قاعدةُ الفراش في فرض فساد العقد
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
بعد قراءة قاعدة الفراش في كتابكم خطر في البال هذا السؤال: لو أنَّ شخصاً تزوج بإمرة زواجا باطلاً وبقي معها سنواتٍ فزنت هذه المرأة، فحملت بحمل يُحتمل أنْ يكون من الرجل الأول والثاني معاً، فمقتضى ما ذكرتموه من أنَّ الظاهر من الفراش هو ما كان بعقد صحيح واقعا، لابدَّ أن لا تجري القاعدة لكن أليس هذا بعيداً خصوصاً إذا فهمنا من القاعدة أنَّها أمارة عرفية أمضاها الشارع كما يُفهم من كلام بعض العلماء؟
الجواب:
امتداد أمد الاشتباه في الوطأ لا يُصيِّر المرأة الموطوءة شبهةً فراشاً للواطئ، فلا فرق في وطأ الشبهة بين طول المدَّة وقصرها، فلو تزوَّج رجلٌ من احدى محارمه -كخالته أوعمته- اشتباهاً أو تزوَّج من أُخته الرضاعية وبقي مع تلك المرأة أمداً طويلاً وأنجب منها بنين وبنات فإنَّها لا تكون له فراشاً شرعاً، لذلك يلزمُه مفارقتها فورَ العلم بذلك، هذا في فرض الاشتباه وأمَّا في فرض عدم الاشتباه فالأمر يكونُ أكثرَ وضوحاً، فهو عاهرٌ بنظر الشارع وإنْ طال أمدُ بقائه مع المرأة وكان ذلك غيرَ مستوحَشٍ لدى العرف.
ثم انَّه لو كنَّا نقول بأنَّ قاعدة الفراش أمارة عرفيَّة فإنَّها ليست حجةً لمجرَّد ذلك، وإنَّما تثبت لها الحجيَّة -بناءً على كونها أمارة عرفيَّة-بالإمضاء الشرعي، فلا بدَّ من ملاحظة مقدار ما تمَّ امضاؤه شرعاً، وليس في الروايات ما يُمكن التمسُّك به لإثبات أنَّ الشارع قد أمضى قاعدة الفراش في موارد وطئ الشبهة بحيث إذا دار أمرُ الولد بين كونه للواطئ شبهةً أو غير الزوج فإنَّه يلزم أنْ يكون للواطئ شبهة، فإنَّ هذا المقدار لا يُمكن إحرازه من نصوص القاعدة.
على أنَّه لو سلَّمنا بأنَّ قاعدة الفراش أمارة عرفية فإنَّ من غير المُحرز اسراؤهم لهذه القاعدة في موارد وطأ الشبهة، فليس من المحرَز أنَّهم يحكمون بنسبة الولد لواطئ الشبهة إذا دار أمر الولد بينه وبين واطئٍ آخر، فالقدَرُ المتيقَّن ممَّا عليه بناءُ العقلاء أو العرف -بناءً على التسليم بكون قاعدة الفراش أمارة عرفية- القدَر المُتيقَّن هو ما لو وقعت الخصومة أو الشك بين الزوج أو المالك وبين غيره، والواطئ شبهةً ليس زوجاً ولا مالكاً بحسب الفرض إلا أنْ يعتبروا الزواج الباطل زواجاً وحينئذٍ يدخل هذا الفرض في فرضية أنَّ الخصومة واقعة بين الزوج وبين غيره. فلا تكون القاعدة حجةً في أوسع من ذلك.
فالشارع إنَّما أمضى كبرى القاعدة، وكبرى القاعدة لدى العرف هو اعتبار الولد لصاحب الفراش -وهو الزوج أو المالك- في ظرف الشك أو الخصومة أما مَن هو الزوج ومن هو المالك فتحديد ذلك ممَّا تصدَّى الشارع لبيانه، فنفى العديدَ من المناكح التي كان عليها العرف السائد، ونفى العديد من أسباب الرقِّ التي كان عليها العرف السائد، فالإمضاء إنَّما هو لكبرى القاعدة دون صغرياتها العرفيَّة.
وبتعبير آخر: نحن لا ندري بمَ يحكم العرف لو اتَّفق أنْ تخلَّق ولدٌ فوقع الشك من جهة أنَّه تخلَّق من ماء الواطئ المشتبِه أو أنَّه تخلَّق من الزاني، فهل يحكم العرف بانَّ الولد لواطئ الشبهة أو أنَّه لا يحكم بذلك؟ أو أنًّه يحكم ببنوَّة الولد لواطئ الشبهة في فرض أنَّ المشتبِه قد طال أمد اشتباهه ومكثه عند المرأة دون الفرض المقابل؟ ولو كان العرف يحكم ببنوة الولد لواطئ الشبهة في فرض امتداد امد الشبهة فهل حكمه بذلك نشأ عن اعتبار وطئ الشبهة زواجاً أو نشأ عن اعتبارٍ آخر، كلُّ ذلك غير مُحرَزٍ لنا، لذلك فالمقدار الذي يمكن التثبُّت من امضائه من قِبل الشارع هو ما عليه العرف من اعتبار الولد في ظرف الشك والخصومة لصاحب الفراش وهو الزوج والمالك. فهذا هو القدر المتيقن ممَّا عليه العرف، فما عداه يبقى في دائرة الشك.
ولو قيل بأنَّ اعتبار العرف الولدَ لواطئ الشبهة محرزٌ في فرض بقاء الشبهة أمداً طويلاً، فجوابه انَّ ذلك ليس محرَزاً إذا افترضنا أنَّ العرف يرى فساد العلاقة التي نشأ عنها احتمال تخلُّق الولد، نعم لو كان الفرض هو صحَّة العلاقة بنظر العرف فيمكن القبول بإحراز الحاقهم الولد للواطئ بتلك العلاقة ولكن ذلك خروجٌ عن الفرض، إذ انَّ الفرض هو بطلان العقد بنظر العرف. والبحث هو أنَّهم هل يجرون القاعدة في فرض البطلان أو لا؟ وأمَّا اجراؤهم للقاعدة في فرض صحَّة العقد فذلك ما ندَّعيه، ولسنا معنيين بطبيعة العقد الصحيح والفاسد عندهم من هذه الجهة، فإنَّ ذلك ممَّا لا تقتضيه القاعدة حتى بناءً على دعوى أنَّها أمارة عرفيَّة.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
8 / مارس / 2014م