير المعصوم؟ وما هو المقصود بالكبرى في الوصف وهل وصفت غير فاطمة (ع) بالصدِّيقة الكبرى؟

الجواب:

الصدِّيقيَّة مقامُ الأصفياء:

أمَّا ما هو تعريف الصدِّيق فالمُستظهَر من النصوص الشرعيَّة أنَّه وصفٌ يُشيرُ إلى مرتبةٍ معنويَّة ومقامٍ الهي يمنحُه اللهُ تعالى لبعض الأصفياء من عباده، فهو كالنبوَّة والإمامة والعصمة يحظى بها بعضُ الأصفياء من عباد الله تعالى، ولهذا لم يُسمِّ القرآنُ أحدًا بهذا الوصف إلا وكان من الأصفياء، فقد وصَفَ إبراهيم (ع) بهذا الوصف في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾(1) ووصَفَ كذلك إدريس(ع) بهذا الوصف في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾(2) ووصَفَ يوسفَ (ع) بهذا الوصف في قوله تعالى: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾(3) ووصَفَ السيَّدة مريم (ع) بهذا الوصف في قوله تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾(4).

وكلُّ هؤلاء قد نصَّ القرآن على أنَّهم ممَّن اجتباهم اللهُ تعالى واصطفاهم مِن خلقه، أمَّا إبراهيم (ع) فمضافًا إلى كونِه من الأنبياء، ولا يكون كذلك إلا أنْ يكون من الأصفياء فإنَّ القرآن قد نصَّ على أنَّه من الأصفياء في مثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا﴾(5).

وأمَّا إدريس (ع) فإنَّه ذُكر في سياق قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ﴾(6) إلى قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾(7).

وأمَّا يوسف (ع) فإنَّ القرآن قد نصَّ على اجتبائه واصطفائه في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾(8).

وأمَّا السيَّدة مريم (ع) فقد نصَّ القرآن على اصطفائها في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾(9).

الاستدلال على أنَّ الصديقيَّة مقامُ الأصفياء:

والذي يؤكِّد بل يدلُّ على أنَّ الصديقيَّة منزلةٌ لا ينالُها إلا الخاصَّة من أصفياء الله تعالى هو قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾(10) فإنَّ الواضح من الآية المباركة أنَّ ثمة أصنافًا أربعة من عباد الله تعالى يحظون بالمراتب الأولى عند الله جلَّ وعلا وهم الأنبياء، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون، فهؤلاء هم أخصُّ عباد الله عند الله، وأنَّ كلَّ مَن سواهم فهم دونهم في المرتبة عند الله جلَّ وعلا.

ومنشأُ استظهار ذلك من الآية هو أنَّها بصدد الوعد لعموم عباد الله بأنَّ المُطيع منهم لله ورسوله يمنحُه اللهُ تعالى شرفَ اللِّحاق والمرافقة لهؤلاء الأصناف الأربعة يوم القيامة، ومقتضى ذلك أنَّ الطاعة لله ولرسوله لن تؤهِّلهم للصيرورة ضمن هؤلاء الأصناف الأربعة، وأنَّ غاية ما سيحظَون به هو شرفُ اللِّحاق والمرافقة دون شرف الصيرورة كما أفاد ذلك العلامة الطباطبائي(رحمه الله)(11) فذلك هو المستفاد من قوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ فالمطيع لله ورسوله يكون مع هؤلاء وليس منهم، وكذلك هو المُستفاد من قوله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ فإنَّ مفاد هذه الفقرة هو التعبير عن الغبطة بمرافقة هؤلاء، فمعنى قوله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ هو أنَّ مَن يكون هؤلاء رفقاءه فأحسِنْ بهم من رفيق، ومقتضى ذلك أنَّ المطيع لله ورسوله سيحظى ويسعد بمرافقة هؤلاء لا أنَّه سيكونُ منهم.

الأصناف الأربعة هم معالم صراط الله المستقيم:

ثم إنَّ الآية المباركة وصفت هؤلاء الأصناف الأربعة بالذين أنعم الله عليهم في إشارةٍ منها إلى قوله تعالى في سورة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ / صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾(12) فهؤلاء هم الذين يتميَّزُ بهم الصراط المستقيم من غيره، فالكون في صراطهم هو الضامنُ للكون في خطِّ الاستقامة، وأيُّ انحرافٍ عن صراطِهم يكون انحرافًا عن صراط الاستقامة، المُفضي إمَّا إلى طريق المغضوب عليهم أو طريق الضالِّين التائهين عن الحقِّ، فاتِّباعُ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم والاهتداء بهديهم هو الطريق الحصري المُفضي لصراط الله المستقيم، وهذا هو معنى ما ندَبَ اللهُ إليه عباده من الحرص على تمثُّل قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فثمة صراطٌ مستقيم يتعيَّن على العباد سلوكه كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(13) ومَعلَمُ هذا الصراط الذي به يُعرَف، وبه يتميَّز هو ما عليه هؤلاء الذين أنعم اللهُ عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، فالصراطُ الذي عليه هؤلاء هو -محضاً- صراطُ الهداية الذي قال الله عنه: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فقوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بيانٌ لمعنى الهداية للصراط المستقيم.

معالم صراط الله واجدين للهداية الكاملة:

ثم إنَّ هؤلاء الذين جعلهم الله تعالى معلَمًا للهداية إلى صراطه المستقيم يجب أنْ يكونوا واجدين للهداية الكاملة وإلا لم يكونوا معلَمًا للهداية لا أقل في المورد الذي لا يكونون فيه مهديين، وحينئذٍ يكون جعلهم معلمًا للهداية مطلقًا كما هو مقتضى ظاهر الآيات من الإغراء بالضلال، لذلك يتعيَّن كونهم واجدين للهداية الكاملة، فهم وإنْ كانوا متفاوتين في المرتبة والفضل إلا أنَّ أدنى ما يجب أن يكون عليه أدناهم في الفضل هو الكمال في الهداية، فالصالحون مثلًا والذين يظهرُ أو يُستشعرُ من الآية أنَّهم أدنى الأصناف الأربعة رتبةً لا يستحقُّون وصف الصالحين لو خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا لذلك وصف القرآن الذين يكونون كذلك بقوله: ﴿وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾(14).

فالصالحون الذين عنَتْهم الآية هم الذين عدَّ القرآنُ الكثيرَ من الأنبياء منهم كقوله تعالى: يصف إبراهيم (ع): ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(15) وقوله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(16) وقوله تعالى: يصفُ السيد المسيح (ع): ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(17) فكونُه من الصالحين هي أحدى الأوسمة التي منحَها اللهُ تعالى للسيِّد المسيح، لذلك عدَّها في سياق الكرامات التي منحها إيَّاه، وقال تعالى عن نبيِّ الله يونس (ع): ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(18) فالكونُ من الصالحين إنَّما هو بالاجتباء.

ولذلك فإنَّ مجرَّد الإيمان وعمل الصالحات لا يُفضي لصيرورة فاعلها من الصالحين، نعم مَن يعمل الصالحات يكون مع الصالحين أي أنَّه يحظى بشرف المعيَّة والمرافقة لهم لا أنَّه يكون منهم كما يظهر ذلك من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ / وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾(19) فهم يطمعون بأنْ يحظون بشرف المعية للشهداء -شهداء الأعمال- والصالحين، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾(20) فهو وعدٌ من الله تعالى للمؤمنين العاملين للصالحات بأن يُدخلهم في زمرة الصالحين، فهو ليس وعدًا منه بأنْ يجعلهم من الصالحين كما وعد الأنبياء وإنَّما هو وعدٌ بمرافقتهم والنيل لشرف المعيَّة لهم.

وممَّا ذكرناه يتبيَّن أنَّ الأصناف الأربعة على اختلاف مراتبهم وأنَّ بعضهم قد يحظى بالأوسمة الأربعة، وبعضُهم بثلاثةٍ منها، وبعضهم يحظى باثنين منها، وبعضهم قد لا يحظى بأكثر بواحدٍ منها إلا أنَّهم جميعًا واجدون للهداية الكاملة التي صحَّ بها اعتبارهم معلَمًا وطريقًا للهداية إلى صراط الله المستقيم.

مقام الصدِّيقيَّة يفوقُ مقام العصمة:

ومن ذلك يتَّضح أنَّ مقام الصدِّيقية -والذي يظهرُ من الآية أنَّه يقعُ في المرتبة الثانية بعد مقام النبوَّة- لا يحظى به إلا مَن هو واجدٌ للهداية الكاملة والتي هي تعبيرٌ آخر عن العصمة، فمقامُ الصدِّيقيَّة وإنْ كنَّا لا نُدركُ كنهه وحقيقته تمامًا كعدم إدراكنا لكُنْهِ وحقيقة النبوَّة إلا أنَّ المقدار المُدرَك من ذلك هو أنَّه مقامٌ إلهي يمنحُه الله تعالى لخاصة أصفيائه بعد أن يفيض عليهم من رحمته وعلمه ويجعلهم محلًّا ومستودعًا للهداية الكاملة، فهو مقام يستبطنُ مقام العصمة ويزيدُ عليه.

تعريف معنى الصدِّيق:

وقد عرَّف بعضُهم الصدِّيق والذي هو من المبالغة في الصدق عرَّفه بعضُهم بأنَّه "الكامل في الصدق" فهو صادقٌ في كلِّ ما يقول، وصادقٌ فيما يفعل، وصادقٌ فيما يعتقد، وصادقٌ فيما يرى ويعلم، فلأنَّ معنى الصدق هو المطابقة للواقع، فقول الصدِّيق وخبره مطابقٌ أبدًا للواقع، فهو لا يتعمَّد الكذب ولا يصدرُ عنه الكذب اشتباهًا، لأنَّ الخبر المنافي للواقع يكون كذبًا وإنْ كان المُخبِرُ به معتقدًا لصدقه، وهو صادقٌ فيما يفعل، ففعلُه مطابقٌ لقوله ومطابق لمعتقده لا يتخلَّف شيءٌ عن شيء، فمخبره مطابقٌ لمظهره، وصادقٌ في معتقده فهو راسخ اليقين بمعتقدِه كما أنَّ معتقده مطابِقٌ للحقِّ والواقع لا يتخلَّف وليس منه وهم، ورؤيته لمعتقده لا يشوبُها شكٌّ أو غموض، فيقينُه به عينُ اليقين، وهو صادقٌ فيما يرى ويعلم، فهو يرى الحقائق كما هي رأي شهود، وهذا هو معنى ما أفاده العلامة الطباطبائي (رحمه الله) أنَّ الصدِّيق: "يشاهد حقائق الأشياء ويقول الحقَّ ويفعل الحق"(21) فالصدِّيقون هم شهداء الحقائق والأعمال والشهداء هم شهداءُ الأعمال.

إشكالٌ ودفع:

بقيَ شيءٌ وهو أنَّه قد يُقال إنَّ الله تعالى قد عرَّف الصدّيقين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾(22) فكلُّ مَن آمن بالله ورسله فهو صدِّيق بمقتضى هذه الآية.

والجواب: أنَّ معنى الآية -كما أفاد العلامة الطباطبائي(23)- هو أنَّ مَن آمن بالله ورسله فإنَّ الله تعالى سوف يُلحقُه يوم القيامة بالصدِّيقين والشهداء، فهو وعدٌ وبُشرى للمؤمنين بأنَّه تعالى سيُلحقهم بالصدِّيقين والشهداء ويمنحُهم من نوع أجورهم ويهبُ لهم من نوع نورهم، فالآيةُ ليست بصدد التعريف للصدِّيقين والشهداء بل هي بصدد الوعد والبشرى للمؤمنين بقرينة ذيل الآية المباركة، فهي بعد أنْ وعدت المؤمنين بثواب الصدِّيقين ونورهم توعَّدت الكافرين بالنار، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.

والقرينةُ الأخرى على أنَّ الآية بصدد الوعد بإلحاق المؤمنين بالصدِّيقين والشهداء قوله تعالى: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ أي للمؤمنين أجر الصدِّيقين والشهداء ولهم نورهم، ومقتضى ذلك أنَّهم ليسوا منهم ولكنَّ الله تعالى سوف يمنحُهم بفضله أجرهم ونورهم فيكونون معهم ويحظون بما يحظى به الصدِّيقون والشهداء من النعيم، وعليه فمعنى قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أنَّ المؤمنين سيكون يوم القيامة عند الله في ركب الصدِّيقين والشهداء.

فذلك هو ما يقتضيه ظاهرُ الآية، وهو ما يقتضيه الجمعُ بينها وبين قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ فالمؤمنون المطيعون لله ورسوله ملحقون -بمقتضى صريح الآية- يوم القيامة بالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ أي أنَّهم سيكونون معهم وفي رفقتهم لا أنَّهم سيكونون منهم.

ويؤكِّد هذا الفهم من مجموع الآيتين ما تظافرت عليه الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) من أنَّ وصف الصدِّيقين يختصُّ به رجالُ ونساء في تاريخ الرسالات وفي هذه الأمَّة، ولا يعمُّ جميع المؤمنين، وهذا هو المعنى المرتكز في أذهان عموم المسلمين وأنَّ وصف الصدِّيقين وسامٌ خاص يحظى به الخاصَّة من عباده.

فممَّن وُصف بالصدِّيق هي السيدة مريم (ع) كما في الآية، وكذلك استفاضت الروايات من الفريقين عن الرسول الكريم (ص) أنَّه وصفَ عليِّ بن أبي طالب (ع) بالصدِّيق وبالصديق الأكبر(24) وبصدِّيق هذه الأمة (25)، وكذلك ورد عن الرسول (ص) الصدِّيقون ثلاثة: حبيب بن مري النجار مؤمن آل ياسين الذي ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾(26)، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾(27)، وعليُّ بن أبي طالب الثالث وهو أفضلُهم"(28)، وورد من طرقنا أنَّ أئمة أهل البيت (ع) صدِّيقون وأنَّ السيِّدة فاطمة (ع) صدِّيقة، فهذه الروايات التي يبلغ مجموعها حدَّ التواتر الإجمالي تدلُّ على أنَّ وصف الصدِّيق لا يعمُّ جميع مَن آمن بالله ورسله كما توهَّم البعض بل هو منزلةٌ خاصة ومقامٌ إلهيٌّ منحَه الله تعالى لخاصَّة أصفيائه من عباده.

صحَّة الروايات التي وصفت فاطمة بالصدِّيقة:

وقبل أن نختم البحث نشير إلى بعض الروايات التي وصفت فاطمة (ع) بالصدِّيقة، ولم يحظَ فيما نعلم أحدٌ من نساء هذه الأمة بهذا الوصف سوى سيدة النساء فاطمة (ع)

فممَّا ورد في ذلك ما رواه الكليني في الكافي بسندٍ صحيح عن الْمُفَضَّلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) مَنْ غَسَلَ فَاطِمَةَ؟ قَالَ: ذَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وكَأَنِّي اسْتَعْظَمْتُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِه فَقَالَ: كَأَنَّكَ ضِقْتَ بِمَا أَخْبَرْتُكَ بِه قَالَ: فَقُلْتُ قَدْ كَانَ ذَاكَ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ: فَقَالَ (ع): لَا تَضِيقَنَّ فَإِنَّهَا صِدِّيقَةٌ ولَمْ يَكُنْ يَغْسِلُهَا إِلَّا صِدِّيقٌ .."(29).

ومن ذلك أيضاً ما رواه الكليني بسندٍ صحيح عن عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيه أَبِي الْحَسَنِ (ع) قَالَ: "إِنَّ فَاطِمَةَ (ع) صِدِّيقَةٌ شَهِيدَةٌ .."(30).

ومنه ما رواه جعفر بن قولويه في كامل الزيارات بسندٍ معتبر عن أبي حمزة الثمالي قال: قال الصادق (عليه السلام): "إذا أردت المسير إلى قبر الحسين (عليه السلام) .. السلام عليك يا وارث الحسن بن علي الزكي، السلامُ عليك يا وارثَ فاطمةَ الصِّدِّيقة، السلام عليك أيها الصدِّيقُ الشهيد، السلام عليك أيُّها الوصي الرضي البار التقي .." إلى أنْ قال (ع): اللهمَّ صلِّ على فاطمةَ بنت نبيِّك، وزوجة وليك، وأمِّ السبطين الحسنِ والحسينِ الطاهرةِ المطهَّرة، الصِّدِّيقة الزكية، سيِّدة نساءِ أهل الجنَّة أجمعين، صلاةً لا يقوى على إحصائها غيرك .."(31).

الاستدلال على أنَّ فاطمة هي الصدِّيقة الكبرى:

وأمَّا أنَّها الصدِّيقةُ الكبرى فورد في العديد من الروايات منها معتبرة إسحاق بن عمَّار وأبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال يصفُ فاطمة (ع): ".. وهي الصدِّيقةُ الكبرى .."(32).

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في الأمالي بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): إنَّ الله تبارك وتعالى اصطفاني واختارني وجعلني رسولاً .. فجعل اللهُ لي عليًّا وزيرا وأخًا .. فهو سيِّدُ الأوصياء .. وزوجتُه الصدِّيقةُ الكبرى ابنتي .."(33).

والمراد من وصفها بالكبرى -والتي هي من صيغ التفضيل لوصف المؤنث المقابل للوصف بالأكبر مثل العظمى مؤنث الأعظم- المراد من الكبرى هو أنَّها أعلى الصدِّيقات منزلةً وأفضلُهنَّ على الإطلاق، فما مِن صدِّيقةٍ في تاريخ الرسالات إلى قيام الساعة إلا وفاطمة تفوقُها رتبة وكمالًا ومنزلةً عند الله تعالى.

ويكفي لإثبات أنَّها الصديقة الكبرى -بقطع النظر عن الروايات الخاصَّة التي نصَّت على ذلك- يكفي لإثبات أنَّها الصدِّيقةُ الكبرى ما ثبت من طُرق الفريقين عن الرسول الكريم (ص) أنَّ فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنَّة، وسيِّدة نساء العالمين، وسيدة نساء المؤمنين، فما مِن صدِّيقة إلا وهي من نساء أهل الجنَّة وفاطمة سيِّدتُها، وما مِن صدِّيقة إلا وهي من نساء المؤمنين ففاطمة إذن سيِّدتُها، وما مِن صدِّيقة إلا وهي من نساء العالمين ففاطمة سيِّدتُها، فهي إذن الصدِّيقة الكبرى على الإطلاق.

أمَّا وصفُها بسيِّدة نساء أهل الجنَّة فورد في مثل صحيح البخاري وغيره عن عائشة قالت: أقبلتْ فاطمة تمشى كأنَّ مشيتها مشى النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم): مرحباً يا بنتي .. أما ترضينَ أنْ تكوني سيِّدة نساء أهل الجنَّة أو نساء المؤمنين"(34).

وأخرج الحاكم في المستدرك بسنده عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله قال: "نزل من السماء ملَكٌ فاستأذنَ اللهَ أنْ يُسلِّم عليَّ لم ينزل قبلها فبشَّرني أنَّ فاطمة سيِّدة ُنساء أهل الجنَّة" قال الحاكم هذا حديثٌ صحيح الاسناد ولم يخرجاه(35).

وأمَّا وصفها بسيِّدة نساءِ العالمين وسيِّدة نساء المؤمنين فورد في مثل المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري بسنده عن عائشة أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم) قال: وهو في مرضه الذي تُوفي فيه يا فاطمةُ ألا ترضين أنْ تكوني سيِّدةَ نساء العالمين، وسيِّدةَ نساء هذه الأمَّة وسيدةَ نساء المؤمنين" قال الحاكم النيسابوري: هذا اسنادٌ صحيح ولم يخرجاه هكذا(36).

وأخرج مسلم في صحيحه أنَّ رسول الله (ص) قال لفاطمة (ع): فقال: يا فاطمة اما ترضين أن تكوني سيِّدة نساءِ المؤمنين أو سيِّدة نساء هذه الأمَّة"(37).

والروايات في ذلك كثيرة وفيما نقلناه غنًى وكفاية

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

12 / جمادى الأولى / 1442هـ

27 / ديسمبر / 2020م


1- سورة مريم / 41.

2- سورة مريم / 56.

3- سورة يوسف / 46.

4- سورة المائدة / 75.

5- سورة البقرة / 130.

6- سورة مريم / 58.

7- سورة مريم / 58.

8- سورة يوسف / 6.

9- سورة آل عمران / 42.

10- سورة النساء / 69.

11- الميزان -السيد الطباطبائي- ج4 / ص407.

12- سورة الفاتحة / 6-7.

13- سورة الأنعام / 153.

14- سورة التوبة / 106.

15- سورة البقرة / 130.

16- سورة الأنعام / 85.

17- سورة آل عمران / 46.

18- سورة القلم / 50.

19- سورة المائدة / 83-84.

20- سورة العنكبوت / 9.

21- تفسير الميزان -السيد الطباطبائي- ج4 / ص408.

22- سورة الحديد / 19.

23- تفسير الميزان -السيد الطباطبائي- ج19/ ص163.

24- سنن ابن ماجه -محمد بن يزيد القزويني- ج1 / ص44، السنن الكبرى- النسائي- ج5 / ص107، المستدرك على الصحيحن -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص112، المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص498، الآحاد والمثاني -الضحاك- ج1 / ص148، السنة -ابن أبي عاصم- ص584، خصائص أمير المؤمنين -النسائي- ص46، المعجم الكبير -الطبراني- ج6 / ص296 .

25- عيون أخبار الرضا -الصدوق- ج2 / ص70، الأمالي -الصدوق- ص83، علل الشرائع- الصدوق- ج1 / ص177.

26- سورة يس / 20.

27- سورة غافر / 28.

28- الفضائل -أحمد بن حنبل- ج2 / ص627-655، الخصال -الصدوق- ص184، مناقب علي بن أبي طالب -ابن المغازلي- ص200، فيض القدير شرح الجامع الصغير ج4 / ص313.

29- الكافي -الكليني- ج1 / ص459.

30- الكافي -الكليني- ج1 / ص458.

31- كامل الزيارات -جعفر بن قولويه- ص402-404.

32- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص668.

33- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص74.

34- صحيح البخاري -البخاري- ج4 / ص183، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج6 / ص282، السنن الكبرى- النسائي- ج5 / ص146.

35- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص151، سنن الترمذي -الترمذي-ج5 / ص326، فضائل الصحابة -النسائي- ص58، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص391، المعجم الكبير -الطبراني- ج22 / ص403.

36- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص156، السنن الكبرى -النسائي-ج4 / ص252، ج5 / ص147، مسند أبي داود -الطيالسي- ص197، كتاب الوفاة -النسائي- ص22،

37- صحيح مسلم -مسلم النيسايوري- ج7 / ص143، سنن ابن ماجه- ج1 / ص518، فضائل الصحابة -النسائي- ص77، مسند إسحاق بن راهويه -اسحاق بن راهويه- ج5 / ص7، السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص96، مسند أبي يعلى ج2 / ص112، المعجم الكبير -الطبراني- ج22 / ص419.