مشاهدات النبيِّ (ص) للمعذَّبين ليلة الإسراء

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

السلام عليكم سماحة الشيخ الجليل

البعض ينفي ويُكذِّب ما جاء في بعض الروايات من أنَّ النبيَّ الكريم (ص) رأى ليلة أُسريَ به وعُرج به إلى السماء أنَّ نساءً يعذبن بكيفيَّة معينة .. فيقول إنَّ هذه الرواية مكذوبة لأنَّه لم تقم القيامة أصلًا؟

الجواب:

إنَّ هذا المعنى ورد في العديد من الروايات، وفيها ما هو معتبرٌ سندًا كصحيحة الشيخ عليُّ بن إبراهيم القمِّي التي أوردها في تفسيره عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن محمد بن عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبُراق إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) -إلى أن قال- ثم مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ لهم مشافر كمشافر الإبل يُقرض اللَّحم من جنوبهم ويُلقى في أفواههم، فقلتُ من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال هؤلاء الهمَّازون اللمَّازون، ثم مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ تُرضَخ رؤوسُهم بالصخر، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء، ثم مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ تُقذفُ النارُ في أفواههم وتخرج من أدبارهم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنَّما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرا، ثم مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ يُريد أحدُهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنِه، فقلتُ: من هؤلاءِ يا جبرئيل؟ قال هؤلاءٍ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المسِّ فإذا هم مثل آل فرعون يُعرضون على النار غدوَّا وعشيًا يقولون: ربَّنا متى تقوم الساعة؟ قال: ثم مضيتٌ فإذا أنا بنسوانٍ معلَّقات بثديهن، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال هؤلاء اللواتي يُورثن أموال أزواجهنَّ أولاد غيرهم، ثم قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): اشتدَّ غضبُ الله على امرأةٍ أدخلت على قوم في نسبِهم مَن ليس منهم فاطَّلع على عوراتِهم وأكل خزائنهم .."([1]).

ومنها: ما أورد الشيخُ الصدوق في كتابه عيون أخبار الرضا (ع) قال: حدثنا علي بن عبد الله الوراق (رضي الله عنه) قال حدَّثنا محمد ابن أبي عبد الله الكوفي عن سهل بن زياد الآدمي عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن محمد بن عليٍّ الرضا (ع) عن أبيه الرضا (ع) عن أبيه موسى بن جعفر (ع) عن أبيه جعفر بن محمد (ع) عن أبيه محمد بن عليٍّ (ع) عن أبيه عليِّ بن الحسين (ع) عن أبيه الحسين بن عليٍّ (ع) عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: دخلت أنا وفاطمة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) .. فقال: يا علي ليلة أُسري بي إلى السماء رأيتُ نساءً من أمتي في عذابٍ شديد فأنكرتُ شأنهنَّ فبكيتُ لِمَا رأيتُ من شدَّة عذابهن، ورأيتُ امرأةً معلَّقة بشعرها يغلي دماغُ رأسها .. ورأيتُ امرأةً قد شُدَّ رجلاها إلى يديها وقد سُلِّط عليها الحيَّات والعقارب، ورأيتُ امرأةً صمَّاء عمياء خرساء في تابوت من نار يخرج دماغ رأسها من منخرها وبدنها متقطعٌ من الجذام والبرص، ورأيتُ امرأة معلَّقة برجليها في تنور من نار، ورأيتُ امرأةً تقطع لحم جسدها من مقدمها ومؤخرها بمقاريض من نار، ورأيتُ امرأةً يحرق وجهُها ويداها وهي تأكل أمعاءها، ورأيتُ امرأة رأسها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار وعليها ألف ألف لون من العذاب .. فقالتْ فاطمة (عليها السلام) حبيبي وقرة عيني أخبرني ما كان عملهنَّ وسيرتهن حتى وضع اللهُ عليهنَّ هذا العذاب، فقال يا بنيتي، أمَّا المعلَّقة بشعرها فإنَّها كانت لا تغطي شعرها من الرجال .. وأما التي شُدَّ يداها إلى رجليها وسُلِّط عليها الحيَّات والعقارب فإنَّها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب، وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض، ولا تتنظف وكانت تستهينُ بالصلاة، وأمَّا الصمَّاء العمياء الخرساء فإنَّها كانت تلدُ من الزنا فتعلِّقه في عُنق زوجها، وأمَّا التي كانت تقرض لحمها بالمقاريض فإنَّها كانت تعرض نفسها على الرجال، وأمَّا التي كانت تحرقُ وجهها وبدنها وهي تأكل أمعاءها فإنَّها كانت قوادة، وأمَّا التي كان رأسُها رأس الخنزير وبدنها بدن الحمار فإنَّها كانت نمَّامة كذابة .."([2]).

وهذه الرواية ليس في سندها إشكالٌ إلا من جهة سهل بن زياد، ولا بأس به على الصحيح، فهي معتبرة، ومع عدم القبول بوثاقته فالرواية صالحة لتأييد صحيحة هشام بن سالم المتقدمة.

متى يصحُّ وصفُ الرواية بالمكذوبة:

وعلى أيِّ تقديرٍ لا يصحُّ وصفُ أيِّ روايةٍ بالمكذوبة وإنْ كانت ضعيفة السند ما لم تكن منافية لصريح القرآن الكريم أو السنَة القطعيَّة أو منافية لأصلٍ من أصول العقيدة أو منافية للدليل العقليِّ القطعي دون الظنِّي أو لحقيقةٍ من الحقائق القطعيَّة، ففي مثل هذه الفروض يصحُّ وصف الرواية بالمكذوبة حتى لو كانت صحيحة السند فضلًا عمَّا لو كانت ضعيفة السند، وأمَّا فيما عدا ذلك فلا يصحُّ وصف الرواية بالمكذوبة وإنْ كانت ضعيفة السند، نعم في فرض ضعف سندها وعدم احتفافها بالقرائن الموجبة للوثوق بصدورها تكون ساقطة عن الاعتبار والحجِّية، ولا ملازمة بين كون الرواية ساقطة عن الاعتبار وبين كونها مكذوبة كما هو واضح.

وأمَّا الاستشكال بأنَّ القيامة لم تقم فكيف شاهد النبيُّ الكريم (ص) ليلةَ الإسراء أصنافَ العصاة وهم يُعذَّبون؟

فجوابه أنَّ إيقاع العذاب على العصاة لا يختصُّ بيوم القيامة فقد ثبت بالروايات المتواترة أنَّ ثمة مِن العصاة مَن يُعذّبون في عالم البرزخ ويمتدُّ عذابُهم إلى أمدٍ ثم يُخلَّى عنهم ويُتركون حتى تقوم الساعة، وثمة مَن يمتدُّ عذابُهم إلى قيام الساعة، وكذلك فإنَّ ثمة من يُنعَّمون عند ربِّهم في عالم البرزخ إلى قيام الساعة كالشهداء كما نصَّ على ذلك القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾([3]) فالآياتُ صريحةٌ في أنَّهم أحياءٌ وأنَّهم يُرزقون، وأنَّهم مستبشرون بنعمة الله وفضلِه عليهم، والحال أنَّ الساعة لم تقُم بعدُ، فهم في النشأة التي تَلي عالم الدنيا والمعبَّر عنها بعالم البرزخ.

وهكذا فإنَّ القرآن تحدَّث عمَّا يلقاه آلُ فرعون من العذاب في عالم البرزخ، قال تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾([4]) فهم يُعرَضون على النار غدوًّا وعشيًّا ويظلُّون على تلك الحال إلى أنْ تقوم الساعة، فإذا قامت الساعة أُمَر بهم فأدخلوا أشدَّ العذاب، فسوءُ العذاب الذي يحيق بآل فرعون قبل قيام الساعة إنَّما هو في عالم البرزخ، فهم قد غادروا الدنيا قبل آلاف السنين والقيامة بعدُ لم تقُم ورغم ذلك يتحدَّثُ القرآن عن أنَّهم يُعرَضون على النار غدوًّا وعشيًا إلى قيام الساعة.

فالعصاةُ الذين شاهدهم رسولُ الله (ص) يُعذَّبون ليلة الإسراء إنَّما كانوا يُعذَّبون بعذاب البرزخ، ولهذا لا يصحُّ الإشكال على مفاد الروايات المتصدِّية لبيان مشاهدات الرسول (ص) بدعوى أنَّ القيامة لم تقم، والذي يُؤكِّد أنَّ هذه الروايات كانت تتحدَّث عن صنوف العذاب الذي يتلقَّاه العصاة في عالم البرزخ ما تقدَّم نقله من صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) فقد ورد فيها قوله (ص): "ثم مضيتُ فإذا أنا بأقوامٍ يُريد أحدُهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنِه -إلى قوله (ص)- فإذا هم مثل آل فرعون يُعرضون على النار غدوَّا وعشيًا يقولون ربَّنا متى تقوم الساعة" فهي صريحة أنَّ العذاب الذي يتلقَّاه العصاة الذين شاهدهم رسول الله (ص) ليلة الإسراء هو عذاب البرزخ الذي يسبق عذاب الآخرة بقرينة تنظيره بما يلقاه آل فرعون والذين نصَّ القرآن على أنَّهم يعذبون بسوء العذاب قبل قيام الساعة أي في عالم البرزخ.

إشكالٌ وجواب:

قد يقال إنَّ العذاب الذي يتلقاه العصاة والكفار في عالم البرزخ إنَّما يقع على أرواحهم دون أبدانهم.

فجوابه: أنَّ الأمر وإن كان كذلك إلا أنَّ الروايات المستفيضة دلَّت على أنَّ الأرواح تُصيَّر -في عالم البرزخ- في أبدانٍ برزخيَّة تُشبه في صورتها الأبدان التي كانت لهم في الدنيا حتى أنَّ الرائي لو رأى الميِّت الذي كان يعرفه في الدنيا لقال هذا فلان كما في صحيحة أبي بصير قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن أرواح المؤمنين؟ فقال: في الجنَّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلتَ فلان"([5])، وكما في صحيحة أَبِي وَلَّادٍ الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قال: "ولَكِنْ فِي أَبْدَانٍ كَأَبْدَانِهِمْ"([6])، وكما في رواية يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (ع): ".. فَإِذَا قَبَضَه اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ صَيَّرَ تِلْكَ الرُّوحَ فِي قَالَبٍ كَقَالَبِه فِي الدُّنْيَا .. فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْقَادِمُ عَرَفُوه بِتِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا"([7]).

إذن فالعصاةُ والمؤمنون يُعذَّبون وينعَّمون في إطار تلك الأبدان البرزخيَّة، فنحن وإنْ لم نكن نُدرك كُنهَ وطبيعة هذه الأبدان البرزخيَّة لكونها من مكنون الغيب إلا أنَّه لا يسعُنا إلا التسليم بما أخبر عنَّه النبيُّ (ص) وأهل بيته (ع) الذين أطلعهم الله تعالى على الغيب.

فأيُّ محذورٍ في أنَّ النار التي شاهدَ النبيُّ (ص) العصاةَ وهم يُعذَّبون بها كانت برزخية؟ أي مناسبة لتلك النشأة، وأيُّ محذورٍ في أنْ تكون الصخرة التي يُرضخ بها المرابون كانت برزخيَّة؟ وأنَّ الحيَّات والعقارب المسلَّطة على المستخفة بالطهارة والصلاة كانت برزخيَّة.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

27 / شوّال المكرّم / 1442هـ

9 / يونيو / 2021م


[1]- تفسير القمي ج2 / ص3، 7.

[2]- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج2 / ص13، 14، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص213.

[3]- سورة آل عمران / 169-171.

[4]- سورة غافر / 45-46.

[5]- تهذيب الأحكام -الطوسي- ج1 / ص466.

[6]- الكافي -الكليني- ج3 / ص244.

[7]- الكافي -الكليني- ج3 / ص245.