التعليقُ على خبر: أنت عطشان وأنا عطشان

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

السلام عليكم شيخنا الفاضل

لدي مسألة متعلقة بالإمام الحسين (ع)

وهي مسألة وروده لماء الفرات مع فرسه والحوار الذي دار بينهما "أنت عطشان وأنا عطشان ولا أشرب حتى تشرب .. ففهم الجواد ما قاله الحسين (ع) ورفع رأسه ولم يشرب .. فناداه الأعداء أتلتذ بالماء يا حسين وقد هُتكت حريمك ..".

هل هذا النقل صحيح؟ وإذا كان صحيحاً فلماذا لم يشرب الإمام الماء والشرب لا يستغرق أكثر من دقيقة خصوصاً أنَّ كبده قد فُريت من شدة الظمأ!!!

الجواب:

أوردَ هذا الخبر ابنُ شهراشوب (رحمه الله) في المناقب قال: "وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ عَنِ الْجَلُودِيِّ أَنَّ الْحُسَيْنَ حَمَلَ عَلَى الْأَعْوَرِ السُّلَمِيِّ وَعَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيِّ وَكَانَا فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ رَجُلٍ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَأَقْحَمَ الْفَرَسَ عَلَى الْفُرَاتِ فَلَمَّا أَوْلَغَ الْفَرَسُ بِرَأْسِهِ لِيَشْرَبَ قَالَ (ع): أَنْتَ عَطْشَانٌ وَأَنَا عَطْشَانٌ، وَاللَّهِ لَا أَذُوقُ الْمَاءَ حَتَّى تَشْرَبَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْفَرَسُ كَلَامَ الْحُسَيْنِ شَالَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَشْرَبْ، كَأَنَّهُ فَهِمَ الْكَلَامَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: اشْرَبْ فَأَنَا أَشْرَبُ فَمَدَّ الْحُسَيْنُ يَدَهُ فَغَرَفَ مِنَ الْمَاءِ، فَقَالَ فَارِسٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَتَلَذَّذُ بِشُرْبِ الْمَاءِ وَقَدْ هُتِكَتْ حُرْمَتُكَ فَنَفَضَ الْمَاءَ مِنْ يَدِهِ وَحَمَلَ عَلَى الْقَوْمِ فَكَشَفَهُمْ فَإِذَا الْخَيْمَةُ سَالِمَةٌ"(1).

أقول: بناءً على ثبوت مؤدَّى الخبر فإنَّه لا محذور من قبوله من الجهة المذكورة في السؤال، فإنَّ إلقاء الإمام الحسين (ع) الماء من يده وعدم مبادرته لشربه -رغم أنَّ ذلك لن يستغرقَ طويلاً- نشأ عن كريم أخلاقه وسموِّ نفسه، فذوو المروءات يُؤثِرون التضحية بحاجاتهم وإن كانت ملحَّة بل يؤثرون التضحية بحياتهم في سبيل حماية أعراضهم، فلو أنَّ الإمام (ع) تأنَّى وشرب الماء ولم يُبادر للخروج لقيل إنَّه آثر نفسه -ولو بهذا الوقت اليسير- على حَرَمِه، وهذا ما لا يرضاهُ الغيور على نفسه.

فهو (ع) وإنْ كان يعلمُ أنَّ مَن خاطبه كان كاذباً إذ أنَّ الإمام (ع) لعصمته لا يقع تحت تأثير الحيلة والخديعة، فهو (ع) وإنْ كان يعلم بكذب مَن خاطبه بقوله: "تَتَلَذَّذُ بِشُرْبِ الْمَاءِ وَقَدْ هُتِكَتْ حُرْمَتُكَ" إلا أنَّه لم يكن يسعُه أنْ يشرب وأنْ لا يبادر وهو يسمع بخبرٍ فظيع له قابليَّة الوقوع مِن هؤلاء الأنذال، فلو فعل ولم يُبادر لرُمي بالتهاون في حماية حرمِه.

فما قيل في بعض الكتب المتأخِّرة أنَّه (ع) علم بعد خروجه من الفرات أنَّها حيلة -لا يصحُّ فإنَّ الإمام (ع) لا ينخدع ولا يقعُ تحت تأثير الحيلة وإنَّما أراد أنْ لا يقع في وهم واهمٍ أنَّ الحسين (ع) يتوانى في حماية حرمه ويشتغل بنفسه ولو لوقتٍ يسير عن عرضه، تلك هي سجيًّةُ ذوي المروءات فضلاً عن ذوي العصمة والكمال.

وما قد يُقال إنَّ الحسين (ع) يعلم أنَّ حرَمه لم يتعرَّضنَ لسوء، فلو شرب الماء لما كان متوانياً عن حمايتهنَّ واقعاً قلتُ: هذا صحيح ولكن مِن أين لهؤلاء ولمَن سيصلُه هذا الخبر أنْ يعلموا أنَّ الحسين (ع) كان يعلم بعدم تعرُّض حَرَمِه للهتك، سوف يقعُ في وهْم هؤلاء ومَن يأتي بعدهم أنَّ الحسين (ع) رجَّح الالتذاذ بشرب الماء على المبادرة لحماية عرضه من الهتك.

وأمَّا لماذا لم يشرب الحسين (ع) الماءَ وقد بلغ به الظمأ مبلغاً عظيماً؟! فلأنَّه من أهل بيتٍ لا يعبئون بحاجاتِ أجسادهم إذا تنافت مع قِيَمهم وسموِّ أخلاقهم.

وما قد يُقال كيف يسعى الحسين (ع) لشرب الماء ويقتحم الفرات لذلك والحال أنَّ الأولى به أنْ يسعى لجلب الماء لأطفاله؟

فجوابُه إنَّ ناقل الخبر من الأعداء فهو لا يعلمُ ما هي غاية الحسين (ع) من اقتحامه للفرات، فهو قد رأى الحسين (ع) يُجاهد ليصلَ إلى الفرات فتوهَّم أنَّ غايته من ذلك متمحِّضة في شرب الماء، فلم يكن يعلم أنَّ الحسين (ع) يبتغي من اقتحامه للفرات أنْ يشرب وأنْ يحملَ ما يُتاح له حملُه من الماء إلى أطفاله ونسائه، فالمشهدُ لم يُقدَّر له أنْ يمتدَّ لتُعرفَ منه تمامُ الغاية من اقتحامه للفرات، فسموُّ ذات الحسين (ع) التي تُشفقُ على حيوانٍ فتأبى أنْ تسبقه إلى شرب الماء في ظرفٍ عصيب لابدَّ وأن تكون غايتها من اقتحام الفرات هو السعي لإيصال شيءٍ من الماء إلى الأطفال والنساء.

ملاحظة: الأعور السلمي الذي ورد اسمُه في الخبر ليس هو عمرو بن سفيان المعروف بأبي الأعور السلمي والذي كان من أركان الفئة الباغية ومن قادة جند الشام في صفِّين وكان أميرُ المؤمنين (ع) يقنتُ بلعنه في الصلاة، هذا الرجل تُوفي ظاهراً في حياة معاوية، ولو كان على قيد الحياة لكان شيخاً متقدِّما في السن، فالأظهر أنَّ المقصود من الأعور السلمي في الخبر رجلٌ آخر غير أبي الأعور السلمي الذي شارك مع قبيلة هوازن في الحرب على الرسول (ص) في غزوة حنين(2).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

6 / صفر المظفر/ 1443هـ

14 / سبتمبر / 2021م


1- مناقب آل أبي طالب -ابن شهر آشوب- ج3 / ص215.

2- لاحظ مثلاً: الاستيعاب -ابن عبد البر- ج4 / ص1600، أسد الغابة -ابن الأثير- ج4 / ص109، ج5 / ص138، الإيضاح -الفضل بن شاذان- ص64، شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج3 / ص212، 312، تاريخ خليفة بن خياط -خليفة بن خياط- ص145، الأخبار الطوال -الدينوري- ص167.