استحقاق العاصي غير المتمرِّد للعقوبة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صل على محمد وآل محمد:
المسألة:
قد يُخالف المتجرِّي بنية الانتهاك لحرمة المولى، والاستخفاف بأمره، أو الجحود لمولويته، وقد يخالف لغلبة الشقوة عليه مع كونه على خوفٍ ووجل من عقابه سبحانه تعالى كما هو مشار إليه في دعاء أبي حمزة الثمالي: (إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخفّ، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ)، فهل يستحقُّ المتجرِّي العقاب في كلتا الحالتين أم لا؟ وهل الروايات تُؤيد العقل في استحقاق المتجرِّي للعقاب أو لا؟
الجواب:
إذا كان نظرك للاصطلاح الأصولي فالتجرّي لا يُطلق على كلا الحالتين المذكورتين، لأنَّ التجرِّي بحسب الاصطلاح الأصولي يعني ارتكاب المكلَّف لعملٍ يقطع بكونه محرماً وهو في الواقع غير محرم، فالمكلَّف في هذا الفرض ليس عاصياً وإنَّما هو متجرِّىء، وقد وقع البحث في أنَّ المتجرِّي بهذا المعنى هل يستحقُّ العقوبة أو لا.
الوجه في عدم استحقاق المتجرِّي للعقوبة:
ذهب جمع من الأصوليين إلى عدم استحقاقه للعقوبة، وذلك لأنَّه لم يرتكب معصيةً واقعاً وإنَّما ارتكب أمراً مباحاً، غايته أنَّه كان يرى أنَّ ما ارتكبه كان معصية إلا أنَّ رؤيته وقطعه لا يُغيِّر من الواقع شيئاً، فلو أنَّ أحداً كان يقطع بأنَّ السائل الذي بيده خمر ورغم ذلك تجرَّأ وشربه وكان هذا السائل في الواقع ماءً أو عصيراً، فما ارتكبه لم يكن معصيةً لذلك لا يستحقُّ هذا المكلف عقوبةً على شربه لهذا السائل وإنْ كان يعتقد أنَّه خمر، وذهب آخرون إلى استحقاق هذا المكلف للعقوبة ولكن ليس لأنَّه ارتكب معصية وإنَّما لانه تجرَّأ على مخالفة المولى جلَّ وعلا وانتهك حرمته.
المرتكب للمعصية استخفافاً وتمرُّداً:
وإذا كان قصدك من المتجرّي هو المرتكب للمعصية الواقعية استخفافاً ودون مبالاة بنهي المولى جلَّ وعلا فهو مستحِقٌّ للعقوبة دون ريب بل هو القدر المتيقن ممَّن يستحقُّ العقوبة من العصاة، فالقدر المتيقَّن ممَّن يستحقُّ العقاب في قوله مثلاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(1) هم من رموا المحصنات دون مبالاةٍ واكتراثٍ بنهي المولى جلَّ وعلا عن ذلك.
استحقاق المرتكب للمعصية عن ضعف للعقوبة:
وأما مَن صدرت منه المعصية نتيجة الشعور بالضعف وعدم القدرة على مقاومة الرغبة النفسيَّة فلا ريب أيضاً في استحقاقه للعقوبة، وذلك لأنَّ جعل العقوبة على المعصية إنَّما كان لغرض ترويض النفس لتكون بذلك قادرةً على مقاومة الرغبات والإغراءات، فلو أنَّ ارتكاب المعصية عن ضعفٍ لا يترتَّب عليه عقوبة لانساق كلُّ إنسان مع رغبات نفسِه ولمَا سعى من أجل ترويضها وتقويتها، إذ لا يخشى بناءً على ذلك أيَّةَ مؤاخذة أو عقوبة، وبذلك لن تجد إلا النزر النادر هو مَن يمتنع عن ارتكاب النواهي الإلهية، وبه ينتفي الغرض من وضع المحرَّمات الشرعية، إذ أنَّ الغرض من وضعها هو امتناع الناس عن اقترافها، وحيث إنَّه لا عقوبة مترتبة على اقترافها لا يجد الإنسان نفسه مُلزماً بمقاومة رغبات نفسه، وحينئذٍ تسود المعصية كلَّ أرجاء الأرض حيث لا رادع يحولُ دون ذلك، فالكثير من الناس وإنْ كانوا يحبُّون الله ويعتقدون بربوبيَّته ولزوم طاعته إلا أنَّهم يضعفون أمام رغبات النفس ومشتهياتها وزخارف الدنيا وزينتها، فلو كان الضعف أمام هذه المُغريات يُبرِّر انتفاء العقوبة لوقع أكثر الناس في كبائر الذنوب وذلك معناه ضياع الغرض الإلهي من جعل المحرَّمات الشرعية وهو الحيلولة دون اقتراف الإنسان لها لما يترتَّب عليها من مفاسد، كما أنْ الغرض من جعلها هو أنْ يتسامى الإنسان على شهواته فلا يكون في مستوى البهيمة التي لا قوَّة لها على مقاومة بواعث النفس وحاجاتها.
لذلك ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى / وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا / فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى / وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى / فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾(2).
فالذي آثر الحياة الدنيا هو مَن انساق مع رغباته وسعى من أجل اشباعها، وليس بالضرورة يكون باعثه على ذلك هو تحدِّي الله جلَّ وعلا ومبارزته بالمعصية، وذلك بقرينة المقابلة مع الآية الأخرى والتي أفادت أنَّ مَن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنَّ الجنَّة هي مأواه ومقرُّه، وعليه يكون مفاد الآية الأولى أنَّ مَن لم ينهَ نفسه عن الهوى وآثر الحياة الدنيا تكون الجحيم هي مأواه ومقرَّه وإنْ لم يكن فيما فعل من ذنوبٍ قاصداً التمرُّد على الله تعالى.
وكذلك قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ / وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ / كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ / وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ / وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا / وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا / كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا / وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا / وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى / يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي / فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ / وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ / يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ / ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾(3).
فالواضح من هذه الآيات المباركات انَّ الباعث على أكل المال المحرَّم والمخالفة للأوامر الإلهية ليس هو قصد التمرُّد على الله تعالى وإنما هو حبُّ المال حباً جماً وهو تعبير آخر عن الضعف أمام الرغبات، ورغم ان المنشأ والباعث على التجاوز لأوامر الله تعالى هو الضعف فإن الله توعَّد من كان كذلك بالعذاب، ثم أثنى على النفس المطمئنة وبشَّرها بدخول الجنة.
ثم إنَّ الكثير من الآيات رتَّبت العقوبة على ارتكاب المعصية تعمداَ بقطع النظر على أنَّ الباعث على ارتكابها هو قصد التمرُّد والتحدِّي لله تعالى أو كان الباعث هو الضعف أمام رغبات النفس بل إنَّ الكثير من الآيات حذّرت من مغبَّة الانسياق مع رغبات النفس والاغترار بزخارف الدنيا وزينتها وأفادت انَّ عاقبة ذلك هو العذاب الإلهي.
الآيات الدالَّة على استحقاق العاصي عن ضعف للعقوبة:
فمن الآيات التي رتَّبت العقوبة على ارتكاب المعصية قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾(4).
فالآية رتَّبت العقوبة على القتل العمدي بقطع النظر عن الباعث للقتل، فقد لا يكون الباعث هو التحدِّي لله تعالى والتمرّد على زواجره بل غالباً ما يكون الباعث على القتل هو الغيظ والغضب أو الانتقام أو الحسد، وكلُّ هذه البواعث واقعة في سياق الضعف النفسي وعدم القدرة على مقاومة الدوافع النفسيَّة.
ومنها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ / وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(5).
ففرار المؤمنين من الزحف في الحرب مع الكفار لا ينشأ غالباً إلا عن الخوف من الموت والرغبة في الحياة ورغم ذلك توَّعد الله عزَّ وجل الفارِّين من الزحف بجهنم وسوء المصير.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ / يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(6).
فاكتناز الذهب والفضة وعدم إخراج الزكاة لا ينشأ غالباً إلا عن شحِّ النفس وحبِّها الشديد للثروة، فليس بالضرورة يكون الباعث على اكتناز المال هو المبارزة لله بالمعصية بل الغالب كما يشهد لذلك الوجدان هو ضعفُ النفس وحبُّها الشديد للمال ورغم ذلك توعَّد الله تعالى مَن كان كذلك بالعذاب الأليم.
ومنها: قوله تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا / وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾(7).
فالواضح من الآية المباركة أن باعث من توعَّده الله عزّ وجل بجهنم هو إرادة العاجلة وهي الدنيا وزينتها.
والآيات في ذلك كثيرة وما ذكرناه كافٍ للتثبُّت من صحَّة ما بيَّناه من أنَّ الاستحقاق للعقوبة ليس منوطاً بقصد التمرّد والتحدِّي لمولويَّة المولى جلَّ وعلا.
وكذلك هو الحال في الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) فإنَّ الكثير منها صريحٌ في ترتيب العقوبة على المعصية بقطع النظر عمَّا هو الباعث لارتكابها، ويكفي للتثبُّت من ذلك ملاحظة الروايات المتصدِّية لبيان عقاب الأعمال.
توجيه ما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي:
وأمَّا ما ورد في الدعاء الشريف فهو لا يعبِّر عن عدم استحقاق العاصي غيرِ المتهاون وغيرِ المستخِفِّ للعقوبة، فالإمام (ع) الذي جعل نفسه في مقام السائل إنَّما أراد أن يجعل من عدم قصد الاستخفاف والتهاون وسيلةً لطلب الصفح، وذلك وحده ظاهرٌ في الاستحقاق للعقوبة، غايته أنَّ السائل أراد أن يتشبَّث بأمر هو في حدَّ ذاته مستحسَن وموجبٌ للعطف لو عُرض على المولى العرفي وهو عدم قصد الاستكبار على المولى والاستخفاف حين مقارفة الذنب.
فالمولى العرفي إذا علم أنَّ عبده يُقرُّ له بالتقصير ويدين له بالطاعة وأن مخالفته لأمره كان ناشئاً عن الطمع في سعة صدر المولى أو ناشئاً عن رغبةٍ جامحة أضعفته عن الالتزام بأمر مولاه فإنَّ ذلك قد يدعو المولى العرفي للشفقة عليه والصفح عن تجاوزه.
وهذا هو ما دفع السائل في هذا الدعاء إلى أنْ يؤكد على أنَّ ما ارتكبه من ذنبٍ إنَّما نشأ عن تسويل النفس وغلبة الهوى والاغترار بحلم المولى وستره المرخى عليه، فهو لم يكن حين اقترافِه للذنب مستكبراً ولا مستخفَّاً بالعقوبة، فهو بذلك يُبرِّأ نفسه من الحالة التي يكون فيها ارتكاب الذنب أدعى لغضب المولى، وهي حالة استشعار التحدِّي حين اقتراف الذنب، فلعلَّ عدم كونه على هذه الحالة حين ارتكاب الذنب يكون شافعاً له.
فهذا هو ما قَصَد الإمامُ (ع) التعبيرَ عنه في هذا الدعاء الشريف، فلا دلالة فيه تماماً على انتفاء الاستحقاق للعقوبة لمجرَّد عدم قصد الاستخفاف والتجرِّي.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة النور / 23.
2- سورة النازعات / 37-41.
3- سورة الفجر / 15-28.
4- سورة النساء / 93.
5- سورة الأنفال / 15-16.
6- سورة التوبة / 34-35.
7- سورة الإسراء / 18-19.