بيتُ المقدس أُولى القبلتين ومَسرَى الرسول (ص)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([1])، ما هو المقصود مِن المسجد الأقصى هل هو بيتُ المقدس أو الكائنُ في بيت المقدس أو هو البيتُ المعمور الكائن في السماء وأنَّ النبيَّ (ص) إنَّما أُسري به إلى المسجد الأقصى الذي في السماء المسمَّى بالبيت المعمور؟

والسؤال الآخر هل لبيت المقدس الكائن في أرض فلسطين فضلٌ خاص أو هو كسائر المساجد؟ فإنَّ البعض ينفي أنَّ له خصوصية وينفي أنَّ الإسراء كان إليه ويقول إنَّ الإسراء كان إلى البيت المعمور فهو المقصود من المسجد الأقصى في الآية؟

الجواب:

أبدأُ بالجواب عن السؤال الثاني والمشتمل على دعوى نفي الفضل والخصوصيَّة عن بيت المقدس الكائن في فلسطين، فإنَّه لا ريب في فساد هذه الدعوى، فإنَّ بيت المقدس هو قبلةُ المسلمين الأولى، فكان رسولُ الله (ص) يُصلِّي إلى جهتها ثلاث عشرة سنة في مكَّة الشريفة وما يزيدُ على السنة بعد هجرته إلى المدينة، فهو أُولى القبلتين، وذلك وحده كافٍ للكشف عمَّا لهذه البقعة المباركة -بقطع النظر عن موقعِها من المدينة الفعلية بالدقة- من فضلٍ وخصوصيَّة عند الله تعالى وعند رسوله (ص) وأنَّها مِن البقاع التي شرَّفها الله تعالى وقدَّسها واختارها.

بيتُ المقدس قبلةُ المسلمين الأولى:

هذا وقد أشار القرآن الكريم إلى قبلة المسلمين الأُولى قبل التحوُّل إلى القبلة الفعليَّة وهي الكعبة الشريفة في العديد من الآيات منها قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾([2]).

وقد ورد في الكثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) ما يُؤكِّد على أنَّ القبلة التي كان عليها هي بيتُ المقدس:

منها: صحيحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سَأَلْتُه هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّه (ص) يُصَلِّي إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أكَانَ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ خَلْفَ ظَهْرِه؟ فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَلَا، وأَمَّا إِذَا هَاجَرَ إلى الْمَدِينَةِ فَنَعَمْ حَتَّى حُوِّلَ إلى الْكَعْبَةِ"([3]).

ومنها: موثقة أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام) -في حديث- قال: قلتُ له: إنَّ الله أمرَه أنْ يُصلِّي إلى بيت المقدس؟ قال: نعم، ألا ترى أنَّ الله يقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ الآية؟ ثم قال: إنَّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلُّوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم: إنَّ نبيَّكم صُرف إلى الكعبة فتحوَّل النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلُّوا صلاةً واحدة إلى قبلتين، فلذلك سُمِّي مسجدُهم مسجد القبلتين"([4]).

ومنها: صحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: كَانَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ التَّمِيمِيُّ الأَنْصَارِيُّ بِالْمَدِينَةِ وكَانَ رَسُولُ اللَّه (ص) بِمَكَّةَ وإِنَّه حَضَرَه الْمَوْتُ، وكَانَ رَسُولُ اللَّه (ص) والْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ .."([5]).

ومنها: ما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه قال: "وصلَّى رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) إلى البيت المقدَّس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرًا بالمدينة، ثم عيَّرته اليهود فقالوا له: إنَّك تابعٌ لقبلتنا فاغتمَّ لذلك غمًّا شديدًا، فلمَّا كان في بعض الليل خرج (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يُقلِّب وجهه في آفاق السماء فلمَّا أصبحَ صلَّى الغداة، فلمَّا صلَّى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال له: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾([6]) الآية، ثم أخذ بيد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) فحوَّل وجهه إلى الكعبة وحوَّل مَن خلفه وجوهُهم حتى قام الرجال مقامَ النساء، والنساءُ مقام الرجال، فكان أول صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، وبلغ الخبر مسجدًا بالمدينة وقد صلَّى أهلُه من العصر ركعتين فحوَّلوا نحو الكعبة، فكانت أوَّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسُمِّي ذلك المسجد مسجد القبلتين، فقال المسلمون: صلاتنا إلى بيت المقدس تضيع يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس"([7]).

ومنها: ما أورده عليُّ بن الحسين المرتضى علم الهدى في (رسالة المحكم والمتشابه) بإسناده الآتي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في أول مبعثِه يُصلِّي إلى بيت المقدس جميع أيام مقامِه بمكة وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر فعيَّرته اليهود، وقالوا: إنَّك تابعٌ لقبلتنا فأحزنَه ذلك فأنزل الله عزَّ وجلَّ -وهو يقلِّبُ وجهَه في السماء وينتظرُ الأمر-: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾([8]).

والروايات في ذلك مستفيضة هذا بقطع النظر عن التسالم بين عموم المسلمين قاطبة على أنَّ قبلة المسلمين الأولى كانت إلى جهة بيت المقدس أعزَّه الله تعالى. وذلك وحده كافٍ لإثبات أنَّ لبيت المقدس فضلًا وخصوصيَّة وأنَّه من البقاع التي شرَّفها الله تعالى وقدَّسها.

رواياتُ أهل البيت (ع) تنصُّ على فضل بيت المقدس:

هذا وقد نصَّت الروايات المستفيضة عن أهل البيت (ع) على فضل هذه البقعة وخصوصيتها وأنَّ الله تعالى قدَّسها واختارها فيما اختاره من بقاع الأرض.

منها: ما أورده الشيخ الصدوق بسندٍ صحيح عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المساجد الأربعة المسجد الحرام، ومسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة، يا أبا حمزة الفريضةُ فيها تعدلُ حجَّة، والنافلةُ فيها تعدل عمرة"([9]).

ومنها: ما أورده أحمد بن محمد بن خالد البرقي في المحاسن بسند معتبر عن السكوني عن جعفر (ع) عن أبيه (ع) عن عليٍّ (عليه السلام)، قال: الصلاة في بيت المقدس ألف صلاة"([10]).

ومنها: ما أورده الشيخ الطوسي بسنده عن السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن عليٍّ (عليه السلام) قال: "صلاة في بيت المقدس تعدلُ ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة، وصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة، وصلاة في مسجد السوق اثنتا عشرة صلاة، وصلاة الرجل في بيته وحده صلاة واحدة"([11]).

قال صاحب الوسائل ورواه الصدوق مرسلا نحوه، ورواه في (ثواب الأعمال) عن أبيه، عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد، عن محمد بن حسان، ورواه البرقي في (المحاسن) عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليٍّ (عليهم السلام) مثله، ورواه الشيخ في (النهاية) عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) ([12]).

ومنها: ما أورده الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده عن علي بن علي أخي دعبل عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: أربعة من قصور الجنَّة في الدنيا: المسجد الحرام، ومسجد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الكوفة"([13]).

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في (معاني الأخبار) بسنده عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): إنَّ الله اختار من البلدان أربعة، فقال: عزَّ وجلَّ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ / وَطُورِ سِينِينَ / وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾([14]) التين: المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين: الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة"([15]).

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق في الخصال حدَّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس رضي الله عنه قال: حدثني أبي قال: حدثني محمد بن أحمد قال: حدثني أبو عبد الله الرازي، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن موسى بن بكر عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): إنَّ الله تبارك وتعالى اختار من كل شيءٍ أربعة: اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (عليهم السلام) .. واختار من البيوتات أربعة: فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾([16]) واختار من البلدان أربعة: فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ / وَطُورِ سِينِينَ / وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة، واختار من النساء أربعا: مريم وآسية وخديجة وفاطمة .."([17]).

ومنها: ما أورده في دعائم الاسلام: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: "الصلاة في المسجد الحرام مائة الف صلاة، والصلاة في مسجد المدينة عشرة آلاف صلاة، والصلاة في مسجد بيت المقدس الف صلاة، والصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة، والصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة، والصلاة في مسجد السوق اثنتا عشرة صلاة وصلاة الرجل وحده في بيته صلاة واحدة"([18]).

ومنها: ما أورده السيد فضل الله الراوندي في النوادر: عن أبي المحاسن، عن أبي عبد الله بن عبد الصمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن المثنى، عن عفان بن مسلم، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى اختار من الكلام أربعًا -إلى أنْ قال: ومن البقاع أربعًا- إلى أنْ قال (عليه السلام)-: وأمَّا خيرته من البقاع فمكة، والمدينة، وبيت المقدس، وفار التنور بالكوفة، وإنَّ الصلاة بمكة بمائة ألف، وبالمدينة بخمس وسبعين ألف صلاة، وببيت المقدس بخمسين ألف صلاة، وبالكوفة بخمس وعشرين ألف صلاة"([19]).

توجيه رواية الكاهلي:

وأمَّا ما أورده الكليني بسنده عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ يَحْيَى الْكَاهِلِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وهُوَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ورَحْمَةُ اللَّه وبَرَكَاتُه، فَرَدَّ عَلَيْه فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَرَدْتُ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى فَأَرَدْتُ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْكَ وأُوَدِّعَكَ فَقَالَ لَه: وأَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِذَلِكَ فَقَالَ: الْفَضْلَ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ: فَبِعْ رَاحِلَتَكَ وكُلْ زَادَكَ وصَلِّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ فِيه حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ والنَّافِلَةَ عُمْرَةٌ مَبْرُورَةٌ .."([20]).

فهذه الرواية -مضافًا إلى عدم صلاحيتها لمعارضة الروايات المستفيضة التي دلَّ مجموعُها أنَّ لبيت المقدس فضلًا وخصوصيَّة- مضافًا إلى ذلك فإنَّها لا تنفي الفضل عن المسجد الأقصى، وغاية ما تُفيده الرواية هو أنَّ الفضل والثواب الذي ترجوه من شدِّ الرحال للصلاة في المسجد الأقصى يُمكن تحصيلُه من الصلاة في مسجد الكوفة، ثم إنَّ هذه الرواية يصلحُ عدُّها ضمن الروايات المستفيضة التي دلَّت على أنَّ المسجد الأقصى هو بيت المقدس، إذ ليس في البين مسجدٌ يُسمَّى بالمسجد الأقصى تُشدُّ الرحال إليه سوى مسجد بيت المقدس.

بيتُ المقدس فيه آياتُ الأنبياء ومحاريبُهم وقبورُهم:

ثم إنَّ ممَّا يمكن الاستدلال به على شرافة بيت المقدس وعظيمِ قدره ما أفادته الرواياتُ من أنَّ فيه محاريبَ الأنبياء وآثارهم وقبورهم، وكذلك شأنه في عصر الظهور

منها: صحيحة أبان بن عثمان عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهم السلام)، قال: لما أسريَ برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق، فأتيا بيتَ المقدس، وعرض عليه محاريبَ الأنبياء، وصلَّى بها .."([21]).

ومنها: ما رواه القمِّي في تفسيره عن الإمام الصادق (ع): ".. قال ثم أدركه جبرائيل بالبراق وأسري به إلى بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وآيات الأنبياء فصلَّى فيها .."([22]).

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "لمَّا مات يعقوب، حمله يوسفُ (عليهما السلام)، في تابوت إلى أرض الشام، فدفنه في بيت المقدس"([23]).

ومنها: صحيحة أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "أول من يبايع القائم عليه السلام جبرئيل ينزل في صورة طير أبيض فيبايعه، ثم يضع رجلا على بيت الله الحرام ورجلا على بيت المقدس ثم ينادي بصوت طلق تسمعه الخلائق ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾" كمال الدين -الصدوق- ص671.

الاستدلال على أنَّ بيت المقدس مَسرَى الرسول (ص) والمسجد الأقصى:

وأمَّا ما هو المراد من المسجد الأقصى في الآية الشريفة فهو بيت المقدس وقد استفاضت في ذلك الروايات عن أهل البيت (ع):

منها: ما أورده عليُّ بن إبراهيم القمِّي بسندٍ صحيح عن هشام بن سالم عند تفسير قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فأخذ واحدٌ باللجام وواحدٌ بالركاب وسوَّى الآخر عليه ثيابه .. ورفعَتْه ارتفاعًا ليس بالكثير ومعه جبرئيل يُريه الآيات من السماء والأرض قال (ص): فبينا أنا في مسيري -إلى أنْ قال (ص)- "فنزل بي جبرئيل، فقال: صلِّ فصليتُ فقال: أتدري أين صليتَ؟ فقلتُ لا، فقال صليتَ بطيبة وإليها مهاجرتك، ثم ركبتُ فمضينا ما شاء الله ثم قال لي: انزل وصلِّ فنزلتُ وصليتُ، فقال لي: أتدري أين صليتَ؟ فقلتُ لا، فقال صليتَ بطور سيناء حيثُ كلَّم اللهُ موسى تكليمًا ثم ركبتُ فمضينا ما شاء الله ثم قال لي: انزل فصلِّ فنزلتُ وصليتُ فقال لي: أتدري أين صليتَ؟ فقلتُ لا، قال: صليتَ في بيت لحْم بناحيةِ بيت المقدس، حيثُ وُلد عيسى بن مريم (عليه السلام) ثم ركبتُ فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فرُبطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطُ بها، فدخلتُ المسجد ومعي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى فيمَن شاء الله من أنبياء الله قد جُمعوا إلي وأقمتُ الصلاة ولا أشكُّ إلا وجبرئيل استقدمنا، فلمَّا استووا أخذ جبرئيل (عليه السلام) بعضدي فقدَّمني فأممتُهم ولا فخر .. قال فصعد جبرئيل وصعدتُ معه إلى سماء الدنيا .."([24]).

أقول: فالمسجدُ الأقصى هو بيتُ المقدس فهو منتهى الإسراء وإليه كانت الغاية والمقصد كما يظهر من قوله (ص): "حتى انتهينا إلى بيت المقدس فرُبطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطُ بها" وفيها التقى بالأنبياء وفيها أمَّهم بالصلاة، ومن بيت المقدس عُرج بالنبيِّ (ص) إلى السماء. فالمسجدُ الحرام هو منطلقُ الإسراء وبيت المقدس هو منطلقُ المعراج.

ومنها: ما أورده الكليني في الكافي بسندٍ صحيح إلى أَبِي حَمْزَةَ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ الثُّمَالِيِّ وأَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) فِي السَّنَةِ الَّتِي كَانَ حَجَّ فِيهَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وكَانَ مَعَه نَافِعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .. قَالَ -نافع-: فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لِنَبِيِّه: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾([25]) مَنِ الَّذِي سَأَلَ مُحَمَّدٌ (ص) وكَانَ بَيْنَه وبَيْنَ عِيسَى خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ قَالَ: فَتَلَا أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) هَذِه الآيَةَ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِه لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَه لِنُرِيَه مِنْ آياتِنا﴾ فَكَانَ مِنَ الآيَاتِ الَّتِي أَرَاهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى مُحَمَّدًا (ص) حَيْثُ أَسْرَى بِه إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ حَشَرَ اللَّه عَزَّ ذِكْرُه الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ ثُمَّ أَمَرَ جَبْرَئِيلَ (ع) فَأَذَّنَ شَفْعًا وأَقَامَ شَفْعًا وقَالَ فِي أَذَانِه: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ ثُمَّ تَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ (ص) فَصَلَّى بِالْقَوْمِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُمْ: عَلَى مَا تَشْهَدُونَ ومَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَنَّكَ رَسُولُ اللَّه أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا فَقَالَ نَافِعٌ: صَدَقْتَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ"([26])، وأورده عليُّ بن إبراهيم القمِّي في تفسيره([27]).

أقول: الإمام (ع) كان بصدد شرح آية الإسراء التي أفادت أنَّ النبيَّ (ص) أُسريَ به إلى المسجد الأقصى، وصرَّح الإمام (ع) أنَّ النبيَّ قد أُسري به إلى بيت المقدس فهو المسجد الأقصى، وفيه حشر اللهُ النبيين (ع) فالتقى بهم النبيُّ (ص) عيانًا وصلَّى بهم ثم استشهدهم فكان ذلك تأويل قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾.

منها: ما أورده الكليني في الكافي بسندٍ موثَّق عَنْ حَدِيدٍ بن حكيم عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه (ص) أَصْبَحَ فَقَعَدَ فَحَدَّثَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالُوا لَه صِفْ لَنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ: فَوَصَفَ لَهُمْ، وإِنَّمَا دَخَلَه لَيْلًا فَاشْتَبَه عَلَيْه النَّعْتُ فَأَتَاه جَبْرَئِيلُ (ع) فَقَالَ: انْظُرْ هَاهُنَا فَنَظَرَ إلى الْبَيْتِ فَوَصَفَه وهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْه، ثُمَّ نَعَتَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ عِيرٍ لَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الشَّامِ ثُمَّ قَالَ: هَذِه عِيرُ بَنِي فُلَانٍ تَقْدَمُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَتَقَدَّمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ أَوْ أَحْمَرُ قَالَ: وبَعَثَ قُرَيْشٌ رَجُلًا عَلَى فَرَسٍ لِيَرُدَّهَا قَالَ: وبَلَغَ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالَ قُرْطَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو يَا لَهْفًا أَلَّا أَكُونَ لَكَ جَذَعًا حِينَ تَزْعُمُ أَنَّكَ أَتَيْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ورَجَعْتَ مِنْ لَيْلَتِكَ"([28]).

أقول: مفاد الرواية أنَّ النبيَّ (ص) أصبح فقعد مع قريش فحدَّثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس الذي سمَّته الآية المسجد الأقصى فطلبت منه قريش أنْ يصف لهم بيت المقدس لمعرفتهم بوصفه، فوصفه لهم ثم زادهم دلالةً صدقه بأنْ نعت لهم القافلة التي لقريش والتي هي في طريقها من الشام إلى مكَّة، وقدَّر لهم وقت وصولها، وهو ما يؤكِّد جليًا أنَّه إنَّما كان يتحدَّث عن إسرائه لبيت المقدس الذي في الشام "فلسطين".

ومنها: ما أورده الخصيبي بسنده عن سيف بن عميرة عن إسحاق بن عمار، قال: قال الصادق (عليه السلام): "لما أُسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) في طريق مرَّ على عيرٍ في مكان من الطريق، فقال لقريش -حين أصبح- يا معاشر قريش إنَّ الله (تبارك وتعالى) قد أسرى بي في هذه الليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى -يعني بيت المقدس- حتى ركبت على البراق، وإنَّ العنان بيد جبريل (عليه السلام) .. فقالوا: يا محمد كذب بعد كذب .. فقال أبو سفيان: يا محمد إنْ كنت صادقًا فإنَّا قد دخلنا الشام ومررنا في طريقنا، فخبرنا عن طريق الشام وما رأينا فيه. فإنا قد رأينا جميع ما ثَمَّ ونحن نعلم أنَّك لم تدخل الشام، فإنْ أنت أعطيتنا علامةً علمنا أنَّك رسول حقٍّ ونبيُّ صدق، فقال: والله لأخبرنَّكم بما رأت عيناي الساعة، رأيتُ عيرًا لك يا أبا سفيان وهي ثلاثة وعشرون جملًا يقدمها أرمك عليه عباءتان قطوانيتان، وفيهما غلامان، أحدهما صبيح والاخر رياح في موضع كذا وكذا، ورأيتُ عيرك يا أبا هشام بن المغيرة في موضع كذا وكذا، وهي ثلاثون بعيرًا يقدمها جملٌ أحمر فيها مماليك أحدهم ميسرة، والآخر سالم، والثالث يزيد، وقد وقع بهم بعيرٌ بمحمله فمررتُ بهم وهم يحملون عليه حِمله، والعير تأتيكم في يوم كذا وكذا وهي ساعة كذا وكذا، ووصفَ لهم جميع ما رأوه في بيت المقدس.

فقال أبو سفيان: أمَّا ما كان في بيت المقدس فقد وصفت جميع ما رأينا، وأمَّا العير فقد ادَّعيت أمرا، فإنْ وافق قولك ما قلتَ لنا، وإلا علمنا أنَّك كذاب، وأنَّ ما تدَّعيه الباطل.

فلمَّا كان ذلك اليوم الذي أخبرهم أنَّ العير تأتيهم خرج أبو سفيان وهشام بن المغيرة حتى ركبا ناقتيهما وتوجَّها يستقبلان العير فرأوها في الموضع الذي وصفه لهما النبيُّ (صلى الله عليه وآله) فسألا غلمانهما عن جميع ما كانوا فيه، فأخبروهما بمثل ما أخبرهم رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلمَّا أقبلا قالا لهما: ما صنعتما؟ قالوا جميعا: لقد رأينا جميع ما قلت، وما يعلم أحد السحر إلا إياك .."([29]).

أقول: وهذه الرواية صريحةٌ أيضًا في أنَّه أسريَ به إلى بيت المقدس الذي في الشام وأنَّه المسجد الأقصى الذي عنته الآيةُ الشريفة.

ومنها: ما أورده الكليني في الكافي بسندٍ حسن بل صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ يَحْيَى الْكَاهِلِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾([30]) قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه (ص) أَتَاه جَبْرَئِيلُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبَهَا فَأَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَلَقِيَ مَنْ لَقِيَ مِنْ إِخْوَانِه مِنَ الأَنْبِيَاءِ (ع) ثُمَّ رَجَعَ فَحَدَّثَ أَصْحَابَه أَنِّي أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ورَجَعْتُ مِنَ اللَّيْلَةِ وقَدْ جَاءَنِي جَبْرَئِيلُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُهَا وآيَةُ ذَلِكَ أَنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ لأَبِي سُفْيَانَ عَلَى مَاءٍ لِبَنِي فُلَانٍ وقَدْ أَضَلُّوا جَمَلًا لَهُمْ أَحْمَرَ وقَدْ هَمَّ الْقَوْمُ فِي طَلَبِه فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّمَا جَاءَ الشَّامَ وهُوَ رَاكِبٌ سَرِيعٌ ولَكِنَّكُمْ قَدْ أَتَيْتُمُ الشَّامَ وعَرَفْتُمُوهَا فَسَلُوه عَنْ أَسْوَاقِهَا وأَبْوَابِهَا وتُجَّارِهَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه: كَيْفَ الشَّامُ وكَيْفَ أَسْوَاقُهَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه (ص) إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَعْرِفُه شَقَّ عَلَيْه حَتَّى يُرَى ذَلِكَ فِي وَجْهِه قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاه جَبْرَئِيلُ (ع) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه هَذِه الشَّامُ قَدْ رُفِعَتْ لَكَ فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّه (ص) فَإِذَا هُوَ بِالشَّامِ بِأَبْوَابِهَا وأَسْوَاقِهَا وتُجَّارِهَا فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الشَّامِ فَقَالُوا لَه: فُلَانٌ وفُلَانٌ فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّه (ص) فِي كُلِّ مَا سَأَلُوه عَنْه فَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وهُوَ قَوْلُ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): نَعُوذُ بِاللَّه أَنْ لَا نُؤْمِنَ بِاللَّه وبِرَسُولِه آمَنَّا بِاللَّه وبِرَسُولِه (ص)"([31]).

أقول: هذه الرواية صريحة أيضًا في أنَّ إسراءه كان إلى بيت المقدس الذي في الشام وفيه التقى بإخوانه من الأنبياء، وقد تصدَّى النبيُّ (ص) للتدليل على صدقه بوصفه لتفاصيل الهيئة التي كانت عليها قافلة قريش العائدة من الشام إلى مكة ووصفه لبيت المقدس الذي كانت قريش تعرف وصفَه لأنَّ تجارها كانوا يرتادونه حين يذهبون بتجارتهم إلى الشام.

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في الأمالي بسندٍ صحيح عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهم السلام)، قال: لما أُسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق، فأتيا بيت المقدس، وعرض عليه محاريب الأنبياء، وصلَّى بها، وردَّه فمرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في رجوعه بعير لقريش، وإذا لهم ماء في آنية، وقد أضلُّوا بعيرًا لهم، وكانوا يطلبونه، فشرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك الماء وأهرق باقيه.

فلمَّا أصبح رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) قال لقريش: إنَّ الله جلَّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم، وإنِّي مررتُ بعيرٍ لقريش في موضع كذا وكذا، وقد أضلوا بعيرًا لهم، فشربتُ من مائهم، وأهرقتُ باقي ذلك. فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه، فسلوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمد، إنَّ هاهنا مَن قد دخل بيت المقدس، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه. فجاء. جبرئيل (عليه السلام) فعلَّق صورة بيت المقدس، تجاه وجهه، فجعل يُخبرهم بما يسألونه عنه، فلمَّا أخبرهم قالوا: حتى تجئ العير ونسألهم عما قلت. فقال لهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): تصديق ذلك أنَّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس، يقدمها جملٌ أورق، فلمَّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة، ويقولون: هذه الشمس تطلع الساعة. فبينما هم كذلك إذ طلعتْ عليهم العيرُ حين طلع القرص يقدمها جمل أورق، فسألوهم عمَّا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالوا: لقد كان هذا، ضلَّ جملٌ لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماء، فأصبحنا وقد أهريق الماء. فلم يزدهم ذلك إلا عتوا"([32]).

أقول: وهذه الرواية صريحةٌ أيضًا أنَّه أسريَ به إلى بيت المقدس الذي سمَّته الآيةُ المسجد الأقصى وصريحةٌ أنَّ بيت المقدس هو الذي في الشام، وقد زاره بعض رجال قريش لذلك طلبوا منه أنْ يصف لهم أساطينه وقناديله ومحاريبه وأنْ يعدَّها لهم، وزادهم رسول الله (ص) بأنْ وصف لهم الهيئة التي كانت عليها قافلة قريش العائدة من الشام إلى مكة.

ومنها: ما أورده علي بن إبراهيم في تفسيره بسندٍ صحيح عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): لمَّا أُسري بي وانتهيت إلى سدرة المنتهى -إلى أن قال-: فإذا ملك يؤذن، لم يُر في السماء قبل تلك الليلة .. ثم أممتُ الملائكة في السماء، كما أممتُ الأنبياء في بيت المقدس .."([33]).

أقول: فهذه الرواية واضحةٌ في أنَّ بيت المقدس الذي أُسريَ به إليه وأمَّ فيه الأنبياء كان في الأرض كما هو مقتضى المقابلة، فمفاد الرواية أنَّه (ص) أمَّ الأنبياء في بيت المقدس وأمَّ الملائكة في السماء.

ومنها: ما أورده قطب الدين الراوندي في الخرائج قال: رُوي عن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه لمَّا كان بعد ثلاث سنين مِن مبعثه (صلَّى الله عليه وآله وسلم) أُسريَ به إلى بيت المقدس، وعُرج به منه إلى السماء ليلة المعراج ..". الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص141.

أقول: هذه الرواية صريحة أنَّ الإسراء كان إلى بيت المقدس الذي سمَّته الآية المسجد الأقصى ومنه عُرج به إلى السماء.

ومنها: ما أورده قطب الدين الراوندي في قصص الأنبياء عن أبي بصير قال: سمعتُ الصادق (عليه السلام) يقول: ".. وقال النبي (صلى الله عليه وآله) أتاني جبرئيل وأنا بمكة فقال: قم يا محمد، فقمتُ معه، وخرجتُ إلى الباب .. فأتى جبرئيل بالبراق .. فقال: اركب فركبتُ ومضيتُ حتى انتهيت إلى بيت المقدس، ولما انتهيتُ إليه إذا الملائكة نزلت من السماء بالبشارة والكرامة من عند ربِّ العزة، وصليتُ في بيت المقدس .. ثم أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة، فأقعدني عليها، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا .. ثم قال: رجعت إلى مكة، فلما أصبحت حدثتُ به الناس، فأكذبني أبو جهل والمشركون، وقال مطعم بن عدي: أتزعم أنك سرتَ مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنَّك كاذب، ثم قالت قريش: أخبرنا عما رأيت، فقال: مررت بعير بني فلان وقد أضلوا بعيرا لهم .." قصص الأنبياء -الراوندي- ص323.

أقول: مفاد الرواية أنَّه (ص) ركب البراق فمضى به إلى بيت المقدس، وهناك صلَّى ثم أخذ جبرئيلُ بيده فأقعده على صخرة بيت المقدس ومنها عُرج به إلى السماء، فلمَّا أخبر قريش بأنَّه قد أُسري به إلى بيت المقدس قالوا إنَّ المسير إلى بيت المقدس يستغرق شهرين فكيف قطعته في ساعة، وهذا يكشف عن أنَّه أخبرهم عن الإسراء به إلى بيت المقدس الذي هو الشام فهو المسجد الأقصى الذي قصدته الآية، ويؤكِّد ذلك أنَّهم سألوه عن العلامة ليختبروا صدقه ولا يمكن أنْ يختبروا صدقه لو كان المسجد الأقصى في السماء وكذلك يؤكِّد أنَّ المسجد الأقصى هو الذي في الشام أنَّه استدلَّ عليهم ببيان ما رآه من أحوال قافلتهم العائدة من الشام.

ومنها: ما أورده السيد ابن طاووس بسنده عن أبي الصباح الكناني عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: أتى رجلٌ أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في مسجد الكوفة قد احتبى بسيفه -فسأله- فقال له عليٌّ صلوات الله عليه: اجلس أُخبرك إنشاء الله، إنَّ الله عزَّ وجل يقول في كتابه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾ فكان من آيات الله عزَّ وجلَّ التي أراها محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه أتاه جبرئيل (عليه السلام) فاحتمله من مكة فوافى به بيت المقدس في ساعة من الليل، ثم أتاه بالبراق فرفعه إلى السماء ثم إلى البيت المعمور .."([34]).

أقول: وهذه الرواية صريحة في الإسراء بالنبيِّ (ص) كان إلى بيت المقدس والذي سمَّته الآية المسجد الأقصى ومنه كان المعراج إلى السماء ثم إلى البيت المعمور.

ومنها: ما أورده الشيخ الطبرسي في الاحتجاج قال: روي عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: إنَّ يهوديًا من يهود الشام وأحبارهم .. قال لعليٍّ (ع): فإنَّ هذا سليمان قد سُخِّرت له الرياح، فسارت به في بلاده غدوُّها شهر ورواحها شهر؟ قال له عليٌّ (عليه السلام): لقد كان كذلك، ومحمدٌ (صلَّى الله عليه وآله) أُعطي ما هو أفضل من هذا: إنَّه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام، في أقلَّ من ثلث ليلة، حتى انتهى إلى ساق العرش، فدنى بالعلم فتدلَّى من الجنَّة رفرف أخضر، وغشى النور بصرَه فرأى عظمة ربِّه عزَّ وجل بفؤاده، ولم يرها بعينه، فكان كقاب قوسين بينه وبينها أو أدنى، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى .."([35]).

أقول: فالإسراء كان إلى المسجد الأقصى كما هو صريح الرواية والعروج كان إلى ملكوت السماوات، والمسافة التي قطعها إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وأمَّا إلى ملكوت السماوات فمسيرة خمسين ألف سنة وقد قطع النبيُّ (ص) كلا المسافتين في أقلَّ من ثلث ليلة.

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق بسنده عن الزهري، قال كنتُ عند عليِّ بن الحسين (عليه السلام) فجاءه رجل من أصحابه، فقال له عليُّ بن الحسين (عليه السلام): ما خبرك، أيُّها الرجل؟ فقال الرجل: خبري -يا بن رسول الله- أنَّي أصبحتُ وعليَّ أربعمائة دينار دين لا قضاء عندي لها -فتأثَّر الإمام (ع) لعدم وجدانه ما يسدُّ به دين الرجل- فقال بعضُ المخالفين وهو يطعن على عليِّ بن الحسين (عليهما السلام): عجبا لهؤلاء يدَّعون مرَّة أنَّ السماء والأرض وكلَّ شيء يُطيعهم، وأنَّ الله لا يردُّهم عن شيء من طلباتهم، ثم يعترفون أخرى بالعجز عن إصلاح حال خواصِّ إخوانهم .. فقال عليُّ بن الحسين (عليهما السلام): هكذا قالت قريش للنبيِّ (صلى الله عليه وآله): كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء من مكة، ويرجع إليها في ليلة واحدة من لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوما؟ وذلك حين هاجر منها، ثم قال عليُّ بن الحسين (عليهما السلام): جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه .."([36]).

أقول: هذه الرواية أيضًا صريحةٌ في أنَّه أسريَ به من مكة إلى بيت المقدس وشاهد فيه آثار الأنبياء.

ومنها: ما أورده القطب الراوندي في الخرائج والجرائح عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لمَّا أُسري به نزل جبرئيل (عليه السلام) بالبراق .. ثم خرج رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) فركب ليلًا، وتوجه نحو بيت المقدس، فاستقبله شيخٌ، فقال جبرئيل (عليه السلام): هذا أبوك إبراهيم. فثنى رجله وهم بالنزول، فقال جبرئيل (عليه السلام): كما أنت. فجمع مَن شاء الله من أنبيائه ببيت المقدس، فأذَّن جبرئيل، فتقدَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلى بهم([37]).

أقول: وهذه الرواية صريحة أيضًا في أنَّه (ص) أُسريَ به إلى بيت المقدس الذي سمَّته الآية الشريفة المسجد الأقصى.

ومنها: ما رواه العياشي في تفسيره عن المفضَّل قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ مسجد الكوفة لقديم؟ فقال: نعم وهو مصلَّى الأنبياء، ولقد صلَّى فيه رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) حيث انطلق به جبرئيل على البراق، فلمَّا انتهى به إلى دار السلام وهو ظهر الكوفة وهو يريد بيت المقدس، قال له: يا محمد هذا مسجد أبيك آدم ومصلى الأنبياء، فأنزل فصل فيه، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلَّى، ثم انطلق به إلى بيت المقدس فصلَّى ثم إنَّ جبرئيل عرج به إلى السماء"([38]).

أقول: وهذه الرواية واضحة في أنَّ المقصد والغاية مِن حمل جبرئيل (ع) النبيَّ (ص) على البراق هو الإسراء به إلى بيت المقدس كما هو مقتضى قوله: "فلمَّا انتهى به إلى دار السلام وهو ظهر الكوفة وهو يُريد بيت المقدس" فالمقصد هو بيت المقدس وفي طريقه إليه مرَّ بظهر الكوفة فنزل وصلَّى فيه ثم انطلق إلى بيت المقدس فهو غاية الإسراء، ومِن بيت المقدس عُرج به إلى السماء.

هذه مجموعة مستفيضة ممَّا وقفتُ عليه من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) أفادت أنَّ النبيَّ (ص) أُسري به من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ومنه عُرج به إلى السماء، وثمة روايات أخرى بذات المضمون أغفلنا ذكرها خشية الإطالة

توجيه رواية الجعفي: 

وفي مقابل ذلك أورد الشيخ علي بن إبراهيم القمي بسنده عن إسماعيل الجعفي قال: كنتُ في المسجد الحرام قاعدًا وأبو جعفر (عليه السلام) في ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرَّة، وإلى الكعبة مرَّة، ثم قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ وكرَّر ذلك ثلاث مرَّات، ثم التفت إليَّ فقال: أيَّ شيء يقولُ أهلُ العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلتُ: يقولون، أُسريَ به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس، فقال: ليس هو كما يقولون، ولكنَّه أُسريَ به من هذه إلى هذه وأشار بيده إلى السماء ..".

أقول: مقتضى الجمع بين هذه الرواية وبين الروايات المستفيضة الدالَّة على الإسراء بالنبيِّ (ص) إلى بيت المقدس وأنَّه المسجد الأقصى مقتضى الجمع هو البناء على أنَّ هذه الرواية لم تكن بصدد نفي الإسراء بالنبيِّ (ص) إلى بيت المقدس بل كانت بصدد نفي ما يتوهَّمه البعض من أنَّ الإسراء به لم يتجاوز بيت المقدس إلى السماء، فالإمام (ع) إنَّما أراد من قوله: "ولكنَّه أُسريَ به من هذه إلى هذه" التأكيد على أنَّ الإسراء الجسدي بالنبيِّ (ص) لم ينتهِ عند حدود بيت المقدس بل امتدَّ وتجاوز ذلك إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى، وهذا هو حاصلُ ما أفاده العلامة الطباطبائي في الميزان([39]).

توجيه رواية الحضرمي والعياشي:

وأمَّا ما أورده السيد ابن طاووس بسنده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتى رجلٌ إلى أمير المؤمنين وهو في مسجد الكوفة وقد احتبى بحمائل سيفه. فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ في القرآن آية قد أفسدت علي ديني وشككتني في ديني! قال: وما ذاك؟ قال: قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ فهل في ذلك الزمان نبيٌّ غير محمد (صلَّى الله عليه وآله) فيسأله عنه؟. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): اجلس أخبرك إنشاء الله، إنَّ الله عزَّ وجل يقول في كتابه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾ فكان من آيات الله التي أريها محمد (صلى الله عليه وآله) أنَّه انتهى جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الأقصى .."([40]).

فهذه الرواية وإنْ أفادت أنَّ البيت المعمور هو المسجد الأقصى إلا أنَّ الملفت أنَّ ذات الحادثة رواها السيد ابن طاووس نفسه بسندٍ آخر عن أبي الصباح الكناني عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: أتى رجلٌ أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في مسجد الكوفة قد احتبى بسيفه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن في القرآن آية قد أفسدت قلبي وشككتني في ديني. قال علي عليه السلام: وما هي؟ قال: قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ هل كان في ذلك الزمان غيره؟ فقال له عليٌّ (عليه السلام): اجلس أخبرك إنشاء الله، إنَّ الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾ فكان من آيات الله عزَّ وجل التي أراها محمدًا (صلى الله عليه وآله) أنه أتاه جبرئيل (عليه السلام) فاحتمله من مكة فوافى به بيت المقدس في ساعة من الليل، ثم أتاه بالبراق فرفعه إلى السماء ثم إلى البيت المعمور ..".

فهذه الرواية التي تحكي عن ذات الحادثة قد اشتملت على التصريح بأنَّ جبرئيل (ع) قد احتمل النبيَّ (ص) فوافى به بيت المقدس في ساعة من الليل، ثم أتاه بالبراق فرفعه إلى السماء ثم إلى البيت المعمور" فإمَّا أن تكون الروايتان الحاكيتان لحادثةٍ واحدة متعارضتين فحينئذٍ لا يمكن الاحتجاج بأيٍّ منهما، وحينئذٍ لا يكون ثمة ما يُمكن التمسُّك به على أنَّ المسجد الأقصى هو البيت المعمور، وأمَّا أنْ يُبنى على أنَّه لا تنافي بين الروايتين وبذلك يثبت أنَّ الرسول (ص) قد أُسريَ به أولًا إلى بيت المقدس ثم عُرج به إلى السماء ثم إلى البيت المعمور كما أفادت الرواية من طريق أبي الصباح الكناني، وأمَّا تسمية البيت المعمور بالمسجد الأقصى التي تفرَّدت بها رواية أبي بكر الحضرمي فالأقرب أنَّه من اشتباه الراوي لمنافاة ذلك مع الروايات المستفيضة التي أفادت أنَّ المسجد الأقصى هو بيت المقدس، ولو سُلِّم جدلًا أنَّ البيت المعمور يُسمَّى أيضًا بالمسجد الأقصى فلابدَّ من البناء على أنَّ المسجد الأقصى الذي عنته الآية هو بيت المقدس -وذلك استنادًا إلى المستفيض من الروايات- فيكون مفاد الرواية هو أنَّ النبيَّ (ص) قد أُسري به إلى المسجد الأقصى الذي في الأرض ثم عُرج به إلى المسجد الأقصى الذي في السماء والذي هو البيت المعمور.

وعلى أيِّ تقدير فإنَّه لا يُمكن طرح الروايات التي أفادت أنَّ المسجد الأقصى هو بيت المقدس وذلك لتجاوزها حدَّ الاستفاضة وصحة أسناد الكثير منها، وعليه لابدَّ من تأويل رواية أبي بكر الحضرمي أو ردِّ علمها إلى أهلها. وهكذا هو الشأن في مرسلة العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألتُه عن المساجد التي لها الفضل، فقال: "المسجد الحرام، ومسجد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)" قلتُ: والمسجد الأقصى جعلت فداك؟ فقال: "ذاك في السماء إليه أسري رسول الله (صلى الله عليه وآله)" فقلت: إنَّ الناس يقولون إنَّه بيت المقدس، فقال: "مسجد الكوفة أفضل منه"([41]).

فإنَّه لضعف سندها بالإرسال لا يصحُّ الاستناد إليها في مقابل المستفيض من الروايات التي دلَّت على أنَّ المسجد الأقصى الذي أُسري بالنبيِّ (ص) إليه هو بيت المقدس على أنَّه لا محذور من الالتزام بأنَّ النبيَّ (ص) قد أُسري به إلى المسجد الأقصى الذي في الأرض وهو بيت المقدس ثم أُسريَ به إلى المسجد الأقصى الذي في السماء جمعًا بين هذه المرسلة وبين المستفيض من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع).

مسجد بيت المقدس بناه الأمويُّون!!

وأمَّا ما يقال من أنَّ مسجد بيت المقدس الموجود فعلًا قد بناه عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي فجوابه أنَّ القدسية إنَّما هي للبقعة التي أُسريَ بالنبيِّ (ص) إليها بقطع النظر عن تحديد موقعها بالدقة ثم إنَّه لا خصوصيَّة للبناء والذي يتجدَّد بتقادم الزمن، فإنَّ الكعبة الشريفة قد بناها المشركون بعد انتقاض بنائها، وبناها الحجاجُ بن يوسف الثقفي بعد انتقاض بنائها بفعل الحرب التي وقعتْ بينه وبين عبد الله بن الزبير، فهل بناءُ الحجاج للكعبة الشريفة ينفي عنها القدسيَّة التي جعلها الله تعالى لها؟!

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

12 / شوال المكرّم / 1442

25 / مايو / 2021


[1]- سورة الإسراء / 1.

[2]- سورة البقرة / 143.

[3]-الكافي -الكليني- ج3 / ص286.

[4]- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج4 / ص297-298.

[5]- الكافي -الكليني- ج3 / ص255.

[6]- سورة البقرة / 144.

[7]- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج1 / ص276.

[8]- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج4 / ص300.

[9]- وسائل الشيعة -الحرُّ العاملي- ج5 / ص289.

[10]- المحاسن -البرقي- ج1 / ص55.

[11]- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج3 / ص253.

[12]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج5 / ص290.

[13]- الأمالي -الطوسي- ص369، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج3 / ص545.

[14]- سورة التين / 1-3.

[15]- معاني الأخبار -الصدوق- ص365.

[16]- سورة آل عمران / 33.

[17]- الخصال -الصدوق- ص225.

[18]- دعائم الإسلام -القاضي النعمان- ج1 / ص148.

[19]- النوادر -الراوندي- ص261.

[20]- الكافي -الكليني- ج3 / ص491.

[21]- الأمالي -الصدوق- ص533.

[22]- تفسير القمي -القمي- ج2 / ص13.

[23]- المستدرك -النوري- ج2 / ص310.

[24]- تفسير القمي -القمي- ج2 / ص4.

[25]- سورة الزخرف / 45.

[26]- الكافي -الكليني- ج8 / ص121.

[27]- تفسير القمي -القمي- ج1 / ص232.

[28]- الكافي -الكليني- ج8 / ص262.

[29]- البرهان في تفسير القرآن -التوبلاني- ج3 / ص495.

[30]- سورة يونس / 101.

[31]- الكافي -الكليني- ج8 / ص364.

[32]- الأمالي -الصدوق- ص533.

[33]- تفسير القمي -القمي- ج2 / ص12.

[34]- اليقين -السيد ابن طاووس- ص405.

[35]- الاحتجاج -الطبرسي- ج1 / ص327.

[36]- الأمالي -الطوسي- ص539.

[37]- الخرائج والجرائح -قطب الدين الراوندي- ج1 / ص84.

[38]- تفسير العياشي -العياشي- ج2 / ص146.

[39]- تفسير الميزان -السيد الطباطبائي- ج13 / ص20.

[40]- اليقين -السيد ابن طاووس- ص295.

[41]- تفسير العياشي -العياشي- ج2 / ص279.