المُعسكر الأموي أوطأ الخيلَ جسدَ الحسين (ع)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما مدى صحَّة ما يُقال إنَّ خيول الأعوجيَّة طحنت ضلوع الحسين (ع) وعظامه؟
الجواب:
نعم وثَّق أكثرُ المؤرِّخين -إنْ لم يكن جميعهم- من الفريقين ممَّن أرَّخ لمقتل الحسين (ع) هذه الواقعة الفظيعة، وذكروا أنَّ عمر بن سعد قائد الجيش الأموي لحرب الحسين (ع) أمر -في عصر يوم العاشر بعد قتل الحسين(ع)- جماعةً من جُنده أنْ يُوطِئوا الخيلَ ظهرَ الحسين (ع) وصدره، فبادروا لذلك -قبَّحهم الله- فأجالوا خيولهم على الجثمان المقدَّس فرضُّوا ظهره حتى طحنوا جناجنَ صدره على حدِّ تعبير بعضهم.
أوطئوا الخيلَ جسد الحسين (ع) بقرارٍ رسمي:
وكان ذلك بمرسومٍ صدر قبل بدء المعركة عن عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد ورد فيه: "انظُر فَإِنْ نَزَلَ حُسَينٌ وأصحابُهُ عَلَى الحُكمِ وَاستَسلَموا فَابعَث بِهِم إلَيَّ سِلمًا، وإن أبَوا فَازحَف إلَيهِم حَتّى تَقتُلَهُم وتُمَثِّلَ بِهِم .. فَإِن قُتِلَ حُسَينٌ فَأَوطِئِ الخَيلَ صَدرَهُ وظَهرَهُ .. ولَيسَ دَهري في هذا أنْ يضرَّ بَعدَ المَوتِ شَيئًا، ولكِن عَلَيَّ قَولٌ لَو قَد قَتَلتُهُ فَعَلتُ هذا بِهِ .."([1]).
فعمرُ بن سعد لم يكن مكلَّفًا مِن قِبل السلطان الأموي بقتل الحسين (ع) وأصحابِه وحسب بل كان مكلَّفًا مضافًا إلى ذلك بالتمثيل بأجسادهم جميعًا بعد القتل، وكذلك كان مكلَّفًا بأنْ يُوطِئ الخيل صدرَ الحسين (ع) وظهره.
امتثال المعسكر لقرار السلطان الأموي:
وقد امتثل عمرُ بن سعد لذلك فنادى مَن يَنتَدِبُ لِلحُسَينِ (ع) فَيُوطِئَهُ فَرَسَهُ أراد من ندائه ومجاهرته بالأمر أنْ يصل خبره إلى السلطان الأموي وأنَّه قد امتثل لما كان قد رُسم له، شأنُ الخانع الذي يخشى عقوبةَ أسياده ويطمحَ في نوالهم.
ولتوثيق ما ذكرناه والوقوف على شيءٍ من تفاصيل الواقعة المستبشَعة ننقل عددًا من النصوص التي أوردها المؤرِّخون في مصنَّفاتهم:
النص الأول: ما أورده البلاذري في أنساب الأشراف قال: ".. ونادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين فيُوطئه فرسه، فانتدب عشرةٌ، منهم إسحاق بن حياة الحضرمي -وهو الذي سلب الحسين قميصه فبرص- فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضُّوا ظهره وصدره"([2]).
النص الثاني: ما أورده الطبري في تاريخه قال: "ثُمَّ إنَّ عُمَرَ بنَ سَعدٍ نادى في أصحابِهِ: مَن يَنتَدِبُ لِلحُسَينِ ويُوطِئُهُ فَرَسَهُ؟ فَانتَدَبَ عَشَرَةٌ، مِنهُم: إسحاقُ بنُ حَيوَةَ الحَضرَمِيُّ، وهُوَ الَّذي سَلَبَ قَميصَ الحُسَينِ (عليه السلام)، فَبَرِصَ بَعدُ، وأحبَشُ بنُ مَرثَدِ بنِ عَلقَمَةَ بنِ سَلامَةَ الحَضرَمِيُّ، فَأَتَوا فَداسُوا الحُسَينَ (عليه السلام) بِخُيولِهِم حَتّى رَضّوا ظَهرَهُ وصَدرَهُ، فَبَلَغَني أنَّ أحبَشَ بنَ مَرثَدٍ بَعدَ ذلِكَ بِزَمانٍ أتاهُ سَهمُ غَربٍ، وهُوَ واقِفٌ في قِتالٍ، فَفَلَقَ قَلبَهُ، فَماتَ([3]).
النص الثالث: ما أورده الشيخ المفيد في الإرشاد قال: ونادى -عُمَرُ بنُ سَعدٍ- في أصحابِهِ: مَن يَنتَدِبُ لِلحُسَينِ فَيُوطِئَهُ فَرَسَهُ؟ فَانتَدَبَ عَشَرَةٌ، مِنهُم: إسحاقُ بنُ حَيوَةَ، وأخنَسُ بنُ مَرثَدٍ، فَداسُوا الحُسَينَ (عليه السلام) بِخُيولِهِم حَتّى رَضّوا ظَهرَهُ"([4]).
النص الرابع: ما أورده أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيّين: "أمَرَ ابنُ زِيادٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيهِ- أن يُوطَأَ صَدرُ الحُسَينِ (عليه السلام) وظَهرُهُ وجَنبُهُ ووَجهُهُ، فَأُجرِيَتِ الخَيلُ عَلَيهِ"([5]).
النص الخامس: ما أورده الخوارزمي في مقتل الحسين (ع) قال: "ثُمَّ إنَّ عُمَرَ بنَ سَعدٍ نادى: مَن يَنتَدِبُ لِلحُسَينِ (عليه السلام) فَيُوطِئَهُ فَرَسَهُ؟ فَانتَدَبَ لَهُ عَشَرَةُ نَفرٍ، مِنهُم: إسحاقُ الحَضرَمِيُّ، ومِنهُم: الأَخنَسُ بنُ مَرثَدٍ الحَضرَمِيُّ، القائِلُ في ذلِكَ:
نَحنُ رَضَضنَا الظَّهرَ بَعدَ الصَّدرِ ** بِكُلِّ يَعبوبٍ شَديدِ الأَسرِ
حَتّى عَصَينَا اللَّهَ رَبَّ الأَمرِ ** بِصُنعِنا مَعَ الحُسَينِ الطُّهرِ
فَداسوا حُسَينًا (عليه السلام) بِخُيولِهِم حَتّى رَضّوا صَدرَهُ وظَهرَهُ، فَسُئِلَ عَن ذلِكَ فَقالَ: هذا أمرُ الأَميرِ عُبَيدِ اللهِ"([6]).
أقول: اليعبوب هو الفرس العدَّاء السريع الجري، والشديد الأسر هو القويُّ شديد الخَلْق.
النص السادس: ما أورده السيد ابن طاووس في اللهوف قال: ثُمَّ نادى عُمَرُ بنُ سَعدٍ في أصحابِهِ: مَن يَنتَدِبُ لِلحُسَينِ (عليه السلام) فَيُوطِئَ الخَيلَ ظَهرَهُ؟ فَانتَدَبَ مِنهُم عَشَرَةٌ، وهُم: إسحاقُ بنُ حَوبَةَ الَّذي سَلَبَ الحُسَينَ (عليه السلام) قَميصَهُ، وأخنَسُ بنُ مَرثَدٍ، وحَكيمُ بنُ طُفَيلٍ السَّبيعِيُّ، وعُمَرُ بنُ صَبيحٍ الصَّيداوِيُّ، ورَجاءُ بنُ مُنقِذٍ العَبدِيُّ، وسالِمُ بنُ خَيثَمَةَ الجُعفِيُّ، وصالِحُ بنُ وَهبٍ الجُعفِيُّ، وواحِظُ بنُ غانِمٍ، وهانِئُ بنُ ثُبَيتٍ الحَضرَمِيُّ، وأسَيدُ بنُ مالِكٍ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَداسُوا الحُسَينَ (عليه السلام) بِحَوافِرِ خَيلِهِم، حَتّى رَضّوا ظَهرَهُ وصَدرَهُ.
قالَ الرّاوي: وجاءَ هؤُلاءِ العَشَرَةُ حَتّى وَقَفوا عَلَى ابنِ زِيادٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقالَ أسَيدُ بنُ مالِكٍ أحَدُ العَشَرَةِ:
نَحنُ رَضَضنَا الصَّدرَ بَعدَ الظَّهرِ ** بِكُلِّ يَعبوبٍ شَديدِ الأَسرِ
فَقالَ ابنُ زِيادٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: مَن أنتُم؟ قالوا: نَحنُ الَّذينَ وَطِئنا بِخُيولِنا ظَهرَ الحُسَينِ حَتّى طَحَنّا حَناجِرَ صَدرِهِ.
قال أبو عمر الزاهد: فنظرنا إلى هؤلاءِ العشرة فوجدناهم جميعا أولاد زناء، وهؤلاء أخذهم المختار فشدَّ أيديَهم وأرجلَهم بسكك الحديد وأوطأ الخيل ظهورهم حتى هلكوا([7]).
أقول: لعلَّ الصحيح كما في نسخة صاحب البحار جناجن صدره وليس حناجر صدره، والجناجن واحدها جِنْجِنٌ وجِنْجِنة وقد يُفتح حرف الجيم، والجَناجِنُ أَطرافُ الأَضلاع ممَّا يلي قَفصَّ الصَّدْرِ وعَظْمَ الصُّلْب كما في لسان العرب.
النص السابع: ما أورده المحلي الزيدي في الحدائق الورديَّة قال: ".. ولما فرغوا من قتله (عليه السلام) احتزوا رأسه .. وأجروا الخيل بعد ذلك على جثَّته الكريمة حتى تقطعت، وقال عمر بن سعد: هكذا أمرَنا عبيدُ الله بن زياد أنْ نصنع به، فانظر إلى عظيم ما أتوه، وفحش ما ارتكبوه، فقاتلهم الله أنَّى يُؤفكون .."([8]).
وثمة نصوص أخرى غيرها([9]).
حجمُ الأثر الذي يتحتَّم وقوعه للجثمان الطاهر:
وبما ذكرناه من النصوص يتبيَّن حجمُ الأثر الذي يتحتَّم وقوعُه للجثمان الطاهر، فلو أنَّ فرسًا وطئت بحوافرها صدر رجلٍ ملقًىً -دون حِراكٍ- على وجه الأرض لهشَّمت عظام صدره فكيف لو جالت -ذهابًا وإيابًا على جثمانه ظهرًا لبطن- خيولٌ عشر مروَّضة، عليها فرسانٌ قساةٌ جُفاة يجدون في إمعان الفتك متنفَّسًا فإنَّ الأثر سيكون مروِّعًا وغير قابلٍ للتصوُّر، فكم هو وزنُ كلِّ فرس؟! وكم هو وزنُ الفارس الذي عليها؟! وكم مِن الوقت احتاجوا لإرواء غليلهم وتسكينِ غيظهم؟! ولا حول وقوة إلا بالله العليِّ العظيم، والعاقبةُ للمتقين.
وهنا بالمناسبة نشير إلى مسألتين
تسمية الخيول بالأعوجية
المسألة الأولى: تسمية الخيول التي جالت على جسد الحسين (ع) بالأعوجيَّة لم يرد في شيءٍ من النصوص التي نقلناها والنصوص التي أشرنا إلى مصادرها، نعم وردت تسميتها بالأعوجيَّة في القصيدة المنسوبة للسيد إسماعيل الحميري (رحمه الله) والذي كان معاصرًا للإمام الصادق(ع) ومطلعها:
امرُر على جدَثِ الحسين ** وقلْ لأعظمِه الزكية
إلى أنْ يقول:
ما لذَّ عيشٌ بعد رضِّك ** بالجياد الأعوجيَّة
وقد ورد في كتاب كامل الزيارات أنَّ أبا هارون المكفوف أنشد الأمام الصادق (ع) قصيدة الحميري إلا أنَّه لم يرد في الرواية سوى مطلع القصيدة، روى جعفر بن قولويه في كتاب كامل الزيارات بسنده عن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام) قال: فأنشدتُه، فبكى، فقال: أنشدني كما تُنشدون -يعني بالرقَّة- قال: فأنشدتٌه:
أُمرُر على جدَثِ الحسين ** فقلْ لأعظُمِه الزكيَّة
قال: فبكى، ثم قال: زدني، قال: فأنشدتُه القصيدة الأخرى، قال: فبكى، وسمعتُ البكاء من خلف السِتر .."([10]).
فالرواية لم تشتمل على البيت الذي وصف الجياد التي رضَّت عظام الحسين (ع) بالأعوجيَّة إلا أنَّ السيد محسن الأمين(رحمه الله) أفاد في كتابه أعيان الشيعة أنَّ البيت مذكورٌ ضمنَ القصيدة المنسوبة للسيِّد الحميري([11]).
وكذلك وجدتُها في الديوان المنسوب للسيِّد الحميري([12]).
فإذا صحَّت النسبة فإنَّ ذلك يصلحُ شاهدًا على أنَّ الخيول التي وطئت بحوافرها جسد الحسين (ع) كانت من خيول الأعوجيَّة.
وكذلك ورد وصفُ الخيول -التي حاربوا عليها الحسين (ع)- بالأعوجيَّة في القصيدة الشهيرة لابن أبي الحديد المعتزلي صاحب شرح نهج البلاغة المتوفى سنة 656هـ قال:
ولقد بكيتُ لقتلِ آلِ محمَّدٍ ** بالطفِّ حتى كل عضوٍ مَدْمعُ
عُقِرتْ بناتُ الأعوجيَّةِ هلْ درَتْ ** ما يُستبَاحُ بها وماذا يُصْنَعُ
وكيف كان فخيول الأعوجيَّة سلالة من الخيول العربيَّة منسوبة إلى فحلٍ كان يُقال له أعوج تملكه قبيلة كندة، فغنمته بنو سليم في بعض حروبهم أيام الجاهليَّة فصار إلى بني هلال، فخيول الأعوجيَّة من نسل هذا الفحل المسمَّى "أعوج" وتُعدُّ هذه السلالة من كرائم الخيول قيل لم يكن للعرب أشهر ولا أكثر نسلا منها([13]).
وبوصفها من الخيول العربية الأصيلة فهي تمتاز بالسرعة وخفَّة الحركة والقدرة على تحمُّل المناخ الحار والصحراوي وكذلك تمتاز بسرعة استجابتها للترويض وعلاقتها الوطيدة بسائسها وفارسها واستجابتها لأوامره.
استبعاد وطأ الخيل لجسد الحسين (ع) وجوابه:
المسألة الثانية: استبعد بعضُ الكتاب أنْ يكون جسدُ الحسين (ع) قد وطِئته الخيول بحوافرها مستندًا في ذلك إلى دعوى أنَّ الخيل إذا صادفت جسدًا مطروحًا فإنَّها لا تطؤه بل تنحرف عنه أو تقفز من فوقه إلا أنَّ هذا الكلام لا يصح، فإنَّ العرب هم أعرف الناس بخصائص الخيل وصفاتها فهي الرفيق الملازم لهم في الأسفار والحروب، فلو كان من خصائصها أنَّها لا تطأ جثث القتلى لما نقلوا قصص مَن وطأتهم الخيول بحوافرها ولأنكروا على من أخبر عن ذلك كيف ونحنُ نجد كتب قدامى المؤرِّخين تنقل أخبار من وطأتهم الخيول بحوافرها ونجد الشعراء يتغنَّون بما تفعله خيولهم من الجري والمشي على جثث القتلى في الحروب.
ولتوثيق ذلك ننقلُ عددًا من النماذج:
النموذج الأول: ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب قال: قال: لمَّا انهزمت الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان إنسان، فجعلت الروم تُقاتل عليه، وقد تقدَّموه وعبروه، فتقدَّم هشام بن العاص يُقاتلهم حتى قُتل، ووقع على تلك الثلمة فسدّها. فلمَّا انتهى المسلمون إليها هابوا أنْ يُوطئوه الخيل، فقال عمرو بن العاص: أيها الناس، إنَّ الله قد استشهده ورفع روحه، وإنَّما هي جثة، فأوطئوه الخيل، ثم أوطأه هو، ثم تبعه الناس حتى قطَّعوه، فلما انتهت الهزيمة ورجع المسلمون إلى العسكر كرَّ إليه عمرو، فجعل يجمع لحمه وأعضاءه وعظامه ثم حمله في نطعٍ فواراه"([14]).
النموذج الثاني: ما ذكره البلاذري في أنساب الأشراف قال: ولمَّا هُزمت مضر يوم الجبّانة خرج شمر بن ذي الجوشن يُركِض فرسه خارجاً من الكوفة، واتبعه غلام للمختار يُقال له زربيّ فعطف عليه شمر فقتله ولحِق ببعض القرى فنزلها، وكتب إلى المصعب كتابا، ووجّه فيجا فأخذت الفيج مسلحةٌ للمختار، فسألوه عن صاحب الكتاب، فدلّ على القرية التي هو فيها فأنهي الأمر إلى المختار فوجّه إلى شمر خيلًا فلم يشعر إلَّا وقد أحاطوا بالقرية فخرج إليهم .. فقيل: قتله عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني طعنه في ثغرة نحره، ونادى يا لثارات الحسين ثم أوطأه الخيل وبه رمق حتى مات .."([15]).
النموذج الثالث: نذكر فيه بعض أشعار العرب المتضمِّنة للتفاخر بوطء خيولها لجثث القتلى
فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي:
فخاض بالسيف بحر الموت خلفهم ** وكان منه إلى الكعبين زاخرُهُ
حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعتْ ** في الأرض من جثث القتلى حوافرُهُ([16])
يصف الشاعر ممدوحه بأنَّه خاض بحر الموت وهو ميدان المعركة فتهاوى من بطشه وفتكه الكثيرُ من القتلى حتى أنَّ فرسه السريع صار لا يجري ولا يطأ بحوافره الأرض بل يطأ بحوافره جُثث القتلى.
ومنها: قول أبي الطيب المتنبي:
كأن خيولنا كانت قديما ** تُسَقَّى في قحوفهم الحليبا
فمرَّتْ غير نافرةٍ عليهم ** تدوسُ بنا الجماجمَ والتريبا([17])
الجماجم هي الرؤوس والتريب جمع تريبة وهي موضع القلادة أي الصدر، يقول إنَّ خيولهم مرَّت بهم على قتلى الأعداء فصارت تدوس على جماجمهم وصدورهم دون أن تنفر لكونها قد ألِفت هذه المشاهد واعتادت على وطء جثث الأعداء بحوافرها.
ومنها: قول الحصين بن الحمام:
لَدُن غُدوَةً حَتّى أَتى اللَيلُ ما تَرى ** مِنَ الخَيلِ إِلّا خارِجِيًّا مُسَوَّما
يَطَأنَ مِنَ القَتلى وَمِن قِصَدِ القَنا ** خَبارًا فما يَجرينَ إِلّا تَجَشُّما([18])
يقول إنَّ خيولهم يطأن قتلى العدو كما يطأن قِصَد القنا وهي قطع الرماح المتكسِّرة
ومنها: قول أبي الطيب المتنبي:
غزوتَ بها دورَ الملوك فباشرت ** سنابكُها هاماتهم والمغانيا([19])
السنابك هي حوافر الخيول يقول إنَّ ممدوحه قد غزى مقتحمًا دور الملوك فصار يطأ بسنابك خيله هاماتهم.
ثانيًا: إنَّ الخيل قد يكون من طبيعتها النفور حين تُصادف في طريقها جسداً مطروحًا إلا أنَّها من الحيوانات القابلة للترويض بل هي سريعة الاستجابة للترويض، ولهذا نجد الخيل تقتحم بفارسها النار وتقفزُ به من علو، وتخوضُ به الماء رغم أنَّ من طبيعتها النفور من كلِّ ذلك وشبهه، فالخيل إذا أحسنَ سائسُها أدبَها وترويضَها فإنها تستجيب لأوامره.
وعليه فاستبعاد أنَّ المعسكر الأموي أوطأ الخيل جسد الإمام الحسين (ع) استنادًا إلى دعوى أنَّ من طبيعة الخيل النفور وعدم الوطء لجثامين القتلى هذه الدعوى خاطئة بل هي غير مستحقة للنظر لمنافاتها لما نشاهده بالوجدان ولما هو المتعارف والمألوف عند قدامى العرب الذين هم أعرف الناس بطبائع الخيل وصفاتها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
21 / محرم الحرام / 1443هـ
30 / أغسطس / 2021م
[1]- تاريخ الطبري- الطبري- ج4 / ص314، أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص183، الارشاد -المفيد- ج2 / ص88، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص55، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج5 / ص337، مناقب آل أبي طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص247، المختصر في تاريخ البشر -أبو الفدا- ج1 / ص190.
[2]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص204.
[3]- تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص348.
[4]- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص113.
[5]- مقاتل الطالبيّين -أبو الفرج الأصفهاني- ص79.
[6]- مقتل الحسين -الخوارزمي- ج2 / ص38.
[7]- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص80، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص59.
[8]- الحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيدية -حميد بن أحمد المحلي ت: 652 ه- ج1 / 231.
[9]- راجع: البدء والتاريخ -المطهر المقدسي ت: 355- ج6 / ص11، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك -ابن الجوزي- ج5 / ص341، جواهر المطالب -الباعوني الشافعي- ج3 / ص289، مروج الذهب -المسعودي- ج3 / ص62، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص80، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص206، إعلام الورى- الطبرس- ج1 / ص470، الدر النظيم -الشامي المشغري- ص558، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص189، مناقب آل أب طالب -ابن شهراشوب- ج3 / ص259، تذكرة الخواص -سبط ابن الجوزي- ج2 / ص170.
[10]- كامل الزيارات -جعفر بن قولويه- ص208، ثواب الأعمال -الشيخ الصدوق- ص84.
[11]- أعيان الشيعة -الأمين- ج3 / ص429.
[12]- ديوان السيد الحميري ص295.
[13]- راجع: الصحاح -الجوهري- ج1 / ص331، لسان العرب -ابن منظور- ج2 / ص333.
[14]- الاستيعاب -ابن عبد البَر ت: 462ه- ج4 / ص1540، أُسد الغابة في معرفة الصحابة -ابن الأثير- ج5 / ص375، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج4 / ص194.
[15]- أنساب الأشراف -البلاذري- ج6 / ص407.
[16]- شرح ديوان المتنبي -أبو العلاء المعري التنوخي- ج1 / ص7.
[17]- شرح ديوان المتنبي -الواحدي النيسابوري- ج1 / ص147.
[18]- المفضليات -المفضل الضبي- ج1 / ص6.
[19]- شرح ديوان المتنبي -الواحدي النيسابوري- ج1 / ص13.