شرح رواية: وعلى معرفتِها دارت القرونُ الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم شيخنا
ورد عن الإمام الصادق (ع) أنَّه قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى أمهرَ فاطمة (عليها السلام) ربع الدنيا، فربعُها لها، وأمهرها الجنَّة والنَّار، تُدخِلُ أعداءها النار، وتُدخِلُ أولياءها الجنَّة، وهي الصدِّيقة الكبرى، وعلى معرفتِها دارت القرونُ الأولى".
فماذا تقولون في سند هذه الرواية؟ وما هو تفسيرها؟
الجواب:
الشرح لسند الرواية:
أمَّا سندُ الرواية فقد رواها الشيخُ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) في الأمالي قال: أخبرنا الحسينُ بن إبراهيم القزويني، قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمَّد بن وهبان، قال: حدَّثنا أبو القاسم علي بن حبشي، قال: حدَّثنا أبو الفضل العباس بن محمد بن الحسين، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا صفوانُ بن يحيى، عن الحسين بن أبي غندر عن إسحاق بن عمَّار وأبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أمَّا الحسين بن إبراهيم القزويني فهو من مشايخ الشيخ الطوسي، وقد أكثر الرواية عنه، وذكره ابنُ حجر العسقلاني في لسان الميزان وقال: "الحسين بن إبراهيم القزويني ذكره أبو جعفر الطوسي في مشايخه وأثنى عليه، وقال: كان يروي عن محمد بن وهبان، وذكره عليُّ بن الحكم في شيوخ الشيعة(1)، فالرجلُ من المعاريف ولم يرد فيه قدحٌ فهو لذلك من الثقاة.
وأمَّا أبو عبد الله محمَّد بن وهبان فقد وثَّقه الشيخ النجاشي وقال: "ثقةٌ من أصحابنا واضحُ الرواية قليلُ التخليط له كتب .."(2).
وأمَّا أبو القاسم علي بن حبشي بن قوني فهو من مشايخ الإجازة وله كتاب الهدايا، وقد روى عنه الصدوق مترحمًا عليه، وهو من مشايخ عددٍ من أعيان الطائفة مثل التلَّعكْبري، والشيخ المفيد، والسيِّد المرتضى، ومحمّد بن أحمد بن داود، ومحمّد بن وهبان، فهو من المعاريف ولم يرد فيه قدح لذلك فهو ثقة.
وأمَّا محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب فهو من أجلاء الطائفة "عظيم القدر، كثير الرواية، ثقة، عين، حسنُ التصانيف، مسكونٌ إلى روايته" كما أفاد ذلك النجاشي(3)، وكذلك هو الشأن في صفوان بن يحيى البجلي وإسحاق بن عمار وأبي بصير.
وأمَّا الحسين بن أبي غندر فهو من مشايخ صفوان بن يحيى البجلي الذي لا يروي ولا يُرسِل إلا عن ثقة فهو لذلك من الثقاة مضافًا إلى أنَّه من أصحاب الأصول فهو من المعاريف.
ولم يبق إشكالٌ في السند إلا من جهة أبي الفضل العباس بن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب والذي ذكرنا أنَّ أباه من أجلاء الطائفة ومحدِّثيهم المسكون إلى روايتهم، إلا أنَّه -أعني العباس- لم يرد فيه توثيقٌ لكنَّه بعد المراجعة لجميع رواياته أو معظمها لم أجد فيها ما هو مضطرب أو ما هو منافٍ لأصول المذهب وهو ما يكشف عن ضبط الرجل وتثبُّته وتحرُّزه عن الكذب -كما عليه طريقة العقلاء- وبذلك تكون الرواية قريبة بل هي معتبرة من حيث السند.
وأمَّا مدلول الرواية الشريفة ففيه غموض خصوصًا في فقرتها الأولى والرابعة، وهما قوله (ع): "إنَّ اللهَ تبارك وتعالى أمهَرَ فاطمة (عليها السلام) رُبعَ الدنيا، فربعُها لها" وقوله (ع): "وعلى معرفتِها دارت القرونُ الأُوَل" أو الأُولى.
معنى قوله: "أمهر فاطمة (ع) رُبع الدنيا":
أمَّا الفقرة الأولى فيُحتمل أنَّ المراد منها أنَّ الله تعالى قد أكرم السيَّدة فاطمة (ع) فمنَحَها ربعَ الدنيا بمعنى أنَّه تعالى قدَّر وقضى بأنْ يكتبَ ثوابَ الانتفاع من رُبع الدنيا لفاطمة (ع)، فمهما وقعَ على هذا المقدار من الدنيا مِن طاعاتٍ إلى قيام الساعة فإنَّ ثواب هذه الطاعات يُكتبُ لفاطمة (ع) دون أنْ ينقصَ من ثواب المطيعين شيء، ومهما جرى في هذا المقدار من الدنيا مِن خيرٍ ونفعٍ للعباد ولعموم خلْقِ الله من حيوانٍ وغيره استفادوه من أنهارها وآبارها أو من مطرٍ أو ثمَرٍ أو مأوى أو مسعى أو ترويحٍ أو تنفيسٍ أو تكاثرٍ أو تراحم فثوابُ ذلك الخير وذلك النفع يُكتب لفاطمة (ع).
فمفادُ هذه الفقرة من الرواية يُمكن تنظيرُه -للتقريب- بما ورد مِن أنَّ الأبَ الصالح إذا أحسنَ تربية أبنائه فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يمنحُ هذا الأب ثواب كلِّ عملٍ صالحٍ يعملُه أبناؤه إلى حين موتِهم، فيُكتب لأبيهم ثواب أعمالهم دون أنْ ينقصَ من ثوابِهم شيء، كما يُمكن تقريب معنى الرواية بما هو معلومٌ من أنَّ اللهَ تعالى يكتب لنبيِّه محمَّدٍ (ص) ثوابَ أعمال أمَّته إلى يوم القيامة.
فقوله (ع): "إنَّ اللهَ تبارك وتعالى أمهَرَ فاطمة (عليها السلام) رُبعَ الدنيا، فربعُها لها" أشبهُ شيءٍ بما لو كان أحدُهم يملكُ أرضًا شاسعة فيها زروعٌ ومبانٍ ومصانع وكانت في بلدٍ نائية فقال لأحد أبنائه قد وهبتُكَ أرضي بما عليها، فهي نِحْلةٌ لك، فإنَّ المتفاهَم عرفًا من هذه الهبة هو أنَّ المنافع العائدة من أثمان الزروع والثمار وأُجور المباني والمصانع تكون للمتَّهب، فإنَّ المتَّهب لا ينتفع من الأرض بالسكنى فيها لكونها نائية وقد لا يرغبُ بالتحوُّل إليها كما أنَّ مثل الزروع والثمار الكثيرة فائضة عن حاجته الشخصيَّة لذلك يكون المتفاهَم عرفًا أنَّ الغرض من هبته للأرض وما عليها للمتَّهب هو أنْ ينتفع بريعها وتكون عوائدُها إليه.
كذلك هو الشأن فيما أفاده الإمام (ع) من هبة الله تعالى رُبعَ الدنيا لفاطمة (ع) فإنَّه لا نفعَ لفاطمة (ع) من تمليكها لربع الدنيا ثم إنَّه كيف يُملِّكها ربعَ الدنيا وهو تعالى يعلمُ أنَّها لن تنالَ من حُطامها شيئًا ويعلمُ أنَّها سترحلُ عن الدنيا قريبًا، كما يعلم جلَّ وعلا مِن حالها أنَّ الدنيا بأقطارها وأقاليمها لا تستهوي قلب فاطمة (ع).
فلأنَّ الكريم إنَّما يهبُ المرغوبَ فيه للمتَّهب وليس الممقوت، ويهبُ ما فيه نفع له وإلا كان هازئًا -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا- لذلك يتعيَّن كون المراد من هبة فاطمة (ع) لربع الدنيا هو أنَّه تعالى جعل ربع الدنيا صدقةً جارية لفاطمة (ع) تمامًا كما لو قال أحدُهم قد أوقفتُ هذه الدار لأبي الذي قد توفَّاه الله، فإنَّه يقصدُ من ذلك أنَّه جعل هذه الدار صدقةً جارية لأبيه إلى أنْ يرثَ اللهُ الارضَ ومَن عليها. هذا ما أفهمُه من الفقرة المذكورة من الحديث الشريف، والله أعلم بالمراد منه.
معنى قوله (ع): وأمهرها الجنَّة والنَّار:
وأمَّا معنى قوله (ع): "وأمهرها الجنَّة والنَّار، تُدخلُ أعداءها النار، وتدخلُ أولياءها الجنَّة" فهو أنَّه تعالى منحَ بفضله فاطمةَ (ع) مقام الشفاعة، فهي تُدخِلُ بشفاعتها أولياءها الجنَّة، وأولياؤها هم المطيعون لله تعالى الممتثلون لأمره حيثُ فرض فيما فرض عليهم مودَّتها بقوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(4).
ومنحَها كذلك بمقتضى الآية وغيرها أنْ جعَلَ العداء لها تمرُّدًا وحربًا له ولرسوله (ص) كما قال رسول الله (ص) -بحسب ما أورده الفريقان- لفاطمة وعليٍّ والحسن والحسين (ع): "أنا حربٌ لمن حاربكم وسلمٌ لمَن سالمكم"(5) وقال: "فاطمة بضعة منى فمَن أغضبها أغضبني"(6) لذلك ومثله استحقَّ أعداؤها دخول النار، فبعد أنْ اصطفاها الله وطهَّرها واصطفاها على نساء العالمين كان على عباد الله التسليم والإذعان كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾(7) وقال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(8).
معنى قوله (ع): "وهي الصدِّيقة الكبرى":
وأمَّا قوله (ع): "وهي الصدِّيقة الكبرى" ففيه إشارة إلى الموقع السامي الذي بلغته السيِّدة فاطمة (ع) عند ربِّها جلَّ وعلا، فالصدِّيق مرتبةٌ معنويَّة ومقامٌ الهيٌّ يمنحُه اللهُ تعالى لبعض الأصفياء من عباده، فهو كالنبوَّة والإمامة والعصمة يحظى بها بعضُ الأصفياء من عباد الله جلَّ وعلا، وقد أشار القرآنُ الكريم إلى سموِّ هذه المنزلة بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾(9) فمقام الصدِّيقيَّة وإنْ كنَّا لا نُدرك كُنهَهُ وحقيقتَه تمامًا كعدم إدراكنا لكُنْهِ وحقيقة النبوَّة إلا أنَّ المقدار المُدرَك من ذلك هو أنَّه مقامٌ إلهيٌّ يمنحُه اللهُ تعالى لخاصَّة أصفيائه بعد أنْ يَفيض عليهم من رحمتِه وعلمِه ويجعلَهم محلًّا ومستودعًا للهداية الكاملة، وقد فصَّلنا الحديثَ عن معنى الصِّدِّيق في مقالٍ مستقلٍّ تحت عنوان: "فاطمةُ (ع) الصِّدِّيقة الكبرى .. المَفاد والدلالة" وبيَّنا فيه أنَّ الصِّدِّيقيَّة مقامٌ يقعُ في الرُتبةِ الثانية من مَقام النبوَّة ويستبطنُ ملَكة العصمةِ ويزيدُ عليها.
والمُراد مِن وصفها بالكبرى -والتي هي من صِيَغ التفضيل لوصف المؤنث المقابل للوصف بالأكبر مثل العظمى مؤنَّث الأعظم- المراد من الكبرى هو أنَّها أعلى الصِّدِّيقات منزلةً وأفضلُهنَّ على الإطلاق، فما مِن صدِّيقةٍ في تاريخ الرسالات إلى قيام الساعة إلا وفاطمة (ع) تفوقُها رتبةً وكمالًا ومنزلةً عند الله تعالى.
معنى قوله: "وعلى معرفتِها دارت القرونُ الأولى":
وأمَّا معنى قوله (ع): "وعلى معرفتِها دارت القرونُ الأولى" فالراجح أنَّ المقصود من ذلك هو أنَّ الله تعالى عرَّف أنبياءه وأولياءه على امتداد تاريخ الرسالات مقامَ السيِّدة فاطمة (ع) فهي ضمنَ الخمسة الذين كانت أنوارُهم مخلوقةً قبل الدنيا محدقةً حول العرش، وهي أنوارُ النبيِّ الكريم (ص) وعليٍّ، وفاطمة، والحسن، والحسين (ع) وكذلك الأئمة من ذرية الحسين (ع) فقد تظافرت الروايات في ذلك، وورد في بعضها أنَّ آدم (ع) كان قد استشفع بأسمائهم وكذلك الأنبياء، وإنَّما يستشفعون بشيءٍ يعرفونه لذلك كانت معرفتُها ممَّا دارت عليها القرونُ الأولى.
ويُمكن استئناس هذا المعنى مما ورد في الزيارة الجامعة المأثورة بسندٍ قويٍّ معتبر عن الإمام الهادي (ع) قال: ".. أَشْهَدُ أَنَّ هذا سابِقٌ لَكُمْ فِيما مَضى وَجارٍ لَكُمْ فِيما بَقِيَ .. خَلَقَكُمُ الله أَنْوارًا فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحَدِّقِينَ حَتّى مَنَّ عَلَيْنا بِكُمْ .. حَتّى لا يَبْقى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيُّ مُرْسَلٌ وَلا صِدِّيقٌ وَلاشَهِيدٌ .. إِلاّ عَرَّفْهُمْ جَلالَةَ أَمْرِكُمْ وَعِظَمَ خَطَرِكُمْ وَكِبَرَ شَأْنِكُمْ وَتَمامَ نُورِكُمْ وَصِدْقَ مَقاعِدِكُمْ وَثَباتَ مَقامِكُمْ وَشَرَفَ مَحَلِّكُمْ وَمَنْزِلَتِكُمْ عِنْدَهُ وَكَرامَتِكُمْ عَلَيْهِ وَخاصَّتِكُمْ لَدَيْهِ وَقُرْبَ مَنْزِلَتِكُمْ مِنْهُ .."(10).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
14 / جمادى الأولى / 1442هـ
29 / ديسمبر / 2020م
1- لسان الميزان -ابن حجر- ج2 / ص272.
2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص396.
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة -النجاشي- ص334.
4- سورة الشورى / 23.
5- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج2 / ص442، سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص360، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص149، المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص512، صحيح ابن حبان -ابن حبان- ج15 / ص434، المعجم الأوسط -الطبراني- ج3 / ص179، ج5 / ص183، المعجم الكبير -الطبراني- ج3 / ص40، ج5 / ص184.
6- صحيح البخاري- البخاري- ج4 / ص210، فضائل الصحابة -النسائي- ص78، المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص526، السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص97، المعجم الكبير -الطبراني- ج22 / ص404.
7- سورة الأحزاب / 36.
8- سورة النساء / 65.
9- سورة النساء / 69.
10- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج2 / ص609، عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص305، تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج6 / ص65.