لماذا لم يَفتِك مسلمٌ بابن زياد في دار هاني؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
لماذا لم يفتك مسلم بن عقيل رضوان الله عليه بعُبيد الله بن زياد وقد أمكنته الفرصة حين جاء إلى دار هاني بن عروة لعيادة شريك بن الأعور؟
الجواب:
تقرير الخبر والاشارة إلى اضطراب تفاصيله
محصَّل الخبر المُشار إليه في السؤال أنَّ شريك بن الأعور الحارثي -وكان من كبار الشيعة ومن وجهاء البصرة- نزل في دار هاني بن عروة، وتزامنَ نزولُه مع نزول مسلم بن عقيل في دار هاني، فاتَّفق أنْ مرض شريك -حيث كان شيخاً كبيراً شارك مع عليٍّ (ع) في حربي الجمل وصفين- فسمع عُبيدُ الله بن زياد بمرضِه فبعث إلى هاني أنَّه سيزورُه بعد صلاة العشاء، فقال شريكٌ لمسلم: هذه فرصةٌ سانحة، إنَّ هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فاقتله، وعندها يتهيأ لك الاستيلاء على قصر الأمارة، وتدينُ لك الكوفة، وإذا عُوفيتُ من مرضي سرتُ إلى البصرة وكفيتُك أمرها.
فدخل مسلمٌ في خزانةٍ أو نحو ذلك وجاء ابنُ زياد ولم يكن معه سوى حاجبه، فجلس على فراش شريك وتحدَّث معه قرابة الساعة، وأخذ شريكٌ يطلب الماء في إشارةٍ منه لمسلم بالخروج لاغتيال ابن زياد ولكنَّ مسلمَ بن عقيل لم يفعل إلى أنْ خرج ابنُ زياد من دار هاني، فقال شريك لمسلم: ما منعَك مِن قتله؟ فقال: خصلتان، أمَّا إحداهما فكراهيَّة هانئ أنْ يُقتل في داره، وأمَّا الأخرى فحديثٌ حدَّثنيه الناس عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله: "إنَّ الإيمان قيدَ الفتك، فلا يفتِك مؤمن" فقال له شريك: أما واللهِ لو قتلتَه لقتلتَ فاسقاً فاجراً كافراً غادراً".
هذا هو محصَّل ما ذكرته بعض المصادر، وثمة تفاصيل أُخرى مختلفة بل ومضطربة ذكرتها مصادرُ أخرى.
فمن ذلك: ما ذكرته بعضُ المصادر أنَّ المريض هو هاني بن عروة، وأنَّ الذي اقترح اغتيال ابن زياد هو هاني نفسُه، ولا ذكر لشريكٍ أساساً في الواقعة، وفي روايةٍ: أنَّ المقترِح رجلٌ يُسمَّى عمارة بن عبيد السلولي.
ومنها: ما ذكرته بعض المصادر أنَّ زيارةَ ابنِ زياد وقعت مرَّتين، مرَّة لعيادةِ هاني، وأخرى لعيادة شريك، وفي كلِّ مرَّة يتمُّ العزم على الاغتيال ولكنَّه لا يقع.
ومنها: أنَّ ابن زياد تفطَّن بأنَّ مكيدةً تُدبَّر لاغتياله فبادرَ بالخروج، وفي مصادر أخرى: أنَّه لم يتفطَّن لذلك وأنَّ الذي شعُرَ بالمكيدة هو حاجبُه، فغمزه فقام وخرجا على عجَل، وفي مصادرَ أخرى: أنَّه لم يعلم بذلك ولم يرتاب ولذلك صلَّى على شريك بعد موته، ولم يعلم بأنَّه قد خطَّط لاغتياله إلا بعد مقتل هاني ومسلم بن عقيل، أخبره بذلك بعضُ مَن كان يحضر مجلس هاني.
ومن التفاصيل والاختلافات المذكورة للقصَّة: هي أنَّهم هيئوا لاغتيال ابن زياد -إذا جاء لعيادة شريك في دار هاني- ثلاثين رجلاً ولكنَّ ابن زياد دخل وخرج دون أن يفعلوا شيئاً، وفي مصادرَ أخرى: أنَّ ابن زياد جاء لعيادة هاني وكان مريضاً فقال هاني لمسلم بن عقيل وأصحابه وهم جماعة: "إذا جلس ابنُ زياد عندي وتمكَّن فإنِّي سأقول اسقوني فاخرجوا فاقتلوه، فأدخلهم البيت، وجلسَ في الرواق، وأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فلمَّا تمكَّن من الجلوس قال هاني بن عروة: اسقوني فلم يخرجوا، فقال: اسقوني ما يُؤخرُكم، ثم قال: اسقوني ولو كانت فيه نفسي، ففهِم ابنُ زياد فقام فخرجَ من عنده.
وقيل: إنَّ الحادثة أساساً لم تقع في دار هاني بل وقعت في دار شريك بن الأعور، وكان قد طلب من هاني أنْ يأتي بمسلم ليغتال ابن زياد في داره إذا جاء لعيادته فاستجابَ مسلمٌ لذلك ، وذهب إلى دار شريك ولكنَّ الاغتيال لم يقع.
واختلفت المصادر أيضاً في بيان منشأ امتناع مسلم عن الاقدام على اغتيال ابن زياد، فبعضُها ذكرت: أنَّ منشأ ذلك هو منعُ هاني لقتل ابن زياد في داره، واعتذر عن ذلك أنَّ في داره صبيةً وإماء، وقيل: إنَّه لم يمنع ولكنَّه كَرِه أنْ يُقتل ابنُ زيادٍ في داره كأنَّه استقبح ذلك، وذكرت بعضُ المصادر: أنَّ مسلم بن عقيل لما همَّ بالخروج لاغتيال ابن زياد تعلَّقت به امرأةُ هاني أو جاريتُه فناشدته الكفَّ عن ذلك، وبكت في وجهه. قال هاني لمَّا سمع بذلك من مسلم: يا ويلَها قتلتني، وقتلتْ نفسَها والذي فرَّت منه وقعتْ فيه"([1]).
اضطراب الخبر ومقدار ما يُمكن القبول بوقوعه:
وثمة اختلافاتٌ أخرى للخبر لا مُوجب لعرضها، فيكفي ما ذكرناه للوقوف على مدى اضطراب الخبر وعدم امكان الوثوق بوقوعِه بل لا يبعُد أنَّه بِرُمَّته منتحَلٌ ومكذوب.
ولو افترضنا أنَّ للخبر أصلاً فالمقدار الذي يُمكن القبول به دون الوثوق بوقوعه هو أنَّ شريك بن الأعور أو هاني بن عروة أو هما معاً قد اقترحا على مسلم بن عقيل أنْ يتمَّ اغتيال ابن زياد حين يأتي لعيادة شريك فأبى عليهما مسلم، وبذلك انتهت القضية، وأمَّا الإضافات والتفاصيل المذكورة فالأقرب أنَّها خُلعتْ على أصل الخبر بعد أحداث الكوفة وكربلاء حين أخذَ الناس يتداولون ما وقع في مجالسِهم بعد استقرار الأوضاع، فالتفاصيل المذكورة واضطراب مضامينها وتهافتها أشبهُ شيءٍ بالشائعات التي يُطلقها عامَّة الناس حين يجلسون للسمر وتجاذُب أطراف الحديث فيكون للخبر أصلٌ، وأمَّا التفاصيل فهي مبتنية على الظنون والحدس دون الحس، وتنشأ صياغتها عن أغراضٍ مختلفة، منها سعي المتحدِّث إلى أن يكون الخبر قابلاً للقبول فيُضيف إليه من التفاصيل ما يجعله -بنظرِه- مقبولاً لدى المتلقِّي، وقد يُضيف إلى الخبر ما يرى أنَّه مِن لوازم ترابطه وانتظام أطرافِه أو مِن مقتضيات وقوعه.
وقد يختلق تفاصيلَ للخبر لمناسبتها لهواهُ وما يرغبُ في أن يكون قد وقع، وقد يختلقُ تفاصيلَ للإثارة وجذب الانتباه، إذ أنَّه لو اقتصر على أصل الخبر الذي وقف عليه فإنَّه لن يلقى اهتماماً من قِبَل المتلقِّي، وهكذا تتعدَّد الغايات عند عامَّة الناس لاختلاق تفاصيل الأخبار، ولهذا لا يصحُّ الوثوق بأخبار عوامِّ الناس التي يتداولونها في مجالسهم.
وكيف كان فمع افتراض القبول بوقوع أصل الخبر فالمقدار القابل للقبول هو ما ذكرناه من أنَّه قد أقتُرح على مسلم بن عقيل أن يتمَّ اغتيال ابن زياد حين يأتي إلى دار هاني لعيادته أو عيادة شريك بن الأعور إلا أنَّ مسلم بن عقيل أبى عليهم ذلك.
منشأ الاطمئنان برفض مسلم ابتداءً لمقترح الاغتيال:
ومنشأُ الاطمئنان برفض مسلم بن عقيل لمثل هذا المقترح لو كان قد عُرض عليه هو أنَّه رضوان الله عليه كان يُدرِك جيداً أنَّه في موقع الممثِّل للإمام الحسين (ع) وكان يُدرك يقيناً أنَّ مثل هذا المقترَح لو كان قد عُرض على الإمام الحسين (ع) لبادر إلى رفضِه، وذلك لمنافاته مع الواضح من مبادئه وقيَمِه ومكارم أخلاقه، فالحسينُ (ع) لا يغدرُ برجلٍ غافل جاء عائداً لمريضٍ في داره وإنْ كان هذا الرجل فاجراً فاسقاً، فإنَّ ذلك مضافاً إلى أنَّه يُعدُّ سُبةً مستهجَنة لدى العقلاء والشرفاء من الناس فإنَّه منافٍ لأخلاق الأنبياء، فالأنبياء وحملةُ الرسالات الإلهيَّة لا يتوسَّلون للوصول إلى أهدافهم بالوسائل المستهجَنة والمستقبَحة لدى العقلاء والشرفاء وذوي النُبل والخلق الرفيع، ولذلك كان أمير المؤمنين (ع) يقول: "ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِه الْغَدْرَ كَيْساً، ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيه إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّه، قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْه الْحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّه ونَهْيِه، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ"([2]).
فما يراهُ الناسُ من ذوي الجهل في المكر والغدر والفجور أنَّه كياسةٌ وفطنةٌ وحنكة سياسية يُعدُّ في نهج القادة الإلهيين فسوقاً وتجاوزاً لأمر الله ونهيه، وأنَّ مَن يعتمد الغدر وسيلةً للوصول إلى مآربه ويراه فرصةً سانحةً يتعيَّن انتهازه هو في منظور أهل البيت (ع) ممََن لا ورعَ يحجزُه ولا حريجة له في الدين.
ويقولُ أمير المؤمنين (ع): "واللَّه مَا فلان بِأَدْهَى مِنِّي ولَكِنَّه يَغْدِرُ ويَفْجُرُ، ولَوْلَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، ولَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ، ولِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، واللَّه مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ ولَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ"([3]).
فأتباعُ أهل البيت (ع) الحقيقيون والذين في طليعتهم مسلم بن عقيل لا يعتمدون الفجورَ والفتك والفرصَ السانحة المغلَّفة بالغدر والهَوان وسيلةً للوصول إلى أغراضهم وإنْ كانت نبيلة ولذلك اختاره الإمام الحسين (ع) لأثقل مهمةٍ وأكثر فصول النهضة تعقيداً، ووصفَه بقوله: "وإنِّي باعثٌ إليكم أخي وابن عمِّي وثقثي من أهل بيتي مسلم بن عقيل"([4]).
فهو (رضوان الله عليه) مِن أعرفُ الناس بمبادئ أهل البيت (ع) وقيَمِهم وهو من أوثق الناس وأحرصهم على تمثُّلها. فمعنى قوله (ع): "وثقثي من أهل بيتي" هو أنَّه من أليقِ أهل بيته وأجدرهم بحمل أمانة النهضة وقيمِها وأشدِّهم حرصاً على حماية صورتها.
وهذا هو منشأ الاطمئنان برفضه لمقترح الاغتيال لابن زياد في دار هاني وقوله فيما أُثر عنه: "أنَّ الإيمان قيدَ الفتك وأنَّ المؤمن لا يفتك".
الجواب عن دعوى القبول بالمقترح ثم التراجع عنه:
ودعوى أنَّه قبِل بمقترح الاغتيال وساهم في الإعداد إليه ثم تراجعَ عن ذلك -كما في بعض مصادر الخبر- لأنَّه تذكر أنَّ الإيمان قيد الفتك، هذا الدعوى لا تصحُّ، فكونُ الإيمان قيدَ الفتك وأنَّ الفتك بالغافل في بيتِك وأمانِك سُبةٌ وعار هي من الوضوح بنحو لا يمكن أن تغيب عن خلَد أمثال مسلم بن عقيل، فهي من اللوازم الذاتية لذوي النُبل والشرف فضلاً عن ذوي التقوى والورع والحريجةِ في الدين.
وأمَّا القول إذا كان الأمرُ كذلك فكيف خفي على مثل هاني بن عروة، وشريك بن الأعور وهما من كبار الشيعة؟!
فجوابُه: أنَّهما رغم جلالةِ قدرهما ليسا كمسلم بن عقيل في هدْيهِ ووعيه واستيعابِه لمبادئ الإسلام وأخلاق أهل البيت (ع) وقِيَم نهضة الحسين (ع) وأهدافها، ولذلك قد يخطر في خلّدهما العمل على استثمار هذه الفرصة السانحة التي قد لا تتكرَّر حرصاً منهما على الخلاص من هذا الطاغية بأقلِّ الخسائر، فهما وإن كانا يُدرِكان أنَّ مثل هذا العمل مشينٌ ولكنَّ حبَّهما للحسين (ع) وحرصهما على الانتصار له ورغبتهما الشديدة في الخلاص من ابن زياد قد يكون هو ما دفعهما للتفكير بهذه المكيدة رغم إدراكهما أنَّها لا تليقُ بمقام الإمام الحسين (ع) وبمسلم بن عقيل، ولذلك ما أسرع أنْ تراجعا عنها رغم قدرتِهما على إنفاذها بغير مسلم بن عقيل.
القرائن الأخرى المقتضية لاستبعاد وقوع الخبر:
هذا لو قبلنا -جدلاً- بأصل وقوع الخبر وإلا فمُجريات الأحداث تقتضي استبعاد حدوثه، فمثلُ ابن زياد لا يُجازف بالذهاب ليلاً وحده ودون حمايةٍ إلى دار هاني المعروف بتشيُّعه والمُطاع في قومِه حتى قيل -كما في مروج الذهب- إنَّه يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل([5])، فابنُ زياد كان يُدرِكُ ذلك، ويدرك أنَّ دار هاني تقع في أحياء المنابذين لسلطان بني أمية وأنَّ فيهم مَن كاتب الحسين (ع) فبعث إليهم مسلم لأخذ البيعة منهم، وقد بايعه الكثيرُ منهم على حرب بني أميَّة، وابن زياد لا يعلم أين هو مسلم وفي أيِّ دارٍ ينزل وما الذي ينوي فعله، وعليه كيف يُجازفُ وهو الحريص على الحياة فيمشي برجلِه -ليس معه إلا حاجبه- إلى موضعٍ هو معقل الناقمين أو لا أقلَّ من احتمال أن يكون معقلاً للناقمين على سلطان بني أميَّة؟!!
إنَّ ذلك لو وقع لكان معبِّراً عن حماقة ابن زياد وضعف رأيه ولم يكن ابن زياد كذلك بل كان معروفاً بالمحاذرة والاحتياط لنفسه، ولم تكن حاجة ملحَّة لعيادة شريك، فكان بوسعه أنْ يبعث إليه رجلاً من خاصَّته يُبلِّغه سلامَه وتحياته وتمنِّياته له بالشفاء.
وبذلك يتبيَّن وهْنُ الخبر وعدم قابليته للتصديق بل لو تضمَّن الخبر دعوى أنَّ ابن زياد ذهب إلى دار هاني مُحاطاً بحمايةٍ من حجَّابه لما كان قابلاً للتصديق، إذ لا ضرورة تقتضي المجازفة بنفسِه وحجَّابه من أجل عيادة مريض، فكان بوسعه أنْ يبعث إليه مَن يعتذرُ إليه عن عدم عيادته بالظروف الاستثنائية التي تمرُّ بها الكوفة، لا أنْ يُجازف بنفسه وحجَّابه لغايةٍ لا تتجاوز ما يُعبَّر عنه بالعلاقات العامَّة، فحجَّابه مهما بلغوا من الاقتدار فإنَّ من المحتمل -على أقلِّ تقدير- أن لا يتمكَّنوا من حمايته لو وقعوا في كمينٍ أو في وسطِ جماعة من المتربِّصين أو في وسط حيٍّ غالبية أهله من الناقمين المقتدرين على حمل السلاح، فيكفي احتمال ذلك للامتناع عن المجازفة لغايةٍ ليست ملحَّة.
هذا مع افتراض أنَّه اصطحب معه حمايةً من أجناده كيف والخبر قد تضمَّن أنَّه لم يصطحب معه سوى رجلٍ واحد من حجَّابه ولم تكن عيادته مباغتة بل كان قد بعث إلى هاني أنَّه سوف يزورُه في داره وحدَّد له الوقت الذي سيزوره فيه وأنَّه بعد العشاء، فهل غفل ابنُ زياد أنَّ خبر زيارته قد تصل إلى مسامع الناقمين عليه وأنَّ الوقت يتَّسع للتخطيط لاغتياله والفتكِ به في طريق ذهابِه أو عودته فلا يكون هاني بن عروة مسئولاً عن دمِه.
وإذا كان هاني أو شريك -وهما من ذوي الحنكة والتجربة الطويلة- عازمين على اغتياله، فما هو الموجب لإيقاع ذلك في دار هاني والحال أنَّ بوسعهما إنفاذ ذلك وهو في طريقه إلى دار هاني أو في طريق عودته؟!
فلو قيل: إنَّهما لم يكونا يعلمان بحجم الحماية التي سوف تصحبُه، فجوابه: أنَّهما قد علما بذلك بعد مجيئه، وقد جلس ساعةً في دار هاني فالوقتُ يتَّسع للأمر باغتياله في طريق عودته، فالتخطيط للاغتيال يقتضي استحضار جميع الاحتمالات فيضعُ المخطِّطُ لكلِّ احتمالٍ الموقفَ المناسبَ له، فيُمكن لهاني وشريك أنْ يأمرا المكلَّفين بإنفاذ الاغتيال بالمبادرة إلى اغتيال ابن زياد في طريق ذهابه أو عودته لو كان قد جاء وحده أو مع عددٍ قليل من حجَّابه وأن يكفَّا عن اغتياله لو كان عددُ أجناده كثيرين.
كلُّ ذلك وغيره -ممَّا لا موجب لعرضه- يكشفُ عن وهن الخبر واضطرابه وعدم قابليته للتصديق وأنَّ المؤرِّخين قد تلقَّوه من الناس ودوَّنوه في صحائفهم على عواهِنه دون تثبُّت، وقد يكون بعضُهم أراد من تدوين الخبر الطعنَ على هاني ومسلم والتبرير لِما وقع عليهما، وربما أضاف بعضُهم إلى الخبر الذي يتداولُه الناس ما يُناسب هواه كالذي ذكره بعضُهم أنَّ ابن زياد قد تفطَّن للمكيدة فبادر بالخروج ليدلِّل بذلك على دهائه السياسي غافلاً -هذا المؤرِّخ أو الناقل- عن أنَّ أصل ذهاب ابن زياد إلى دار هاني -لو كان قد وقع- لا يعدو كونه حماقة، وربَّما أراد بعضُهم التدليل على أنَّ مسلماً لم يكن حازماً ومؤهلاً للقيادة وذلك لتفويته فرصةً سانحة لا يفوتُ مثلُها على ذوي الحنكة السياسية دون استثمارها، وقد غفل مَن أراد ذلك أنَّ مسلم بن عقيل كان شريفاً نبيلاً قبل أن يكون قائداً وأنَّ مثله لا يُضحِّي بمروءته ودينه ولا يتوسَّل بالخسيس من الأفعال من أجل الوصول إلى غاياته السامية، فسموُّ الغايات يمنع ذوي المروءات والحريجة في الدين من اعتماد الوسائل الدنيئة.
وخلاصة القول: إنَّه بمقتضى ما ذكرناه يتبيَّن أنَّ الخبر برمَّته وبمختلف تفاصيله ساقطُ عن الاعتبار، فلا يصحُّ أنْ يُبنى عليه بالقول إنَّ مسلم بن عقيل لو كان قد اغتال ابنَ زياد لأراح واستراح، فإنَّ ذلك -رغم فساده كما اتَّضح - يكون بعد التثبُّت من أصل وقوع الخبر، وقد تبيَّن ممَّا تقدَّم أنَّ الخبر في غاية الوهن والسقوط.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
3 / محرم / 1443هـ
12 / أغسطس / 2021م
[1]-أنساب الأشراف -البلاذري- ج2 / ص79، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص268، مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص65، الأخبار الطوال-الدينوري- ص234، الإمامة والسياسة- ابن قتيبة الدينوري- ج2 / ص4، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج3 / ص138، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص299، الإصابة -ابن حجر- ج6 / ص445، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص164، مناقب آل أبي طالب- ابن شهراشوب- ج3 / ص243، إعلام الورى بأعلام الهدى -الطبرسي- ج1/ ص438، مثير الأحزان -ابن نما الحلي- ص21.
[2]- نهج البلاغة - خطب الإمام علي- ص83.
[3]- نهج البلاغة - خطب الإمام علي- ص318.
[4]- إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص436، الإرشاد -المفيد- ج2 / ص39، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص242.
[5]- مروج الذهب -المسعودي- ج3 / ص59.