اليقين لا يُلازم الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل لازم العلم الاعتقاد؟ وأقصد من ذلك لو علم الإنسان بشيء ما، كوجود الله تعالى مثلا،  فهل هذا العلم يُلازم الإيمان القلبي؟ أو أنَّ العلم شيء والإيمان شيء آخر؟ فقد يعلم ولا يؤمن؟

الجواب:

العلم بمعنى اليقين لا يُلازم الإيمان، فقد يقطعُ الإنسان بوجود الله جلَّ وعلا وبصدقِ النبيِّ الكريم (ص) وما جاء به ولكنَّه لا يُؤمنُ بشيءٍ من ذلك بل يجحدُه ويتنكَّرُ له، وقد نصَّت على ذلك العديدُ من الآيات:

الاستدلال بالآيات على ذلك:

منها قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ / وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾([1]) فرغم يقينهم الناشئ عن الوقوف على الآيات والبراهين -المُبصِرة أي الواضحة والبِّينة- إلا أنَّهم جحدوا بما هم على يقينٍ به عنادًا واستكبارًا.

ولو قيل إنَّ المراد من الجُحود هو الإنكار باللسان قلنا: إنَّ الإنكار باللسان إنَّما هو مظهرٌ لما قد اعتلج في النفس، فهذا الباعث النفساني الذي نشأ عنه الإنكار اللساني هو ذلك الشيء المناقِض للإيمان رغم العلم واليقين. فالعلم واليقين لم يَحُل دون الإنكار النفسي، ومقتضى ذلك أنَّ العلم واليقين ليس علةً تامَّة للإيمان وإلا لم يكن التخلُّف ممكنًا.

ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾([2]) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى﴾([3]). فتبيُّنُ الهدى وسطوعُه في عقولهم لم يحجزهم عن الكفر والارتداد المضادَّان للإيمان.

ومنها: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾([4]) وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العلم يجتمع مع الختم على القلب والذي هو تعبيرٌ آخر عن عدم الإيمان.

ومنها: قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾([5]) فأهلُ الكتاب كانوا - كما تنصُّ الآية - يعرفون محمَّدًا (ص) وأنَّه النبيُّ الموعود، يعرفونه على حدِّ معرفتهم لأبنائهم لكنَّهم كانوا يكتمون الحقَّ رغم علمهم ويقينهم أنَّه الحقُّ، فعلمُهم لم يحجزهم عن الجحود والعناد المنافيين للإيمان.

الإيمان ليس هو مجرَّد الإدراك واليقين بالشيء:

فمفادُ هذه الآيات أنَّ مجرَّد العلم واليقين بالشيء لا يُساوق الإيمان به، فإنَّ الإيمان يعني الإذعان والتسليم، فليس هو مجرَّد الإدراك واليقين بالشيء، ولذلك تجدُ المُدمِن على الأفعال الشنيعة يُدركُ قبحَها وسوئها، ويتمكَّن من الاستدلال على شناعتها ورغم ذلك يقارفُها وتهشُّ نفسه إليها ولا يقبلُ من أحدٍ النُصح بالإقلاع عنها، فمثله يعلمُ ويعتقدُ بقبح هذا الفعل ولكنَّه لا يُؤمنُ به.

الإيمان فعلٌ اختياريٌّ للنفس:

فذلك يُنبِّه على أنَّ الإيمان حقيقةٌ أخرى غير العلم واليقين بالشيء، وأنَّ العلم واليقين ليس علَّةً تامَّة وقهريَّة لحدوث الإيمان، بحيث لا ينفكُّ أحدُهما عن الآخر، بل إنَّ الإيمان فعلٌ اختياريٌّ من أفعال النفس، فهي بعد أنْ يحصل لها العلم بوجود الله تعالى مثلًا قد تختارُ الإيمان به وقد لا تختار، واختيارُها للإيمان معناه عقدُ القلب على الإقرار بمؤدَّاه، فهو نحوٌ من الالتزام والبناء النفساني يُوجد في أُفق النفس، ووجودُه ينشأ عن اختيار النفس لإيجاده.

وما ذكرناه وإنْ لم يكن برهانيًّا ولكنَّه وجداني، فإنَّنا نُدركُ بالوجدان أنَّ للنفس أفعالًا واقعة تحت سلطنتها واختيارها، فهي تملك أنْ تنبذ الشيء المعلوم وتنفرَ منه أو تتجاهله وتغضَّ عنه كما تملكُ أنْ تُذعِن له وتطمئنَ له وتستقرَّ عليه.

اليقين واقعٌ في سلسلة العلل المنتجة للإيمان:

ولمزيدٍ من التوضيح نقول: إنَّ الإيمان لا يتحقَّق إلا مع العلم واليقين لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ العلم واليقين هو العلَّة التامة المُنتِجة قهرًا للإيمان بل معنى ذلك أنَّ العلم واليقين واقعٌ في سلسلة العلل المُنتجة للإيمان.

فالكَوْن على السطح يتوقَّف على وجود السُلَّم، فإذا لم يُوجد السُلَّم فإنَّ من غير الممكن الكَوْن على السطح ولكن لو وُجد السُلَّم فإنَّ ذلك لا يُنتِج وحده الكَون على السطح بل يحتاج الكَون على السطح إلى أنْ تنعقد إرادة في نفس الفاعل ثم يُبادر إلى نصب السُّلَّم وبعده يشرعُ في صعود السُلَّم درجةً بعد درجة، وبعد أنْ يتخطَّى جميع درجات السُلَّم يتحقَّق منه الكَوْن على السطح.

فوجودُ السُلَّم رغم أنَّه شرطٌ لازمٌ للكَوْن على السطح لكنَّ وجودَه وحده لا يُنتِج الكَون على السطح، فتوقُّف الكَون على السطح على وجود السلَّم معناه أنَّ وجود السلَّم واقعٌ في سلسلة العلل المُنتجة للكَون على السطح لا أنَّه تمام العلَّة للكَون على السطح، ولذلك قد يُوجد السلَّم ولا يتحقَّق الكَون على السطح.

وهكذا هو العلم واليقين بالنسبة للإيمان، فقد يُوجد العلم واليقين ولا يتحقَّق الإيمان، فالعلمُ واليقين وإنْ كان شرطًا لازمًا لتحقُّق الإيمان ولكنَّ شرطيته تعني أنَّه واقعٌ في سلسلة العلل المُنتجة للإيمان، فثمة أمرٌ آخر يلزمُ تحقُّقه مع اليقين ليتحقَّقَ الإيمان، هذا الأمرُ الآخر هو اختيار الإيمان وإعمال النفس سلطنتها فتبني بمحض إرادتها على الإذعان بما تيقَّنت به، وهذا هو ما يعبَّر عنه بعقد القلب والبناء النفساني على القبول والتسليم بما أدركه العقل وتيقَّن به.

منبِّهٌ آخر على أنَّ الإيمان فعل اختياريٌّ للنفس:

ويُمكن تأكيد أنَّ الإيمان فعل اختياريٌّ للنفس، وليس نتيجة حتمية ومعلولًا قهريًا للعلم واليقين هو صحَّة الأمر بالإيمان وصحَّة النهي عن الكفر بعد العلم واليقين، فلو كان الإيمان معلولًا توليديًّا للعلم لم يكن ثمة معنىً للأمر به والنهي عن ضده بعد العلم واليقين لأنَّه سيحصل قهرًا تمامًا كما يحصل المعلول قهرًا بعد حصول علَّته التامة.

ولو كان الإيمان معلولًا قهريًّا للعلم واليقين لكان يكفي أنْ يُظهِر الأنبياءُ براهينهم ومعجزاتِهم للناس وحينئذٍ سيحصلُ لهم العلم واليقين قهرًا، وبذلك يكونون جميعًا مؤمنين لأنَّ الإيمان بحسب الفرض معلولٌ قهري للعلم واليقين وقد حصل بسبب البراهين الساطعة والمعجزات البيِّنة لكنَّ الذي نجده أنَّ الناس تُشاهِد المعجزات ويحصل لهم جميعًا العلم واليقين ورغم ذلك يكونون فريقين فريقًا يُؤمن بمؤدَّى اليقين الذي حصل بالمعجزات، وفريقًا يكفر رغم يقينه بمؤدَّى المعجزات، وهو ما يُنبِّه على أنَّ الإيمان فعلٌ اختياريٌّ للنفس تقبلُه النفس أو تردُّه، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾([6]) وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾([7]).

والمتحصَّل هو أنَّ الايمان فعلٌ اختياريٌّ للنفس، وهو يعني عقد القلب والبناء على القبول والتسليم بما أدَّى إليه العلم واليقين والالتزام في الجملة بمقتضاه ولوازمه من التديُّن والمطاوعة والعبوديَّة، لأنَّ فعل النفس واختيارها ينعكسُ في الجملة على الجوارح والأفعال، فالإيمان وإنْ كان يجتمعُ مع العصيان والتخلَّف عن بعض لوازم الإيمان من الطاعة، وذلك لبعض الصوارف النفسانيَّة ولكنَّه لا يتخلَّف عن مطلق لوازم الإيمان وإلا كان ذلك كاشفًا عن خلوِّ النفس عن الإيمان.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

4 / جمادى الآخِرة / 1442هـ

18 / يناير / 2021م


[1]- سورة النمل / 13-14.

[2]- سورة محمد / 25.

[3]- سورة محمد / 32.

[4]- سورة الجاثية / 23.

[5]- سورة البقرة / 146.

[6]- سورة الإنسان / 3.

[7]- سورة الزمر / 7.