هل كان هاني كارهًا لاستضافة مسلم في داره؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

يذكر بعضُ المؤرِّخين أنَّ هاني بن عروة لم يكن راغبًا في نزول مسلم بن عقيل في داره ولكنَّه حين جاء مسلم إلى داره وطلبَ منه النزول في جواره وضيافته وجدَ من غير اللائق صرفه وعدم إجارته لأنَّ ذلك منافٍ للأصول والأعراف العربيَّة، ويدلُّ على ذلك قولُه لمسلم بعد أنْ طلب منه إجارته وضيافته: "لقد كلَّفتني شططًا بهذا الأمر، ولولا دخولُك منزلي لأحببتُ أنْ تنصرفَ عنِّي، غير أنَّه قد لزِمني ذِمامٌ لذلك فأدخله دارَ نسائه، وأفرد له ناحيةً منها"([1]).

فقبولُ هاني باستضافة مسلم كان جريًا على مقتضى العادات والأعراف العربيَّة التي تستهجنُ وتستقبحُ الامتناع عن إجارة واستضافة من استضافك واستجار بك، وعليه لا يُمكن اعتبار هاني بن عروة شهيدًا فهو إنَّما كان يحمي شرفَه والجاه الذي كان يتمتَّع به.

الجواب:

الخبر الذي ابتنى عليه الإشكال أوردَه عددٌ من مؤرِّخي العامَّة ولم يرد في شيءٍ من مصادرنا وبقطع النظر عن ذلك فإنَّ الخبر تشوبُه العديد من الموهِّنات المانعة من الوثوق بصحَّته وسلامتِه من الوضع.

تهافتُ الخبر في نفسِه:

الموهِّن الأول: إنَّ الخبر متهافتٌ في نفسِه، ففي الوقت الذي يظهرُ منه أنَّ هاني بن عروة قد ضاق ذرعًا من مجيْ مسلم له وطلبِه النزول في داره والاستجارة به واضطراره إلى أنْ يُنزله في بعض دور نسائه فإنَّ تتمَّة الخبر اشتمل على أنَّ دار هاني أصبحتْ بعد نزول مسلم فيها موضعًا تختلفُ إليها الشيعة.

فتمامُ الخبر الذي جاء في السؤال أوردَه ابنُ قتيبة الدينوري في كتابه الأخبار الطوال قال: "وبلغ مسلم بن عقيل قدوم عبيد الله بن زياد وانصراف النعمان، وما كان من خطبة ابن زياد ووعيده، فخافَ على نفسه. فخرجَ من الدار التي كان فيها بعد عتمة حتى أتى دار هانئ بن ورقة المذحجي، وكان من أشراف أهل الكوفة، فدخلَ دارَه الخارجة، فأرسل إليه وكان في دار نسائه، يسألُه الخروج إليه، فخرجَ إليه. وقام مسلم، فسلَّم عليه، وقال: إنِّي أتيتُك لتُجيرني وتُضيفني فقال له هانئ: لقد كلَّفتني شططًا بهذا الأمر، ولولا دخولُك منزلي لأحببتُ أن تنصرف عنِّي، غير أنَّه قد لزِمني ذِمامٌ لذلك، فأدخلَه دار نسائه، وأفردَ له ناحيةً منها، وجعلتِ الشيعة تختلفُ إليه في دار هانئ"([2]).

وقريبٌ من هذا النصِّ لفظًا ومعنىً ما أورده الطبري في تاريخه وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين والكامل في التأريخ لابن الأثير([3]).

وقريبُ منه أيضًا ما أورده ابن أعثم في الفتوح وأضاف: "وجعلت الشيعةُ تختلفُ إلى مسلم رحمه الله في دار هانئ ويبايعون للحسين سرًّا، ومسلم بن عقيل يكتب أسماءهم ويأخذُ عليهم العهود والمواثيق لا يركنون ولا يعذرون، حتى بايع مسلمَ بن عقيل نيفٌ وعشرون ألفا"([4]).

فإذا لم يكن هاني راغبًا في نزول مسلم في داره وكان كارهًا لاستضافته وإيوائه فإنَّ منشأ ذلك هو خشيته على نفسه ومصالحِه من أنْ تكون في معرَضِ الاستهداف من قِبَل السلطان، وعليه كيف قَبِل بأنْ تكون دارُه موضعًا تختلفُ إليها الشيعة لإعطاء البيعة لمسلم والتخطيط لقدوم الإمام الحسين (ع) إلى الكوفة أو للوثوب على قصر الأمارة وما يستتبع ذلك من تدوين أسماء المبايعين وجمع الأموال وشراء السلاح وتوزيع الأدوار وإرسال الرُسل واستقبالها وبثِّ العيون واستقبالها لمتابعة الأوضاع والمستجدَّات، فلو كان قبول هاني لاستضافة مسلم ناشئًا عن رعايته للأعراف والتقاليد العربيَّة لما كان ذلك مقتضيًا لأكثر من إيواء مسلم في داره مع التكتُّم على وجوده عنده، ولو طلب مسلمٌ من هاني أنْ تكون داره موئلًا للشيعةِ المناوئين للسلطة لكان لهاني أنْ يعتذرَ لمسلم(رحمه الله) بأنَّ الضيافة والإجارة التي تفرضُها الأعراف والتقاليد العربية لا تقتضي أكثر من إيوائه وحمايته شخصيًا، وعليه فهو في سعةٍ عرفًا وليس عليه في ذلك مِن عارٍ لو امتنع من استقبال الشيعة في داره أو اعتذر من استضافة مسلم إذا أصرَّ على استقبال الشيعة في داره. فصيرورة دار هاني موئلًا ومعقلًا تختلفُ إليه الشيعة لإعطاء البيعة منافٍ لصدر الخبر الذي يظهرُ منه أنَّ قبول هاني بضيافة مسلم وإيوائه كان بسبب التحرُّج من مخالفة ما عليه الأعراف والتقاليد العربيَّة القاضية باستهجان وتقبيح الامتناع عن ضيافة مَن طلب الضيافة والإجارة- إذ لا تستقيمُ دعوى أنَّ هاني كان كارهاً لنزول مسلم في داره ثم يفتح داره على مصراعيها لاستقبال الشيعة لأخذ البيعة منهم وجمع الأسلحة والإعداد لقدوم الإمام الحسين (ع).

منافاةُ الخبر لواقع المُخبَر عنه علامةُ وهْنِه:

الموهِّن الثاني: إنَّ مقتضى مؤدَّى الخبر المذكور هو أنَّ مسلم بن عقيل قَبِل على نفسه أنْ يكون ضيفًا ثقيلًا على هاني، فرغم أنَّه تلقَّى من هاني -بحسب الخبر- ما هو صريح في أنَّه كارهٌ لاستضافته وإيوائه وأنَّ في قبوله لاستضافته وإيوائه كُلفةً ومشقة شديدة كما هو مفاد قوله: "كلَّفتني شططًا" رغم ذلك قبِل أنْ يحلَّ ضيفًا ثقيلًا وابتلع الإهانة التي تلقَّاها من هاني!!

وهذا ما لا يُمكن قبوله على مثل مسلم بن عقيل بل لا يقبلُه على نفسه مَن هو دونه في العزِّة والشرف والكرامة، فإذا كان هاني قد قبِل باستضافة مسلم حمايةً لشرفه ووجاهته ولأنَّه خشي أنْ يلحقَه من الامتناع عارٌ ومسبَّة فهل يقبلُ مسلم بن عقيل أنْ يلحقَه من طلب الاستضافة ذلٌّ ومهانة؟!

ثم إنَّ الخبر المذكور يُصوِّر أنَّ مسلم بن عقيل قد تعمَّد إحراج هاني واِلجائه على قبول ضيافته وإيوائه، وذلك بأنْ دخل داره الخارجة وبعد دخوله أرسَلَ إلى هاني وطلب منه الاستضافة وهو في داره، وهل يفعلُ ذلك إلا أهلُ الضِعة والمهانة؟! فيستغل الأعراف والتقاليد لمصلحتِه دون أنْ يعبأ بما سوف يُوقعُه مِن أذىً وكُلفة ومشقَّة على الطرف الآخر، فمثلُ هذه الوقاحة لا تصدرُ إلا مِن ذوي الضِّعة والصَغار الذين لا يشغلُهم سوى التحصيل لمصالحِهم وإنْ كان ذلك على حساب ضياع مصالح الآخرين بل وإنْ علموا أنْ ذلك سيُفضي لوقوع الآخرين في المضار.

فالعلم بسموِّ أخلاق مسلم وما يتمتَّع به من عزَّةٍ وكرامةٍ وأنَفة يمنع من القبول بهذا الخبر الذي يُظهِرُ مسلم بن عقيل في مظهر الوضيع، فإنَّ المحرَّر في علم الأصول وكذلك ما عليه العقلاء أنَّ الخبر حين لا يكون متناسبًا مع ما هو معلوم من طبيعة الشخصيَّة المخبَر عنها فإنَّ ذلك يمنعُ من الوثوق بصحَّة الخبر، ويُوجب الارتياب في صدقِه ومطابقته للواقع.

الخبر لا يعدو الاستخفاف بالعقول:

الموهِّنُ الثالث: إنَّ مقتضى مؤدَّى الخبر هو أنَّ مسلم بن عقيل قَبِل بأنْ يلجأ إلى دار رجلٍ لا يُؤمن بقضيتِه، وليس مستعدًّا للتضحية من أجل نجاحها، وكلُّ ما في الأمر أنَّه قبل باستضافة مسلم خوفًا على وجاهته وشرفِه مِن أنِ يَلحقَ بهما عارٌ ومسبَّة، أليس ذلك من الاستخفاف بالعقول؟!

فكيف يأمنُ مسلم بن عقيل على نفسِه وقضيته وهو في كنَفِ رجلٍ لا يحجزُه ورعٌ ولا يردعُه خوفٌ من الله تعالى، وكلُّ ما يشغلُه هو أنْ لا يلحقُه عارٌ ومسبَّة، ألا يخشى مسلمٌ وهو العاقلُ الحصيف المحنَّك والذي اقترب عمرُه من الخمسين إنْ لم يكن قد تجاوزها ألا يخشى على نفسِه وقضيته مِن مثل هذا الرجل الذي قد يضعف فيتخلَّى عمَّا تقتضيه الأعراف والعادات أو يحتال فيُرسِل إلى السلطان فيعتذر إليه بأنَّه قبل بإيواء مسلم رعايةً للأعراف العربيَّة فلك أنْ تأتي بقوةٍ لاعتقاله ليظهر للناس أنَّ ذلك وقع خارجًا عن إرادتي فيَسلَم شرفي من الهتك، فلا أكونُ سُبةً في ألسنةٍ العرب، فإذا كان الرجل لا يشغلُه إلا الجاهُ والشرف بين الناس فإنَّه قد يضحِّي بأخلاقه ودينِه من أجل حماية جاهِه ومكانتِه بين الناس، ومثله لا يُمكن أنْ يُستأمَن على قضية خطِرة مثل قضيَّة الحسين (ع) وعلى شخصيَّةٍ مثل شخصية مسلم الذي استنفرتِ السلطةُ من الشام إلى الكوفة كلَّ امكانياتها من أجل الوصول إليه وتصفيتِه، فلولا أنَّ مسلمَ بن عقيل علِم من هاني ورعَه وتقواه وسموَّ أخلاقِه وإيمانَه الشديد بقضيَّة الحسين (ع) لمَا قبِل -وهو في هذا الظرف الدقيق والحرج- أنْ ينزل في داره ويدخلَ في أمانه وإلا كان مجازفًا بنفسِه وبقضيته.

إشكالٌ وجواب:

ولو قيل إنَّ مسلم بن عقيل كان مضطرًا لذلك ولم يكن له خيارٌ آخر.

فجوابه إنَّ ذلك لا يصحُّ فنزولُه في دار هاني كان -على أبعد تقدير- عند بداية تولِّي ابن زياد على الكوفة، فمسلمٌ كان حينذاك في أوج قوَّته، والذين بايعوه من الصادقين ليسوا قليلين، فكان بوسعِه أنْ يختار دارًا غير دار هاني لو لم يكن يعلم أنَّ هاني كان شديدَ الإيمان بقضيَّته كما دلَّت الشواهدُ التاريخيَّة على ذلك فبيتُه كان معقِلًا للمناوئين للسلطة ومِن بيته بعث مسلمٌ رسولَه إلى الحسين (ع) يستحثُّه على القدوم، ويُخبره بعدد المبايعين، وفي بيت هاني كانت تُؤخذ البيعة وفيه تُدوَّن أسماء المبايعين، وفيه وحوله تُجمع الأسلحة ويكمنُ الرجال المنتظرين لإعلان الثورة.

منافاةُ الخبر لما ورد من أنَّ نزوله كان بأمر الحسين (ع):

الموهِّن الرابع: إنَّ الخبر المذكور منافٍ لما ذكره عددٌ من المؤرِّخين مِن أنَّ نزول مسلم في دار هاني أساسًا كان بوصيةٍ من الأمام الحسين (ع) وأنَّ مسلم بن عقيل نزل في دار هاني من أولِ يومٍ دخل فيه إلى الكوفة

فممَّن ذكر ذلك ابنُ سعد في الطبقات الكبرى قال: قالوا: "وقد كان الحسين قدَّم مسلمَ بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة، وأمره أنْ ينزل على هانئ بن عروة المرادي وينظر إلى اجتماع الناس عليه، ويكتب إليه بخبرهم، فقدِمَ مسلم بن عقيل الكوفة مستخفيًا وأتته الشيعة فأخذ بيعتَهم، وكتب إلى الحسين بن علي: إنِّي قدمتُ الكوفة فبايعني منهم -إلى أنْ كتبتُ إليك- ثمانية عشر ألفا، فعجِّل القدومَ فإنَّه ليس دونَها مانع"([5]).

ومنهم ابنُ عساكر في تاريخ دمشق قال: "كان الحسين (عليه السلام) قدَّم مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة، وأمره أن ينزل على هانىء بن عروة المرادي وينظر إلى اجتماع الناس عليه، ويكتب إليه بخبرِهم، فقدِم مسلمٌ الكوفة مستخفيًا، وأتته الشيعة، فأخذ بيعتهم، وكتب إلى الحسين: إنِّي قدمتُ الكوفة، فبايعني منهم -إلى أن كتبت إليك- ثمانية عشر ألفا، فعجِّل القدوم، فإنَّه ليس دونها مانع"([6]).

ومنهم الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام: روى عن مجالد عن الشعبي، وعن الواقدي من عدَّة طرق أنَّ الحسين قدَّم مسلم بن عقيل وهو ابن عمه إلى الكوفة، وأمرَه أن ينزل على هانئ بن عروة المرادي، وينظر إلى اجتماع الناس عليه .."([7]).

وفي أنساب الأشراف للبلاذري قال: "وكان الحسين قدَّم مسلم بن عقيل بين يديه، فنزل على هانئ بن عروة المرادي وجعل يبايع أهل الكوفة"([8]).

فإذا كان الإمام الحسين (ع) هو مَن أمر مسلم بن عقيل بالنزول في دار هاني فهذا يكشف عن علم الإمام الحسين (ع) بما انطوت عليه سريرة هاني وأنَّه شديد الإيمان بقضية الحسين (ع) وأنَّه جديرٌ بحمل هذه الأمانة والاحتياط لها، ولا يبعد أنَّ أمر الحسين (ع) لمسلم بأنْ ينزل في دار هاني كان بطلبٍ من هاني نفسِه حين كتب إليه فيمَن كتبوا يستنصرُه ويطلبُ منه القدومَ إلى الكوفة.

وأمَّا ما ورد من أنَّ مسلم بن عقيل نزل أولًا في دار ابن المسيَّب عند المختار الثقفي، وما ورد من أنَّه نزل في دار مسلم بن عوسجة وغيرهما فلعلَّ ذلك كلَّه صحيح وأنَّه (رضوان الله عليه) كان يُراوح في التنقُّل بين عددٍ من الدور للتعمية أو لاقتضاء الإعداد والتمهيد للثورة.

الخبر منتحَل والأرجح أنَّه مِن وضع المتزلِّفين من قبيلة هاني:

وممَّا ذكرناه يتبيَّن وهنُ الخبر الذي ابتنى عليه الإشكال وأنَّه منتحَلٌّ ومكذوب، ومن المرجَّح أنَّ الذي اختلقه هم بعضُ أفراد قبيلة هاني الذين كانوا في ركب السلطان، أرادوا بذلك الاعتذار لبني أميَّة وأنَّ قبول زعيمَهم هاني لاستضافة مسلم وإيوائه لم يكن خيانةً لبني أميَّة وتمرُّدًا عليها بل لأنَّ مسلم قد أحرجه بدخوله إلى داره وطلبِه من هاني أن يُضيِّفه وأنْ يُجيره فلم يكن في وسع هاني جريًا على الأعراف والتقاليد العربيَّة أنْ يمتنع عن القبول باستضافته وإيوائه، لأنَّه قد لزمه من طلبه ذِمام، وخشيَ لو امتنع من استضافته أو قبِلَ بتسليمه أن يلحقه من ذلك عارٌ ومسبَّة.

فالخبر المذكور على الأرجح كان من اختلاق المتزلِّفين والمرعوبين من سلطان بني أميَّة الذين يخشون من انتقام بني أميَّة من قبيلتهم بالتصفية لبعض رجالها أو حرمانها من العطاء أو حرمان زعمائها الموظَّفين لدى الدولة من مناصبِهم، والسلطانُ وإنْ كان يُدرك جيدًا أنَّ هذا الاعتذار منافٍ للواقع ولكنَّه يقبلُ منهم هذا التزلُّف والذي يستبطنُ الإقرار له بسلطانه.

الغرضُ من اعتذار هاني بأنَّ مسلماً قد استجار به:

وأمَّا ما رُوي من أنَّ هاني برَّر استضافته لمسلم بعد اعتقاله بذات الاعتذار المذكور في الخبر فهو لو صح فإنَّه كان من الدفاع عن النفس بعد أنْ صار في قبضة السلطان، فهو بهذا الاعتذار يدفع عن نفسِه، وفي ذات الوقت يُبرر بذلك امتناعه وعدم إمكانه تسليم مسلم بن عقيل وأنَّ اقصى ما يستطيعُ فعله هو أنْ يأمر مسلم بن عقيل بالانصراف إلى مأمنِه.

وإليك نصُّ الخبر -بحسب نقل الطبري- قال ابنُ زياد حين دخل عليه هاني بن عروة:

"إيهٍ يا هانئ بن عروة ما هذه الأمور التي تربص في دورك لأمير المؤمنين وعامَّة المسلمين جئتَ بمسلم بن عقيل فأدخلتَه دارك وجمعتَ له السلاح والرجال في الدور حولك وظننتَ أنَّ ذلك يخفى عليَّ لك، قال: ما فعلتُ، وما مسلمٌ عندي، قال: بلى قد فعلتَ قال: ما فعلتُ، قال: بلى، فلمَّا كثر ذلك بينهما وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته دعا ابنُ زياد معقلًا ذلك العين فجاء حتى وقفَ بين يديه فقال: أتعرفُ هذا قال: نعم، وعلم هانئ عند ذلك أنَّه كان عينًا عليهم، وأنَّه قد أتاه بأخبارهم فسُقطَ في خلدِه ساعة ثم إنَّ نفسَه راجعته فقال له: اسمع منِّى وصدِّق مقالتي فوالله لا أكذبُك واللهِ الذي لا إله غيره ما دعوتُه إلى منزلي، ولا علمتُ بشيءٍ من أمره حتى رأيتُه جالسا على بابى فسألني النزول عليَّ فاستحييتُ من ردِّه ودخلني من ذلك ذِمام فأدخلتُه داري وضفته وآويتُه، وقد كان من أمرِه الذي بلغَك، فإنْ شئتَ أعطيتُ الآن موثقًا مغلَّظاً وما تطمئنُ إليه ألا أبغيك سوءً، وإنْ شئتَ أعطيتُك رهينةً تكون في يدِك حتى آتيك وأنطلق إليه فآمرُه أنْ يخرجَ من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرجُ من ذِمامِه وجوارِه.

فقال: لا والله لا تفارقني أبدًا حتى تأتيَني به فقال- هاني-: لا واللهِ لا أجيئك به أبدًا، أنا أجيئُك بضيفي تقتلُه؟! قال: واللهِ لتأتينِّي به قال: واللهِ لا آتيك به".

ثم توسط رجل يُدعى مسلم بن عمرو الباهلي، وحاول اقناع هاني بتسليم مسلم، وقال لهاني فيما قال له: ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنَّما تدفعه إلى السلطان" فرفض هاني ذلك أشدَّ الرفض وقال: بلى والله إنَّ عليَّ في ذلك للخزي والعار أنا أدفعُ جارى وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى .. واللهِ لو لم أكن إلا واحدًا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه .."([9]).

فاعتذار هاني بأنَّه استضاف مسلم بن عقيل وآواه لأنَّه جاء مستجيرًا به، ولا يسعه ردُّه، لأنَّه لزمَه من ذلك ذِمام وأنَّ امتناعه من إجارته يجرُّ عليه الخزيَ والعار، اعتذار هاني بذلك -لو صحَّ- كان لغرض الدفاع عن نفسِه، ولكي يُبرِّرَ في ذات الوقت عدم امكانه تسليم مسلم، وظلَّ على إصراره وامتناعه من تسليم مسلم رغم أنَّ ابن زياد قد كسَر أنفه بالقضيب وهشَّم وجهه حتى سالت دماءه على ثيابه وتناثر لحمُ خديه وجبينه على لحيته([10]).

هذا لو صحَّ خبر الاعتذار من هاني لابن زياد بأنَّ مسلمًا جاءه مستجيرًا، وقد لا يكون هذا الخبر صحيحًا، وذلك لأنَّه قد ورد فيما يُقابل هذا الخبر -كما في الطبقات لابن سعد- أنّ ابن زياد قال لهاني: "ما حملك على أنْ تُجير عدوِّي وتنطوي عليه؟ فقال -هاني-: ".. إنَّه جاء حقٌّ هو أحقُّ من حقِّك وحقِّ أهل بيتِك" فكان ذلك هو سببُ اعتداء ابن زياد على هاني بالقضيب([11]).

فلم يكن في جواب هاني -بناءً على هذا الخبر- أيُّ ذكر لموضوعِ استجارة مسلم.

هذا وقد أورد الطبري نفسُه خبر المحاورة بين هاني وابن زياد من طريقٍ آخر، وقد اشتمل الخبر على ما يُنافي خبر الاعتذار، فقد جاء في الخبر أنَّ ابن زياد قال لهاني: إنَّ لأبي فضلًا على أبيك حيث إنَّه لم يترك أحدًا من هذه الشيعة إلا قتله غير أبيك ثم لم يزل يُحسنُ صحبتك "فكان جزائي أنْ خبأتَ في بيتِك رجلا ليقتلني" فنفى هاني أنَّه يُخبئ مسلم بن عقيل في داره، وبعد أن أخرج له التميمي الذي كان عينًا عليه قال هاني لابن زياد: "أيُّها الأمير قد كان الذي بلغك، ولن أضيِّع يدك عنِّي فأنت آمن وأهلك فسرْ حيثُ شئت" فاستشاط ابن زياد غضبًا فضرب بالقضيب وجه هانئ حتى كسرَ أنفَه وجبينَه([12]).

فخبرُ الاعتذار إذن له يقابله ويُنافيه، ولذلك لا يُمكن الوثوق بصحَّته، وعليه فلا يصحُّ البناء عليه، على أنَه لو صحَّ فإنَّه لا يدلُّ على أنَّ الواقع كان كذلك فتبريرُ هاني بذلك إنَّما كان لغرض الدفاع عن نفسِه ولغرض تبرير امتناعه من تسليم مسلم. وأمَّا واقع حال هاني وما انطوت عليه سريرتُه فهو ما عبَّر عن بقوله حين أرادوا ضرب عنقه وهو موثوقٌ بالحبال في السوق، قال (رضوان الله عليه): "إلى الله المَعاد، اللهمَّ إلى رحمتِك ورضوانِك، اللهمَّ اجعل هذا اليوم كفارةً لذنوبي، فإنِّي إنَّما تعصَّبتُ لابن بنتِ نبيِّك محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم"([13]). فتلك هي نيتُه وعلى ذلك ثبَت إلى أنْ رحلَ إلى ربِّه شهيدًا.

وخلاصة القول: إنَّ دعوى كراهة هاني لاستضافة مسلم وإيوائه وأنَّه إنَّما قبِل باستضافته حياءً وحتى لا يلحقُه بسبب امتناعه عارٌ ومسبَّة هذه الدعوى باطلةٌ، وتُكذِّبُها الشواهدُ التاريخيَّة المُجمَع عليها من قِبَل المؤرِّخين والتي نصَّت على أنَّ دار هاني لم تكن مأوىً لمسلمٍ وحسب بل كانت معقلًا للشيعة الذين بايعوا مسلم بن عقيل على نصرة الحسين (ع) وحرب بني أميَّة، فكانت الموضع الذي تُؤخذ فيه البيعة، وفيها تُدوَّن أسماءُ المبايعين، وفيها تُجمع الأموال والأسلحة استعدادًا لقدوم الحسين (ع)، ومنها تنطلقُ الرُسل للمهمَّات، وفيها يتمُّ استقبال الرُسل، ومنها تُبثُّ العيون والمراصد، وفيها يتمُّ استقبالها ومتابعة الأوضاع والمستجدَّات، فهل يصحُّ بعد ذلك توهُّم أنَّ هاني (رضوان الله عليه) إنَّما استضاف مسلم بن عقيل حياءً وخشيةً من العار والمسبَّة؟!

هاني كان من عظماء الشهداء:

إنَّ هاني بن عروة من عظماء شهداء النهضة الحسينيَّة، فقد آوى ونصرَ وآثر، واعتُقل وعُذِّب أقسى العذاب رغم شيخوخته فصبر واحتسب، فما تضعضع أو خنع، واستعصى على بني أميَّة إرغامه على تسليم مسلم بن عقيل، ثم قُتل صبرًا، ومُثَّل بجثمانه وسُحب في الأسواق ثم صُلب وبعده اُجتُزَّ رأسه وحُمل إلى الشام

فهو بحقٍّ مصداقٌ لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾([14]) وهو بحقٍّ مصداقٌ لقوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾([15]).

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

7 / محرّم الحرام / 1443هـ

16 / أغسطس / 2021م


[1]- الأخبار الطوال -الدينوري- ص233.

[2]- الأخبار الطوال -الدينوري- ص233

[3]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص270، مقاتل الطالبيين -أبو الفرج الأصفهاني- ص64، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص25.

[4]- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص40.

[5]- الطبقات الكبرى ترجمة الإمام الحسين (ع) -ابن سعد- ص64.

[6]- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج73 / ص346.

[7]- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج4 / ص170، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص299.

[8]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج2 / ص86.

[9]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص273، 274.

[10]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص274.

[11]- الطبقات الكبرى ترجمة الإمام الحسين (ع) -ابن سعد- ص66، تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر- ج3 / ص26-27، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص299.

[12]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص269، 294، الإمامة والسياسة -ابن قتيبة الدينوري- ج2 / ص9.

[13]- الفتوح -ابن أعثم- ج5 / ص61.

[14]- سورة الأنفال / 74.

[15]- سورة الأحزاب / 23.