شبهة أنَّ زرارة لم يكن يعلم بإمامة الكاظم (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
لقد مات زرارة وهو لم يكن يعرف أنَّ الإمام بعد الصادق (ع) هو الكاظم، فهو لم يعرف إمام زمانه وصار في حيرة، مما يُدلل على أنَّ دعوى وجود رواياتٍ عن النبيِّ (ص) ومن بعده من الأئمة، فيها أسماء كلِّ الأئمة الاثني عشر، ولكنها متداولة بين الخواص غير صحيحة، فزرارة ثبت أنَّه من الخواص ورغم ذلك لم يكن يعرف من هو الإمام بعد الصادق (ع).
الجواب:
الدعوى التي بُنيت عليها الشبهة ليست ثابتة:
الشبهةُ مبتنيةٌ على دعوى أنَّ زرارة بن أعين -والذي هو من خواصِّ الشيعة وأجلائهم- مات وهو لا يعلم بإمامة الإمام الكاظم (ع) وهذه الدعوى أساسًا لا يُمكن الجزم بل ولا الظن بصحَّتها، وعليه كيف يُبنى عليها والحال أنَّه لا يُمكن التثبُّت من صدقها ومطابقتها للواقع؟!!.
وبيان ذلك: أنَّ منشأ الدعوى هو أنَّ زرارة (رحمه الله) مات -كما قيل- بعد وفاة الإمام الصادق (ع) بمدَّة يسيرة لا تتجاوز الشهرين، وقد بلغهُ وهو في العراق موتُ الإمامِ الصادق (ع) وكان حينذاك مريضًا فبعثَ ابنه عبيدَ بن زرارة إلى المدينة ليتعرَّف له عمَّن هو الإمام بعد الإمام الصادق (ع) هل هو عبد الله الأفطح الابنُ الأكبر للإمام الصادق أو هو أبو الحسن موسى بن جعفر (ع) فذهب عبيدٌ إلى المدينة لهذه الغاية لكنَّه لم يعُد إلا بعد أنْ مات زرارة. هذه هي الدعوى التي بُنيت عليها الشبهة المذكورة.
استعراض ما استُدلَّ به على الدعوى وجوابه:
وعليه فإنَّ أساس الشبهة يسقطُ لو تبيَّن عدم وقوع هذه الحادثة أو حتى الشك في وقوعها أو تبيَّن أنَّها لم تكن بالنحو المدَّعى، ولهذا فالمتعيَّن هو استعراض ما استُدلَّ به على وقوع هذه الحادثة وهو عددٌ من الروايات:
الرواية الأولى: أوردها الكشي في اختيار معرفة الرجال قال: حدَّثني محمد بن قولويه قال: حدَّثني سعد بن عبد الله بن أبي خلف، قال: حدَّثني محمد بن عثمان بن رشيد قال: حدَّثني الحسن بن عليِّ بن يقطين عن أخيه أحمد بن علي عن أبيه علي بن يقطين قال: لمَّا كانت وفاة أبي عبد الله (عليه السلام) قال الناسُ بعبد الله بن جعفر واختلفوا، فقائلٌ قال به وقائلٌ قال بأبي الحسن (عليه السلام) فدعا زرارةُ ابنه عبيدًا فقال: يا بني، الناسُ مختلفون في هذا الامر، فمَن قال بعبد الله فإنَّما ذهب إلى الخبر الذي جاء أنَّ الإمامة في الكبير مِن ولد الامام، فشُدَّ راحلتك وامضِ إلى المدينة حتى تأتيَني بصحَّة الامر، فشدَّ راحلتَه ومضى إلى المدينة واعتلَّ زرارة، فلمَّا حضرته الوفاة سأل عن عبيد فقيل له: لم يقدم فدعا بالمصحف فقال: اللهمَّ إنِّي مصدِّقٌ بما جاء به نبيُّك محمد صلَّى الله عليه وآله فيما أنزلته عليه وبيَّنته لنا على لسانه، وإنِّي مصدِّقٌ بما أنزلته عليه في هذا الجامع، وأنَّ عقيدتي وديني الذي يأتيني به عبيدٌ ابني وما بيَّنته في كتابك، فإنْ أمتني قبل هذا فهذه شهادتي على نفسي وإقراري بما يأتي به عبيدٌ ابني، وأنت الشهيد عليَّ بذلك، فمات زرارة وقدم عبيدٌ وقصدناه لنسلِّم عليه، فسألوه عن الأمر الذي قصده فأخبرهم أنَّ أبا الحسن (عليه السلام) صاحبُهم([1]).
أقول: هذه الرواية وإنْ كانت ظاهرة بدوًا أنَّ زرارة لم يكن يعلم بمَن هو الإمام بعد الإمام الصادق (ع) إلا أنَّه لا يصحُّ الاحتجاج بها لضعفِ سندها، فسندُها مشتملٌ على محمد بن عثمان بن رشيد وهو مجهول، وكذلك هو مشتملٌ على أحمد بن عليِّ بن يقطين وهو أيضاً مجهول، لذلك فهي ساقطة عن الاعتبار.
الرواية الثانية: أوردها أيضاً الكشي في اختيار معرفة الرجال قال: حدَّثني محمد بن مسعود، قال: أخبرنا جبرئيل بن أحمد، قال: حدَّثني محمد بن عيسى، عن يونس، عن إبراهيم المؤمن، عن نضر بن شعيب، عن عمَّةِ زرارة، قالت: لمَّا وقع زرارة واشتدَّ به، قال: ناوليني المصحف، فناولتُه وفتحتُه فوضعتُه على صدره، وأخذه منِّي، ثم قال: يا عمة اشهدي أنْ ليس لي إمامٌ غير هذا الكتاب"([2]).
أقول: وهذه الرواية ضعيفةُ السند أيضًا فإنَّ أكثر رجال سندها من المجاهيل، وهم جبرئيل بن أحمد، وإبراهيم المؤمن، والنضر بن شعيب، وكذلك فإنَّ عمة زرارة مجهولةُ الحال، لذلك فالرواية غير صالحةٍ للاعتماد، على أنَّ مضمونها غيرُ قابلٍ للتصديق، فإنَّ من المستبَعد على زرارة وجلالة قدره أنْ يشهد على نفسِه أنْ ليس له إمام، فإنَّه إنَّما يجهل -بحسب الفرض- بهويَّة الإمام بعد الصادق (ع) لا أنَّ الإمامة قد انقطعت بموت الصادق (ع).
الرواية الثالثة: أوردها كذلك الكشي في اختيار معرفة الرجال قال: حدَّثني حمدويه، قال: حدَّثني يعقوب بن يزيد، قال: حدَّثني عليُّ بن حديد عن جميل بن دراج، قال: ما رأيتُ رجلًا مثل زرارة بن أعين، إنَّا كنا نختلفُ إليه فما كنَّا حوله إلا بمنزله الصبيان في الكتَّاب حول المعلِّم، فلمَّا مضى أبو عبد الله (عليه السلام) وجلس عبدُ الله مجلسه بعث زرارة عُبيدًا ابنه زائرًا عنه ليتعرَّف الخبر ويأتيه بصحَّته، ومرض زرارةُ مرضًا شديدًا قبل أنْ يوافيه ابنُه عبيد، فلمَّا حضرته الوفاة دعا بالمصحف فوضعه على صدره ثم قبَّله. قال جميل: حكى جماعةٌ ممَّن حضره أنَّه قال: اللهمَّ إنِّي ألقاك يوم القيامة وإمامي مَن بينتَ في هذا المصحف إمامتَه، اللهمَّ إنِّي أُحلُّ حلاله وأُحرِّمُ حرامه، وأومنُ بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وخاصِّه وعامِّه، على ذلك أحيى، وعليه أموتُ إنْ شاء الله"([3]).
أقول: هذه الرواية ضعيفة السند أيضًا بعليِّ بن حديد، فهو وإنْ كان من مشايخ ابن أبي عمير وممَّن وقع في أسانيد تفسير عليِّ بن إبراهيم القمِّي إلا أنَّه قد تمَّ تضعيفه صريحًا من قِبل الشيخ الطوسي (رحمه الله) في أكثر من موضع من كتبه، منها ما في كتاب الاستبصار قال في تعليقه على رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن عليِّ بن حديد عن بعض أصحابنا: "فأوَّلُ ما في هذا الخبر أنَّه مرسَل وراويه ضعيف، وهو عليُّ بن حديد، وهذا يُضعف الاحتجاج بخبره"([4]).
وقال في موضعٍ آخر من الكتاب تعليقًا على خبر جميل بن دراج عن زرارة: "وأمَّا خبرُ زرارة فالطريقُ إليه عليُّ بن حديد وهو ضعيفٌ جدًا لا يُعوَّل على ما ينفردُ بنقله"([5]).
وعلَّق على ذات الرواية في كتابه تهذيب الأحكام بقوله: وأمَّا خبرُ زرارة فالطريقُ إليه عليُّ بن حديد، وهو مضعَّف جدا لا يُعوَّلُ على ما ينفرد بنقله"([6]).
فالروايةُ ضعيفة السند بعليِّ بن حديد إمَّا لضعفه لتضعيف الشيخ الطوسي له أو لكونه مجهول الحال نظرًا لتعارض توثيقه -المستفاد من رواية ابن أبي عمير وعليِّ بن إبراهيم عنه- مع تصريح الشيخ بضعفه.
على أنَّ الرواية ليست صريحة في عدم علم زرارة بالإمام بعد الإمام الصادق (ع) فإنَّ غاية ما أفادته الرواية أنَّ زرارة بعث ابنه عبيدًا إلى المدينة "ليتعرَّف الخبر" لكنَّها لم تُبيِّن لنا ما هو الخبر الذي أراد زرارةُ أنْ يتعرَّف عليه، وسيتَّضح من صحيحة الهمداني عن الرضا (ع) أنَّ الخبر الذي أراد أنْ يتعرَّف عليه زرارة هو تكليفه تجاه ما استجدَّ بعد وفاة الإمام الصادق (ع) وهل عليه أنْ يُظهِرَ إمامة الإمام الكاظم (ع) أو أنَّ وظيفته هي التكتُّم رعايةً لمقتضيات التقية.
الرواية الرابعة: أوردها الكشي في اختيار معرفة الرجال قال: حدَّثني محمد بن قولويه، قال: حدَّثني سعدُ بن عبد الله عن الحسن بن علي بن موسى بن جعفر عن أحمد بن هلال عن أبي يحيى الضرير عن درست بن أبي منصور الواسطي، قال: سمعتُ أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إنَّ زرارة شكَّ في إمامتي فاستوهبتُه من ربِّي تعالى([7]).
أقول: هذه الروايةُ ضعيفةٌ أيضًا لاشتمال سندها على الحسن بن عليِّ بن موسى بن جعفر وهو مجهول الحال، ولا ذكر له في كتب الرجال فهو مهمل، والظاهرُ أنَّه لم يرد له ذكرٌ إلا في هذا السند، وكذلك فإنَّ سند الرواية مشتملٌ على أبي يحيى الضرير وهو كذلك مجهولُ الحال.
هذه هي عمدةُ الروايات التي يُستدلُّ بها على أنَّ زرارة لم يكن يعرف بإمامة الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم (ع) وهي كما لاحظتم رواياتٌ ضعيفة السند لا يصحُّ الاحتجاج بها، نعم ثمة رواياتٌ أخرى سيتَّضح أنَّها ليست ظاهرة في أنَّ زرارة كان يجهلُ بإمامة الإمام الكاظم (ع) وأقصى ما يُمكن أنْ تُوصفَ به هو أنَّها مجملة وقابلةٌ للحمل على غير الوجه الذي يرومُ أصحاب الشبهة إثباته.
صحيحة الهمداني تكشفُ عن حقيقة ما وقع:
وكيف كان فهذه الروايات معارَضة بما أورده الشيخُ الصدوق بسندٍ صحيح عن الإمام الرضا(ع)، قال (رحمه الله) في كتابه كمال الدين: حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه، قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدَّثني محمد بن عيسى بن عبيد عن إبراهيم بن محمَّد الهمداني رضي الله عنه قال: قلتُ للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أخبرني عن زرارة، هل كان يَعرفُ حقَّ أبيك؟ فقال (عليه السلام): نعم، فقلتُ له: فلِمَ بعثَ ابنَه عبيدًا ليتعرَّف الخبر إلى مَن أوصى الصادقُ جعفر بن محمد (عليه السلام)؟ فقال: إنَّ زرارة كان يعرفُ أمرَ أبي (عليه السلام) ونصَّ أبيه عليه، وإنَّما بعثَ ابنَه ليتعرَّف من أبي هل يجوزُ له أنْ يرفع التقية في إظهار أمره ونصِّ أبيه عليه، وأنَّه لمَّا أبطأ عنه طُولبَ بإظهار قوله في أبي (عليه السلام) فلمْ يُحِبْ أنْ يقدمَ على ذلك دون أمرِه فرفعَ المصحفَ، وقال: (اللهمَّ إنَّ إمامي مَن أثبت هذا المصحف إمامته من وُلد جعفر بن محمد (عليه السلام)"([8]).
التعليق على صحيحة الهمداني وبيان صلاحيتها لتفسير الروايات:
فهذه الرواية صحيحة السند وهي متصدِّية لشرح حقيقة ما وقع لزرارة فلا يُلتمسُ بعدها أثَرٌ بعد عين، فقد صرَّح الإمام الرضا (ع) فيها بأنَّ زرارة (رحمه الله) كان عارفًا بإمامة الإمام أبي الحسن الكاظم (ع) وأنَّه وصيُّ الإمام الصادق (ع) وأنَّه منصوصٌ عليه من قِبل أبيه (ع) وهو -أي زرارة- إنَّما بعثَ ابنه عبيدًا ليتعرَّف مِن الإمام الكاظم (ع) ما يجب عليه فعلُه من جهة إظهار إمامة الإمام الكاظم (ع) للناس أو أنَّ وظيفته هي التكتُّم على ذلك رعايةً لمقتضيات التقية في ذلك الظرف الحرِج الذي كانت تتربَّص فيه السلطةُ العباسية بوصيٍّ الإمام الصادق (ع) لتصفيته، فكانت تلك هي الغاية التي بعثَ لها زرارةُ ابنه عبيدًا وليس ما توهَّمه البعض، ولم يكن يسع زرارة أنْ يبيِّن للناس ما هي الغاية واقعًا من بعث ابنه عبيدًا للمدينة لأنَّه إنَّما بعثه ليسأل الإمام (ع) عن جواز إظهار إمامته أو عدم جواز ذلك، فلو شرح للناس ما هي الغاية من بعث ابنه لكان ذلك إظهارا لإمامة الإمام الكاظم (ع) الذي يجهل جواز إظهارها وعدم جوازه، فصمتُه وعدم تصدِّيه للبيان والحال أنَّ المنتظَر من مثله وموقعه من التشيع هو الكشف عن هوية الإمام بعد الصادق (ع) هو الذي نشأ عنه أن تذهب الأوهام والظنون يمينًا وشمالًا حول حقيقة ما وقع لزرارة وما هي الغاية من بعث ابنه عبيد للمدينة، وقد كشف الإمام الرضا (ع) عن حقيقة الأمر فلا مسرح بعده للأوهام والظنون التي أرجف بها بعض الناس لغاياتٍ مختلفة.
ومِن ذلك يتَّضح مفاد معتبرة محمد بن عبد الله بن زرارة عن أبيه، قال: بعث زرارةُ عبيدًا ابنه يسألُ عن خبر أبي الحسن (عليه السلام) فجاءه الموتُ قبل رجوع عبيدٍ إليه، فأخذ المصحف فأعلاه فوق رأسه، وقال: إنَّ الامام بعد جعفر بن محمد، مَن اسمه بين الدفتين في جملة القرآن منصوص عليه من الذين أوجب الله طاعتهم على خلقه، أنا مؤمنٌ به. قال: فأخبر بذلك أبو الحسن الأول (عليه السلام) فقال: والله كان زرارة مهاجراً إلى الله تعالى([9]).
فإنَّ الرواية لم تُصرِّح بطبيعة المهمَّة والخبر الذي بعث زرارةُ ابنَه ليسأل عنه، فكما يُحتمل أنَّه بعثه ليتعرَّف على الإمام بعد الصادق (ع) فإنَّه يُحتمل أنَّه بعثه ليسأل عن وظيفته تجاه إظهار إمامة الإمام الكاظم (ع) أو التكتُّم عليها، وحيث صرَّحت صحيحة إبراهيم الهمداني عن الرضا(ع) أنَّ الغاية من بعث زرارة لابنه هو السؤال عمَّا هي وظيفته وهل عليه الإظهار أو التقية لذلك يتعيَّن حمل هذه الرواية على ما تقتضيه وتدلٌّ عيه صحيحة الهمداني.
وكذلك هو الشأن في صحيحة جميل بن دراج قال: وجَّه زرارة عبيدًا ابنه إلى المدينة ليستخبر له خبر أبي الحسن (عليه السلام) وعبد الله بن أبي عبد الله، فمات قبل أنْ يرجع إليه عبيد، قال محمد بن أبي عمير: "حدَّثني محمد بن حكيم، قلتُ لأبي الحسن الأول (عليه السلام) وذكرت له زرارة وتوجيهه ابنه عبيدا إلى المدينة، فقال أبو الحسن: إني لأرجو أنْ يكون زرارة ممَّن قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾([10])"([11]).
فإنَّ الرواية لم تُصرَّح بطبيعة الخبر الذي بعث زرارةُ ابنَه ليستعلم عنه، فيُحتمل أنَّه بعثه ليستعلم عمَّا يجب عليه فعله تجاه مسألة الإمامة بعد الصادق (ع) وهل عليه أنْ يسكت أو أنَّ عليه أن يكشف عن إمامة الكاظم (ع) ويُعلن عن تكذيب عبد الله الأفطح، فيكفي أنْ يكون ذلك محتملًا في مقابل الاحتمال الآخر، وبه تكون صحيحة الهمداني مقتضية لتعيُّن هذا الاحتمال وأنَّ ذلك هو حقيقة الرسالة التي حملها عبيدُ بن زرارة عن أبيه إلى المدينة.
وأمَّا قول الإمام أبو الحسن الكاظم (ع): "إني لأرجو أنْ يكون زرارة ممَّن قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾" فمعناه انِّي أرجو أنْ يحظى زرارة بثواب البيعة لإمام زمانه حيثُ إنَّه مات قبل أن يُعلن البيعة له أي أنَّه أراد القول أنَّ بعث زرارة لابنه كافٍ لأنْ يكون ممَّن وقع أجرُهم على الله تعالى -كما هو صريح معتبرة عبد الله بن زرارة- فهو بمنزلة مَن هاجر إلى الله ورسوله (ص) فأدركه الموت قبل الوصول، فزرارة قد أدركه الموتُ قبل أنْ يعلم بأنَّ وظيفته هي الإعلان عمَّا استُؤمن عليه من إظهار إمامة الإمام الكاظم (ع).
ولا أقلَّ من إجمال الرواية فلا تصلح لمعارضة صحيحة الهمداني الصريحة بل إنَّ صحيحة الهمداني صالحةٌ لتفسير صحيحة جميل بن دراج كما هي صالحة لتفسير معتبرة عبد الله بن زرارة.
عدم ثبوت الدعوى كافٍ لسقوط الشبهة:
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنّه لم يثبت أنَّ زرارة بن أعين (رحمه الله) كان يجهلُ بإمامة الإمام أبي الحسن الكاظم (ع) بعد أبيه الصادق (ع) وبذلك يسقطُ أساس الشبهة المذكورة. وهي أنَّه إذا لم يكن زرارة -وهو المكين عند أبي جعفر الباقر (ع) وأبي عبد الله الصادق (ع)- يعلمُ بإمامة الإمام الكاظم (ع) فكيف يُقال إنَّ أسماء الأئمة (ع) كانت معلومة عند خواصِّ الشيعة؟ فقد تبيَّن ممَّا تقدم أنَّه لم يثبت أنَّ زرارة كان يجهلُ بإمامة الإمام الكاظم (ع) بعد أبيه بل ثبتَ علمُه بالنصِّ والوصيَّة عليه من أبيه الإمام الصادق (ع) كما هو صريح صحيحة الهمداني عن الرضا (ع).
ثم إنَّه كيف يسوغ لعاقلٍ يحترمُ نفسه أنْ يتجاهلَ الروايات التي تفوقُ حدَّ التواتر والتي نصَّت صريحاً على الأئمة الإثني عشر بأسمائهم واحداً تلوَ الآخر، كيف يسوغُ له تجاهُلُ هذا الكم من الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته والمنقولة من طرق الثقاة في كتبنا المعتبرة ويتشبَّث بمثل هذه الشبهة الواهية إلا أنْ يكون مخذولاً، نعوذُ باللهِ من الحَوْر بعد الكوْر.
هذا وقد جمعتُ عدداً وافراً من هذه الروايات في كتابنا "تواتر النصِّ على الأئمة (ع)" فلاحظ
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
26 / شعبان المعظّم / 1442هـ
9 / أبريل / 2021م
[1]- اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص371.
[2]- اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص373.
[3]- اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص372.
[4]- الاستبصار -الطوسي- ج1 / ص40.
[5]- الاستبصار -الطوسي- ج3 / ص95.
[6]- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج7 / ص101.
[7]- اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص372.
[8]- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص75.
[9]- اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص372.
[10]- سورة النساء / 100.
[11]- اختيار معرفة الرجال -الطوسي- ج1 / ص373.