دوران الأمر بين الطهارة الخبثية والطهارة من الحدث
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شيخنا.
النصّ من كتاب العروة باب التيمم:
السادس: إذا عارض استعمال الماء في الوضوء أو الغسل واجب أهم كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجسًا ولم يكن عنده من الماء إلا بقدر أحد الأمرين من رفع الحدث أو الخبث ففي هذه الصورة يجب استعماله في رفع الخبث ويتيمم، لأنَّ الوضوء له بدل وهو التيمم بخلاف رفع الخبث مع أنه منصوص في بعض صوره .."([1]).
وعلَّق السيد السيستاني عند قول صاحب العروة: لأنَّ الوضوء له بدل بقوله: "بل لوجه آخر غير الوجهين المذكورين"([2]).
فما هو الوجه الآخر الذي يقصده سماحة السيد السيستاني دام ظله، غير الوجهين المذكورين في المسألة؟
الجواب:
لعلَّ الوجهَ في ذلك هو ما أفاده السيدُ الخوئي (رحمه الله) من أنَّ المقام ليس من صغريات باب التزاحم، فإنَّ التزاحم إنَّما يكون بين تكليفين نفسيين تضيقُ قدرة المكلَّف عن امتثالهما معًا، ففي مثل هذا الفرض يتعيَّن تقديم الأهم ملاكًا أو المحتمل الأهميَّة ويُمكن أنْ يُبنى -على إشكال- أنَّ ما ليس له بدل أهمُّ ممَّا له بدل فيقدَّم على ما له بدل.
وأمَّا مفروض المسألة فالدوران ليس بين تكليفين نفسيين بل هو تكليف واحد يدور الأمر فيه بين ترك شرطٍ من شرائطه وبين ترك شرط آخر من شرائطه، فالمكلَّف مسئول عن أداء الصلاة الواجدة لتمام أجزائها وشرائطها، فمِن شرائطها الطهارة بالماء من الخبث، ومن شرائطها أيضًا الطهارة بالماء من الحدث، وحيث إنَّ مفروض المسألة أنَّ المكلف ليس لديه من الماء ما يكفي للطهارتين، فإذا استعمل الماء لتطهير الخبث لم يتمكَّن من الطهارة المائية من الحدث، وإذا استعمل الماءَ للطهارة من الحدث لم يتمكَّن من تطهير الخبث، فهو إذن عاجز عن الجمع بين الطهارتين أي أنَّه عاجز عن تحصيل كلا الشرطين معًا، والقاعدة في مثل المقام هو سقوط التكليف من رأس، لأنَّ المأمور به هو الصلاة عن طهارةٍ من الحدث والخبث وهو عاجز عن تحقيق أحد الشرطين، ومتى ما عجز المكلَّف عن شرط التكليف سقط التكليف من رأس لأنَّ العجز عن شرط التكليف عجزٌ عن التكليف، فما يتمكن المكلَّف من الإتيان به ليس مأمورًا به، وما هو مأمورٌ به لا يتمكَّن من أدائه على وجه وبالنحو المطلوب.
فلو كان المكلَّف مأمورًا مثلًا بذبح الهدي في الحج على أن يكون واجدًا لصفة السلامة من العيوب فإنَّ هذا التكليف يسقط عن عهدة المكلَّف لو لم يجد المكلَّف سوى شاةٍ عوراء مثلًا أو عرجاء، وذلك لأنَّ العجز عن شرط الواجب يساوق العجز عن امتثال التكليف وهو ما يوجب سقوطه.
كذلك هو الشأن في مفروض المسألة فإنَّ المكلَّف عاجز بحسب الفرض عن الشرط المعتبر في الصلاة وهو الطهارة من الحدث أو الطهارة من الخبث، فالقاعدة تقتضي سقوط التكليف بالصلاة إلا أنَّه لما كان من المعلوم أنَّ الصلاة لا تسقط بحال لذلك يتعيَّن على المكلف أداؤها وإن كانت فاقدة للشرط.
فلو كان المكلَّف عاجزًا عن الطهارة عن الخبث دون الطهارة من الحدث كما لو كان على وضوء فإنَّه يجب عليه الإتيان بالصلاة حتى وإن كان بدنه متلوثاُ بالخبث، ولو كان عاجزًا عن الطهارة بالماء من الحدث ولم يكن متلوثًا بالخبث فإن وظيفته الإتيان بالصلاة عن تيمم.
أما إذا دار الأمر بين العجز عن الطهارة المائية من الحدث والعجز عن الطهارة من الخبث فهنا يكون الساقط عن عهدته هو أحد الشرطين وذلك لقدرته على أحدهما فهنا يقع البحث عن الشرط الذي يتعيَّن على المكلَّف تحصيله هل هو الطهارة من الخبث دون الطهارة المائية من الحدث أو أنَّ الشرط الذي يتعيَّن عليه تحصيله هو الطهارة المائية من الحدث دون الطهارة من الخبث؟
والمرجع في ذلك هو دليل الشرطين، وحيث إن دليل شرط الطهارة من الخبث مطلق ودليل الطهارة المائية من الحدث مطلق أيضًا بمعنى أنَّ مقتضى دليل الطهارة من الخبث هو لزوم تحصيله مطلقًا سواءً تمكن المكلَّف من الطهارة المائية من الحدث أو لم يتمكن، ومقتضى دليل الطهارة المائية من الحدث هو لزوم تحصيله مطلقًا سواءً تمكن المكلف من الطهارة من الخبث أو لم يتمكن لذلك يقع التعارض بين دليلي الشرطين وحيث لا مرجِّح لأحدهما على الآخر لذلك يسقط كلا الإطلاقين عن الحجيَّة ويكون المرجع هو أصالة البراءة عن تعيَّن تحصيل الشرط الأول والبراءة عن تعيُّن تحصيل الشرط الثاني وعليه يكون مآل الأمر إلى التخيير بين الطهارة من الخبث أو الطهارة المائية من الحدث فإما أن يأتي المكلف بالطهارة من الخبث وبذلك ينتقل إلى التيمم بدلًا من الطهارة المائية من الحدث، وإما أن يختار الطهارة المائية فيغتسل أو يتوضأ ويصلي في الثوب المتنجس.
إلا أنَّه حيث قام الإجماع -أو لا أقل من الشهرة- على أنَّ المتعيَّن في هذا الفرض هو تقديم الطهارة بالماء من الخبث لذلك فالأحوط هو تطهير الثوب بالماء والانتقال للطهارة من الحدث إلى التيمم. والأحوط أنْ يبدأ بصرف الماء في إزالة النجاسة عن الثوب وبعده يتيمم للصلاة فيكون حين التيمم فاقدًا للماء.
هذا حاصل ما أفاده السيد الخوئي (رحمه الله) فيما ينبغي أن يكون الوجه في تقديم الطهارة من الخبث على الطهارة المائية من الحدث([3]).
وخلاصته: أنَّ المقام ليس من صغريات باب التزاحم ليُقال بتقديم الطهارة من الخبث لأنَّه ليس لها بدل على الطهارة المائية من الحدث لكونها ممَّا له بدل بل المقام من صغريات باب التعارض إذ أنَّ التزاحم لا يكون بين شرطين في تكليفٍ واحد أي أنَّ التزاحم لا يكون بين التكاليف الضمنية وإنَّما يكون بين تكليفين نفسيين تضيقُ قدرة المكلَّف عن الجمع بينهما، وعليه فمفروض المسألة من صغريات باب التعارض ومع استحكام التعارض بين إطلاق دليلي الشرطين يسقط الإطلاقان عن الحجيَّة ويكون الأصل الجاري هو البراءة عن التعيين فتكون الوظيفة هي التخيير إلا أنَّه قام الاجماع أو الشهرة على تقديم الطهارة الخبثيَّة والانتقال إلى التيمم للطهارة من الحدث.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
23 / شعبان المعظّم / 1442هـ
6 / أبريل / 2021م
[1]- العروة الوثقى -السيد اليزدي- ج2 / ص179.
[2]- تعليقة على العروة الوثقى -السيد السيستاني- ج1 / ص382.
[3]- التنقيح في شرح العروة الوثقى -السيد الخوئي- ج10 / ص144.