رسالتا الإمام الحجَّة (ع) للشيخ المفيد

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

‏"ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم اللهُ لطاعته، على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لمَّا تأخر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجَّلتْ لهم السعادة بمشاهدتنا".

سماحة الشيخ العزيز:

ما هو التخريج لما يُروى عن الشيخ المفيد ومراسلاته مع الإمام الحجَّة (ع) في فترة الغيبة الكبرى؟ ألا تُشكِّل مدخلاً لدعاة السفارة؟

الجواب:

لم تكن ثمة مراسلاتٌ بين الشيخ المفيد (رحمه الله) وبين الإمام الحجَّة (ع) وكلُّ ما في الأمر أنَّ الشيخ الطبرسي (رحمه الله) أورد في كتابه الاحتجاج رسالتين قال إنَّ الإمام (ع) بعثَ بهما في وقتين مختلفين إلى الشيخ المفيد، فلم يدَّع الشيخ المفيد ولا أدُّعي له أنَّه التقى بالإمام (ع) بل ورد التصريح في إحدى الرسالتين أنَّها وصلته بواسطة رجلٍ غير معلوم الهوية.

وأمَّا كيف تمَّ إحراز أنَّ الرسالتين كانتا من الإمام (ع) فذلك لم يتم التصريح به، فلعلَّه نشأ عن أماراتٍ وعلائم أورثتْه العلم بأنَّ الرسالتين صادرتين من الإمام (ع).

وللتثبُّت ممَّا ذكرناه ننقل نصَّ ما أفاده الشيخُ أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي(رحمه الله) في كتاب الاحتجاج قال: "ذكرُ كتابٍ وردَ من الناحية المقدَّسة -حرسَها الله ورعاها- في أيامٍ بقيتْ من صفر، سنة عشرٍ وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه، ذكرَ موصلُه أنَّه يحملُه من ناحيةٍ متَّصلة بالحجاز، نسختُه: للأخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه .."(1).

وقال الشيخ الطبرسي قبل نقل الكتاب الثاني: "ورد عليه كتابٌ آخر مِن قِبله صلواتُ الله عليه، يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجَّة، سنة اثني عشر وأربعمائة. نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم سلام الله عليك أيها الناصر للحقِّ الداعي إليه بكلمة الصدق .."(2).

فالواضح من النصَّين أنَّ ثمة رسالتين وردتا من جهة الإمام الحجَّة (ع) إلى الشيخ المفيد في وقتين مختلفين بينهما قُرابة السنتين وأنَّ الرسالة الثانية وردته قبل وفاته بثمانية أشهر تقريباً(3)، ويظهرُ من النصِّ الأول أنَّ رجلاً غير معلوم الهويَّة حمل الرسالة الأولى إلى الشيخ المفيد (رحمه الله ) وأنَّه جاء من جهةٍ بالحجاز، وأمَّا الرسالة الثانية فأفاد الطبرسي أنَّها وردتْ إلى الشيخ المفيد من قِبَل الإمام (ع) ومعنى ذلك أنَّه لم يكن ثمة لقاء بين الإمام (ع) والشيخ المفيد (رحمه الله) أو حتى مشاهدة، وليس في النصَّين ما يدلُّ أو يُشعِر أنَّ الشيخ المفيد قد ردَّ على الرسالتين، وكلُّ ما في الأمر أنَّ الشيخ المفيد -بحسب النصَّين- قد تلقَّى كتابين من جهة الإمام الحجَّة (ع)، وأين هذا مِن دعوى مدَّعي السفارة والنيابة؟! ومِن دعوى مدَّعي اللقاء المنتظِم مع الإمام(ع)؟! ومِن دعوى التكليف بالتمهيد للظهور؟! ومِن دعوى التلقِّي للأوامر والتوصيات والإرشادات المتَّصلة بكيفيَّة التمهيد للظهور والتشكيل لجماعة الأمر؟!

ثم إنَّ الكتابين لم يتضمَّنا أكثر من الدعوةِ إلى الصبر والمصابرة والثبات على هذا الأمر، والتشديدِ على ملازمة التقوى والاجتناب عن المناهي والذنوب -وأنَّ ذلك يعجِّل بالفرج- والتأكيدِ على انتهاج سيرة السلف الصالح من أولياء أهل البيت(ع) والتحذيرِ من نبذ العهد المأخوذ عليهم، والعملِ بكلِّ ما يُقرِّب من محبة أهل البيت(ع) واجتناب ما يُفضي إلى كراهيتهم وسخطِهم، والحثِّ على التكافل والتوادِّ فيما بينهم، وعقد العزم واجتماع القلوب على الوفاء بالعهد والاعتصامِ بالتقية، والتطمينِ بالعاقبة الحميدة وجميلِ صنع الله تعالى، والتذكير بأنَّهم في رعاية صاحب الأمر (ع) وأنَّه لا يفتأُ يدعو لهم، ولولا ذلك لاصطلَمهم الأعداء وأنَّه يُحيط علماً بأنبائهم ولا يعزبُ عنه شيءٌ من أخبارهم وما يُصيبُهم ويقعُ عليهم في دولة الفاسقين، وكلُّ هذه المضامين قد تواتر نقلُها عن أئمة أهل البيت(ع) وعنه (ع) في عصر الغيبة الصغرى.

ثم إنَّ الكتابين قد تضمَّنا إطراءً وثناءً على الشيخ المفيد وتنويهاً بنهجِه الذي سلك فيه منهج السلف الصالح من أولياء أهل البيت (ع) وفي ذلك تقريرٌ في الجملة من الإمام(ع) للمنهجيَّة المعتمَدة لدى الشيخ المفيد (رحمه الله) والمتمثِّلة في الاستناد لتحصيل معارفِ الدين وتشريعاته وأحكامه إلى الكتاب المجيد والسنَّة الشريفة من طريق أهل البيت(ع) كما يتَّضح ذلك من كُتبِه ومصنَّفاته التي تقتربُ من المائتين، فيكون تقريرُ الإمام(ع) لمنهجيَّة الشيخ المفيد -في الجملة- تقريراً في المآل للمنهجيَّة لدى فقهاء الشيعة في عصر الغيبة الكبرى، إذ هي ذاتها التي اعتمدها الشيخُ المفيد (رحمه الله).

فالكتابان إذن لا يُضيفان شيئاً ممَّا ثبتَ نقلُه بالتواتر عن أهل البيت (ع) ولا يشتملان على شيءٍ يُنافي ما ثبتَ بالضرورة عنهم (عليهم السلام) فسواءً حصلَ الاطمئنان بصدورهما عن الإمام (ع) أو لم يحصل الاطمئنان بصدورهما عنه (ع) فإنَّ المضامين التي اشتمل عليهما الكتابان ثابتة بقطع النظر عن ذلك.

وأين هذا ممَّا ينسبه أدعياءُ السفارة والنيابة والبابيَّة على امتداد تاريخ الغيبة فإنَّ الوقوف على أدبياتهم وسِيَرهم يكشف عن كونِهم أصحاب مشاريع مشبوهة ومناقضة لما ثبتَ من الدين ومذهب أهل البيت(ع) بالضرورة. نعوذُ بالله تعالى من الخُذلان ومِن الزيغ بعد الهدى ومِن الحَور بعد الكَور.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

10 / شعبان المعظَّم / 1443ه

14 / مارس / 2022م 


1- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص318.

2- الاحتجاج -الطبرسي- ج2 / ص324.

3- توفي الشيخ المفيد (رحمه الله) ليلة الثالث من شهر رمضان سنة 413ه عن عمرٍ ناهر السابعة والسبعين فقد كان مولده في الحادي عشر من ذي القعدة سنة 336ه وقيل سنة 338ه أي بعد سبع أو تسع سنوات من وقوع الغيبة الكبرى والتي بدأت بوقاة السفير الرابع الشيخ علي بن محمد السمري (رحمه الله) والذي تُوفي سنة 329ه.