معنى قوله (ع): "يا صريع الدمعةِ الساكبة"
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما معنى ما ورد في الزيارة المأثورة: "السلامُ عليكَ يا صريعَ الدمعةِ الساكبة، السلامُ عليكَ يا صاحبَ المصيبةِ الراتبة"؟
الجواب:
المدلول اللُّغوي لمادَّة سكَب:
الدمعة الساكبة: بمعنى المسكوبة فاستُعمل اسم الفاعل -ساكب- وأُريد منه اسم المفعول -مسكوب- كما في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾([1]) أي المحفورة، وقوله تعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾([2]) أي مرضيَّة.
والسكب: يعني الصب والانصباب، يقال ماءٌ مسكوب بمعنى مصبوب، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ / فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ / وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ / وَظِلٍّ مَمْدُودٍ / وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ﴾([3]) ولا يُوصف الماءُ بالمسكوب إلا أنْ يكون جارياً -من طرفٍ إلى آخر- غزيراً منحدراً من أعلى، وقد يُوصف الماءُ بالمسكوب للتعبير عن استمراره في الجريان دون انقطاع كما في الآية الشريفة، وكذلك يُوصف الماءُ بالمسكوب حين يمتدُّ انصبابه طويلاً، ولذلك تُوصف حالة المطر حين يمتدُّ هطولُه طويلاً بالسكب، فيُقال: هطلَ المطر سكباً وتسكاباً.
وكما يُوصف الماءُ بالمسكوب كذلك يُوصف الدمعُ بالمسكوب حين ينحدرُ من المُقلتين بغزارةٍ بحيث لا يكادُ يرقى أي ينقطع. فدمعةٌ ساكبة يعني مسكوبة ومصبوبة تنحدر بغزارة، ولا تكون كذلك إلا حين يبلغُ الحزنُ والحنين بالإنسان مبلغاً عظيماً.
المعاني المتصوَّرة من إضافة صريع للدمعة الساكبة:
وأمَّا معنى قوله(ع): "يا صريع الدمعة الساكبة": فالظاهر أنَّه من إضافة الموصوف إلى صفته، والتقديرُ يا صريعاً يستدرُّ الدمعةَ الساكبة، فجملةُ "يستدرُّ الدمعة الساكبة" في محلِّ صفة للمنادى، وإسناد "الدمعة الساكبة" إليه نشأ عن كونه سبباً لانهمالِها، وفي ذلك تعبيرٌ عن عمقِ المأساة التي وقعت عليه بحيث لا يقفُ عليها من أحدٍ سويٍّ إلا وجد عينيه تذرفان بالدمع دون تلبُّثٍ أو تروٍّ، فلا يحولُ دون جريانهما وقارٌ أو احتشام. فكأنَّ الإمام (ع) أراد القول إنَّ العلاقة بين الحسين (ع) وبين الدموع تلقائية، وذلك هو ما صحَّح إضافة الدمعة الساكبة إليه دون سواه، فغيرُه قد تُذرَفُ لأجلِه الدموع ولكنَّ العلاقة بينهما تكون عارضة وآنيَّة، فما أسرعَ أنْ لا تجد النفسُ باعثاً على البكاء عند ذكره وخطوره في الذهن، وأمَّا الحسين (ع) فذكراهُ أبداً تستفزُّ النفس وتقسرُها على الأسى فيستجيبُ لها الدمع. ولعلَّ ذلك هو معنى قوله (ع): "أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمنٌ الا بكى"([4]).
وقد يكون المراد من قوله (ع): "يا صريع الدمعة الساكبة": هو يا صريعاً اقترنَ اسمُه أو اقترنَ ذكرُه بالدمعة الساكبة، فلأنَّ هذه الخصوصيَّة لم تتَّفق لأحدٍ على امتداد الزمن -رغم تنوُّع المآسي التي سبقت ولحِقت مأساةَ الحسين (ع)- لذلك صحَّ أنْ تُضاف الدمعة الساكبة إليه دون سواه، فغيرُه قد تُسكب عليه الدموع ولكنَّ ذلك لا يمكث طويلاً فما أسرع أنْ ينطويَ ذكرُه أو تخبو جذوةُ الحزنِ عليه فيحتفظ بالذكر الجميل دون أنْ تجدَ النفسُ ما يبعثُها على البكاء عند ذكره، وأمَّا الحسين الشهيد (ع) فبين ذكره وبين البكاء عليه اقترانٌ وثيق يتجدَّدُ بتجدُّد الزمن. لذلك فهو أليقُ مَن عرفَه الدهر بوسام قتيل العبرات وصريعِ الدمعةِ الساكبة.
وقد يكون المراد من قوله (ع) "يا صريعَ الدمعة الساكبة": يا صريعاً يستحقُّ الدمعة الساكبة أو يا صريعاً جديراً وحقيقاً بالدمعة الساكبة، ويكون المرادُ من الساكبة هو: المتجدِّدة والمتعاقبة بتعاقب الزمن، فغيرُه قد يكون جديراً بأنْ تبكيه العيون وتَذرفُ عليه وفاءً بحقِّه ولكن لا يكون من اللائق أنْ يمتدَّ بكاؤها طويلاً، وأمَّا الحسين (ع) فهو لائقٌ بالدمعة الساكبة المتجدِّدة والعابرة للزمن، ولعلَّ هذا هو معنى ما ورد عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "إنَّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المؤمنين لا تبردُ أبدا"([5])، وكذلك ما ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع): "إنَّ البكاء والجزع مكروهٌ للعبد في كلِّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي (ع)، فإنَّه فيه مأجور"([6])، فالبكاءُ حين يطولُ أمدُه أو يعملُ المُصاب على تجديده يكون من الجزع وهو مكروه، وأمَّا على الحسين (ع) فهو محمود وفاعلُه مأجور، ذلك لأنَّ العناية الإلهيَّة قد قضت بأنْ تظلَّ مأساةُ الحسين (ع) حاضرةً في الوجدان لبليغ أثرِها في إحياء القِيَم وسجايا الخير ونبذ الشرور ومناهضة البغي.
معنى فقرة ياصاحب المصيبة الراتبة:
وأمَّا معنى "الراتبة" في قوله (ع) "السلامُ عليكَ يا صاحبَ المصيبةِ الراتبة": فهو الثابتة التي لا انقطاع لها من الرتوب بمعنى الثبوت والدوام، يقال: رَتَبَ الشيءُ يَرْتُبُ رتُوباً، وتَرَتَّبَ بمعنى ثبت فلم يتحرّك، ويقال: عَيْشٌ راتِبٌ أي ثابِتٌ دائمٌ، وأَمْرٌ راتِبٌ أَي دارٌّ ثابِت، ويُقال: ما زِلْتُ على هذا راتِباً أَي مُقيماً([7]).
وعليه فمعنى المصيبة الراتبة هي المصيبة التي لا يخبو أبدَ الدهرِ وهجُها بل تظلُّ -رغم تعاقُب العصور- تُلهِبُ المشاعر، وتبعثُ على الأسى والحزن، وتستنهضُ الهِمَم، وتُرشِدُ إلى طريق الكرامة والعزَّة، وتُضيء للباحثين عن الخَلاص سبيلَ الخَلاص، وللباحثين عن الهدى سبيلَ الهدى، وتُخاطبُ الخانعين أنَّه لا يليقُ بكمُ الخنوع، والغافلين أنَّ الغفلة شأنُ السَوَام، والبائسين أنَّ البؤسَ ليس قدراً محتوماً، وتُلهمُ الدعاة أنَّ الصبر على الأذى وإنْ تعاظمَ وتَطاوَلَ به الأمد يُثمِرُ النجاح، ومَن كانت غايته رضوانَ الله تعالى لا يكون في الخاسرين بل سعادتُه محتومة، كذلك أراد اللهُ تعالى لمصيبةِ الحسين (ع) أنْ تفعل في وعي الأجيال وكذلك فعلتْ.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
26 / ذو الحجة / 1442هـ
6 / أغسطس / 2021م
[1]- سورة النازعات / 10.
[2]- سورة القارعة / 7.
[3]- سورة القارعة / 27-31.
[4]- كامل الزيارات -جعفر بن محمد بن قولويه- ص216، مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج10 / ص311.
[5]- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج10 / ص318.
[6]- كامل الزيارات -جعفر بن محمد بن قولويه- ص201، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج14 / ص507.
[7]- راجع لسان العرب -ابن منظور- ج1 / ص410.