الظهور الحجَّة هو النهائي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم
وردت في بعض الروايات عبائر قال الفقهاء عنها إنَّها لا تدلُ على اللزوم أو الحرمة في حين أنَّ هذه العبائر مستخدمة في القرآن في وعيد المنافقين والكافرين.
مثل صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر(ع): "من ترك الجمعة ثلاثًا متواليات بغير علةٍ طبع الله على قلبه"([1]).
وقال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾([2]).
الجواب:
لم يقل الفقهاء عن مثل صحيحة أبي بصير إنَّها لا تدلُّ في نفسها على الوجوب وإنَّما لم يتم الالتزام بالوجوب عند من أفتى بعدم وجوب الجمعة تعيينًا بسبب قيام القرينة من خارج الرواية على أنَّ المستظهَر منها لم يكن مرادًا جدًّا.
فالإفتاء بحكمٍ شرعي لا يتمُّ لمجرَّد الملاحظة لما يظهر بدوًا من روايةٍ واحدة بل يتمُّ ذلك بعد ملاحظة مجموع الروايات والقرائن المكتنِفة بها إذ أنَّ الظهور النهائي الكاشف عن الإرادة الجدِّية لا يتحقَّق إلا من ملاحظة المجموع.
وببيانٍ آخر: إنَّ الأدلَّة التي دلَّت على حجيَّة الظهور إنَّما دلَّت على حجيَّة الظهور النهائي الكاشف عن المراد الجدِّي للمتكلِّم، وأمَّا الظهور البدوي الذي يزول بملاحظة القرائن فهو ليس بحجَّة، فحين يصلنا خبرٌ بهذا اللفظ -مثلًا-: غسلُ الجمعة واجب، فإنَّ المستظهَر بدوًا من هذا الخبر هو أنَّ غسل الجمعة فريضة لازمة على المكلَّف إلا أنَّه لا يصحُّ البناء على هذا الظهور دون ملاحظة الأخبار الأخرى، فلو وجدنا خبرًا أو أخبارًا أخرى مفادها أنَّه يجوز تركُ غسل الجمعة اختيارًا فإنَّها تكون قرينةً على أنَّ اللزوم المستظهَر بدوًا من لفظ الوجوب الوارد في الخبر الأول لم يكن مرادًا جدًّا بل المراد منه الثبوت مثلًا، أي أنَّ ملاحظة مجموع الروايات الواردة في غسل الجمعة كشف عن أنَّ المراد الجدِّي للوجوب الوارد في الخبر الأول ليس هو اللزوم رغم أنَّ الخبر لو خُلِّي ونفسه -ولم يكن بإزائه أخبار أخرى أو قرائن مقتضية لخلافه- لكان ظاهرًا في إرادة اللزوم.
وكذلك لو ورد خبرٌ وكان لفظه: مَن أفطر متعمِّدًا فعليه لعنة الله والملائكة إنْ لم يُطعم ستين مسكينًا، فإنَّ ظاهر هذا الخبر بدوًا هو وجوب الإطعام تعيينًا إلا أنَّه لا يصحُّ التعويل على هذا الظهور والبناء عليه قبل ملاحظة الأخبار الأخرى الواردة في حكم من أفطر متعمدًا، فلو ورد خبرٌ أو أخبارٌ أخرى مفادها أنَّ من أفطر متعمِّدًا فيجب عليه الإطعام أو العتق لرقبة أو الصيام لشهرين متتابعين فإنَّ مقتضى ملاحظة مجموع الأخبار هو البناء على عدم إرادة ظهور الخبر الأول في الوجوب التعييني بل المراد الجدِّي من الخبر هو وجوب الإطعام تخييرًا بينه وبين العتق والصيام.
فالظهور الذي ثبتت له الحجيَّة هو الظهور النهائي للخطاب، وذلك لا يُعرف إلا بعد ملاحظة مجموع كلام المتكلِّم، إذ أنَّ الظهور المُعتبَر هو الكاشف عن المراد الجدِّي للمتكلِّم، ولا سبيل للكشف عن المراد الجدِّي إلا من ملاحظة مجموع الكلام، وهذه هي الطريقة المُعتمَدة لدى العقلاء في مقام استكشاف مراد المتكلِّم، فالكلام لا يكون منجِّزًا ومعذِّرًا عندهم ما لم يُلحظ بتمامه وبما تكتنفه من قرائن لفظيَّة أو مقاميَّة أو سياقيَّة.
فمثلًا لو ورد في متن القانون في المادة الأولى أنَّ من كانت في يدِه وديعة لآخر فاستولى عليها وصرفها في شأنه الخاص وجب عليه الضمان وكان على القاضي تجريمه وسجنه شهرًا كاملًا.
ثم ورد في مادَّةٍ أخرى أنَّ من كان له دينٌ على آخر فأنكره كان للدائن الحقُّ في المقاصة بالاستيلاء على مقدار دينه حتى دون رضى المدين.
فلو قطعنا النظر عن المادَّة الثانية وتمحَّض نظرُنا للمادة الأولى لكان مقتضى ذلك هو تضمين كلِّ مَن استولى على ما في يده من وديعةٍ وتجريمه، فإنَّ ذلك هو مقتضى الظهور الأولي للمادَّة الأولى لكن العقلاء وفقهاء القانون لا يبنون على ذلك بل يُلاحظون مجموع المادَّتين ليخلصوا إلى نتيجةٍ حاصلها وجوب تضمين وتجريم كلِّ مَن استولى على وديعة عنده إلا أنْ يكون صاحب الوديعة مدينًا للودَعي وكان قد أنكر الدين الذي عليه يقينًا أو أبى أنْ يُسدِّده له فإنَّ استلاء الودَعي على الوديعة في هذا الفرض يكون من المقاصَّة المستحقَّة.
ومنشأ الخُلوص إلى هذه النتيجة هو ملاحظة كلا المادَّتين حيث لا يُستكشف المراد الجدِّي من المادَّة الأولى إلا بعد ملاحظة مجموع المواد ذات الصلة. كذلك هو الشأن في معالجة النصوص الشرعية لاستكشاف المراد الجدِّي منها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
17 / ربيع الآخِر / 1443هـ
23 / نوفمبر / 2021م
[1]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج7 / ص298.
[2]- سورة النحل / 108.