معنى قوله (ع): "وكلتا يديه يمين"

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قرأتُ روايةً طويلة عن الإمام الباقر (ع) ذكرها الشيخ القمي في تفسيره ورد فيها: ".. قال فاغترف جلّ جلالُه من الماء العذب الفرات غرفةً بيمينه وكلتا يديه يمين فَصَلْصَلَهَا فجمدت ..".

وانقدح في بالي سؤال عن هذه الرواية التي كما أظن انفرد بروايتها الشيخ وفيها أنَّ لله يدين كلتاهما يمين، فهل نرفض الرواية أو الجزء الذي يتحدَّث عن أنَّ له يدين وكلتاهما يمين؟

الجواب:

التعبير بقوله: "وكلتا يديه يمين" ورد في غير هذه الرواية أيضًا وهو تعبيرٌ مجازي تمامًا كما هو الشأن في مثل قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾([1]) وقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾([2]) وقوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾([3]) وقوله تعالى: ﴿أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾([4]) فإنَّ إضافة اليدين والعين والأعين لله تعالى في هذه الآيات إضافة مجازيَّة والغرض منها الكناية عن نسبة الفعل لله تعالى وتشريف من وقع عليه الفعل كما في الآية الأولى أو الكناية عن القدرة والسعة كما في الآية الثانية أو الكناية عن الرعاية والحفظ كما في الآية الثالثة والرابعة.

كذلك فإنَّ الغرض من قوله (ع) "وكلتا يديه يمين" هو الكناية عن التنزيه لله تعالى عمَّا تُوهِمه إضافة اليمين لله تعالى، فحين يُقال عن الإنسان مثلًا قبض الشيء بيمينه فإنَّ المتلقِّي لهذه الجملة يفهمُ أنَّ للإنسان يمينًا وشمالًا، وأنَّ هذا الانسان قبضَ الشيء بيمينه دون شماله، فلنفي هذا الفهم حين تُضاف اليمين لله تعالى قيل وكلتا يديه يمين أي لا يمين له ولا شمال ولا جهة تُوصف باليمين وأخرى بالشمال، إذ لو كان له يمين لكانت له جهة تُوصف بالشمال حتمًا، إذ أنَّ اليمين جهةٌ لا يُمكن تعقلها إلا أنْ يكون بإزائها شمال تمامًا كما هو الفوق والتحت، فلا يُوصف شيءٌ بالفوق ما لم يكن مضافاً لشيءٍ موصوفٍ بالتحت، فالفوق والتحت واليمين والشمال من المفاهيم ذات الإضافة التي لا يُمكن تعقُّلها إلا بالإضافة إلى ما يُقابلها.

ومن ذلك يتَّضح أنَّ الغرض من قوله: "وكلتا يديه يمين" هو الإشارة إلى نفي أن يكون المراد من اليمين هي الجارحة، إذ يستحيل أنْ يُوصف شيء باليمين ثم لا يكون في جهة وأنْ لا تُقابله شمال، وحيث أثبت أنَّ كلتا يديه يمين فمعناه أنَّ مراده شيئًا آخر غير الذي تكون له جهة فيتعيَّن أنَّ استعمال اليمين مجازيٌّ ويتحدَّد المراد من المجاز من ملاحظة سياق الكلام.

فمثلًا ورد في الكافي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (ص): "الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضِ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ فِي ظِلِّ عَرْشِه عَنْ يَمِينِه، وكِلْتَا يَدَيْه يَمِينٌ وُجُوهُهُمْ أَشَدُّ بَيَاضًا وأَضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ .."([5]).

فقوله: "عَنْ يَمِينِه، وكِلْتَا يَدَيْه يَمِينٌ" ليس المراد منه الجهة لأنَّه لو كان المقصود من اليمين الجهة لاستحال أن تكون كلا جهتيه يمينًا، فالمتعيَّن أنَّ المراد من اليمين هو التعبير عن كونهم في محلِّ عنايته، فكما أنَّ الإنسان إذا أراد أنْ يتناول شيئًا يحرص على عدم تلفه فإنَّه يتناوله بيمينه لأنَّها أقوى من الشمال، وإذا أراد أن يُمسك بالشيء حتى لا يفلت أو يسقط فإنَّه يُمسكُه بيمينه، وإذا أراد أنْ يكرِمَ أحدًا فيناوله شيئًا فإنَّه يناولُه بيمينه، وإذا أراد أنْ يحتفيَ بأحدٍ ويُعبِّر له عن تقديره وتكريمه فإنَّه يُجلسه إلى يمينه كذلك أراد النبيُّ (ص) أنْ يُعبِّر عن كمال عناية الله بالمتحابِّين فيه، ويُعبِّر عن كمال تكريمه لهم بالقول أنَّه يضعهم عن يمينه ثم نفى أنْ يكون المراد من اليمين هي الجارحة والجهة بقوله (ص): "وكلتا يديه يمين" يعني أنَّه أراد القول بأنَّه لا يذهب بكم الوهمُ أنَّ المراد من اليمين هي الجهة أو الجارحة.

وكذلك هو معنى ما ورد في رواية صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله: عن يمين الله -وكلتا يديه يمين -عن يمين العرش قومٌ على وجوههم نور، لباسُهم من نور، على كراسي مِن نور، فقال له عليٌّ: يا رسول الله، مَن هؤلاء ؟ فقال له: شيعتُنا وأنت إمامُهم"([6]).

فإنَّ المراد من كونِهم عن يمين الله تعالى أنَّهم يحظون عند الله بمنزلةٍ مميزة وتكريمٍ خاص، فكما يفهم المتلقِّي من قول القائل إنَّ الملك أجلس زيدًا عن يمينه أنَّه أكرمه وميَّزه عن سائر الوافدين فكذلك نفهمُ من قول الرسول (ص) أنَّ شيعة عليٍّ (ع) يكونون عن يمين الله، فذلك من الكناية التي يُراد منها اللازم دون الملزوم، فحين يُقال: زيدٌ كثير الرماد فإنَّ المراد من ذلك هو السخاء والكرم، وليس المراد منه أنَّ في بيت زيد رمادًا كثيرًا، فقد لا يكون في بيته رماد أصلًا لأنَّه لا يطبخ الطعام في بيته أو لا يطبخ للضيوف على الجمر حتى يكون له رماد، فلا يكون المخبِرُ عن أنَّ زيدا كثيرُ الرماد كاذبًا حتى لو لم يكن لزيدٍ رماد إذا كان كريمًا، لأنَّ المُخبِر إنَّما أراد الإخبار عن كرمه وهذا هو معنى الكناية.

فالمراد من قولنا زيدٌ كثير الرماد هو اللازم دون الملزوم، كذلك المقام، فالمراد من الإخبار عن كونِهم عن يمين الله هو التعبير عن تكريمهم وأنَّهم سيكونون في المحلِّ الأشرف، لأنَّ لازم وضعهم عن اليمين عرفًا هو التكريم والتشريف، فالمقصود محضًا هو اللازم دون الملزوم.

وممَّا ذكرناه يتبيَّن المراد من قوله "بيمينه وكلتا يديه يمين" في رواية القمِّي عن الباقر (ع) عن أمير المؤمنين (ع) قال: ".. وكان ذلك من الله تعالى في آدم قبل أنْ يخلقه واحتجاجًا منه عليهم (قال) فاغترف ربُّنا عزَّ وجل غرفةً بيمينه من الماء العذب الفرات، وكلتا يديه يمين، فصلْصَلَها في كفِّه حتى جمدتْ .."([7]).

فإنَّ المراد ظاهرًا من قوله: "فاغترف ربُّنا عزَّ وجل غرفةً بيمينه" أنَّ الله تعالى خلق آدم بنفسه ابتداءً دون توسُّط مراحل وسلالات ودون توسُّط أسباب، فمعنى قوله (ع): "فاغترف ربُّنا عزَّ وجل غرفةً بيمينه" أنَّه تعالى تولَّى بنفسه خلق آدم فلم يكلِّف بذلك الملائكة مثلًا ولم يُوسِّط في ذلك أسبابًا، ولم يجعل خلقه ضمن سلالات بل ابتدأَ خلقه بنفسه ابتداءً، وحيث عبَّر الإمام (ع) عن ذلك بقوله فاغترف غرفةً بيمينه تصدَّى لنفي ما قد تُوهِمه إضافة اليمين إليه تعالى فقال: وكلتا يديه يمين، لينفي إرادته للجارحة من استعمال كلمة اليمين، لأنَّه لو كان المراد من اليمين هي الجارحة لم تكن كلتا يديه يمين بل كانت إحداهما يمينٌ حتمًا كما بيَّنا، وحيث أفاد الإمام (ع) أنَّ كلتا يديه يمين علمنا أنَّ مراده من اليمين معنىً آخر غير الجارحة، فتعيَّن من ذلك أنَّ استعماله لليمين ولليدين استعمال مجازي.

والغرض من هذا الاستعمال المجازي هو الكناية عن أنَّه تعالى خلق آدم بنفسه، فلأنَّ المتعارف حين يُريد الإنسان التعبير عن أنَّه فعل هذا الشيء بنفسه فإنَّه يقول فعلته بيدي لذلك قال الإمام (ع) أنَّ الله خلق آدم(ع) بيده وهو يريد القول أنَّه فعله بنفسه، فالمراد محضًا هو اللازم دون الملزوم.

فلازم قولنا مثلًا زيدٌ صنع الطعام بيده هو أنَّه صنعه بنفسه، فمنطوق الجملة وهو أنَّه صنع الطعام بيده هو الملزوم، ولازمها أنَّه تصدَّى لذلك بنفسه، فحين يكون المنطوق هو مراد المتكلِّم فالاستعمالُ حقيقي، وحين يكونُ المراد هو خصوص اللازم دون الملزوم فالاستعمالُ كنائي. فحين يكون المراد من قولنا إنَّ زيدًا صنع الطعام بيده هو أنَّه عالج صنع الطعام بيده فالاستعمالُ حقيقي. وحين يكون مقصودنا من الجملة هو أنَّه أشرف على صنع الطعام بنفسه دون أن يمسَّه بيده فقولنا صنع الطعام بيده كنائي وليس حقيقيًا يعني أنَّنا استعملنا الملزوم وأردنا خصوص اللازم، وهذا هو الاستعمال الكنائي.

وهذا هو المراد قطعًا من قول الإمام (ع) "فاغترف ربُّنا عزَّ وجل غرفةً بيمينه" وقوله: "فصلْصَلها في كفِّه حتى جمدتْ" فإنَّه أراد من ذلك أنَّه أشرف على ذلك بنفسه أي أنَّه أراد خصوص اللازم من هذه الجملة دون الملزوم، فإنَّ الله تعالى منزَّهٌ بالدليل القطعي عن أنْ تكون له جارحة أو تكون له جهة، وهذه هي القرينة على تعيُّن إرادة الكناية من استعمال اليد واليمين دون إرادة المعنى الحقيقي لهذين اللفظين.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / شعبان المعظّم / 1442هـ

29 / مارس / 2021م


[1]- سورة ص / 75.

[2]- سورة المائدة / 64.

[3]- سورة طه / 39.

[4]- سورة هود / 37.

[5]- الكافي -الكليني- ج2 / ص126.

[6]- قرب الإسناد -الحميري- ص61.

[7]- تفسير القمي -علي بن إبراهيم- ج1 / ص36، 42.