هل يلزم من ردِّ الشمس لعليٍّ (ع) اختلال النظام الكوني
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما رأيكم فيما يُقال من أنَّ حديث ردِّ الشمس لعليٍّ (ع) غيرُ قابلٍ للتصديق لاستلزام وقوعه لاختلال النظام الكوني؟
الجواب:
ردُّ الشمس معجزة، والمعجزةُ إنَّما تكونُ مِن فعل الله تعالى القادر على كلِّ شيء، فهو تعالى مَن خلق الكون وهو الذي يُسيِّره وِفق نظامٍ هو ابتدعَه وقدَّره، فأيُّ محذورٍ في أنْ يُعطِّل ذلك النظام لوقتٍ أو يَستبدلَه لوقتٍ بنظامٍ آخر لغايةٍ اقتضتها حكمتُه، فهل يُعجِزُه ذلك؟!! وهل يُعجِزه أنْ يحفظَ الكون من الاختلال حينَ يُقدِّر أنْ يُعطِّل شيئاً من نظامه لوقتٍ أو يستبدله لوقتٍ بنظامٍ آخر؟!!
ثم ما معنى رُدَّت له الشمس بعد أنْ غابت؟ إنَّ معنى ذلك هو ظهور ضوئها وجرمها بعد غيابه بسقوط القرص، وليس معنى سقوط القرص هو تحرُّك الشمس عن مقرِّها وخروجها عن مدارها، فإنَّ تعاقب الليل والنهار لا ينشأ -كما هو معلوم- عن حركة الشمس بل ينشأ عن دوران الأرض حول نفسها أو قل في محورِها باتِّجاه الشمس كل أربعة وعشرين ساعة تقريباً، فالجزءُ من الأرض الذي يكون مقابلاً للشمس يكون مضيئاً بها وفيه يكون النهار وتكون الشمس فيه مرئية، ويكون الجزءُ الآخر من الأرض ليلاً، فمعنى قولنا: طلعت الشمس هو أنَّ هذا الجزء من الأرض صار -بسبب دوران الأرض حول نفسها باتِّجاه الشمس- مقابلاً للشمس فأصبحَ من الممكن لمَن هو على هذا الجزء من الأرض أن يرى الشمس لا أنَّ الشمس تحرَّكت عن مدارها وجاءت إلى هذا الجزء من الأرض.
فعليه لا يكون القول بردِّ الشمس مقتضياً لحدوث تغيُّرٍ في حركة الشمس والمنظومة الشمسيَّة، فالشمسُ تظلُّ كما هي في مدارها دون حدوث أدنى تغيُّرٍ في حركتها، فأين هو اختلال نظام الكون؟!!
إنَّ غاية ما يلزمُ من القول بردِّ الشمس هو حدوث تغيُّرٍ في حركة الأرض، وهذا لا يؤثِّر على حركة الشمس والمنظومة الشمسية فضلاً عن حركة الكون برمَّته والذي هو أوسع من المنظومة الشمسيَّة بملايين المرَّات.
إنَّ القول بردِّ الشمس لا يلزمُ منه أكثر من تعطيل حركة الأرض عن الدوران حول نفسِها من الغرب إلى الشرق ليُصبح دورانها لوقتٍ يسير من الشرق إلى الغرب، فكان دورانُها على خلاف عقارب الساعة فأصبح دورانُها لوقتٍ يسير كدوران عقارب الساعة من الشرق الى الغرب، ولذلك يُصبحُ من الممكن رؤية الشمس في ذلك الجزء الذي غابت عنه. أي حيمنا رجع ذلك الجزءُ من الأرض -بسبب الدوران العكسي- الى الجهة المقابلة للشمس صار مِن الممكن رؤية الشمس في ذلك الجزء من الأرض.
إشكالٌ وجواب:
وما قد يُقال إنَّه لو توقَّفت حركةُ الأرض أو صار دورانُها عكسياً لأدَّى ذلك إلى اختلال نظام الأرض وانتهى ذلك إلى كارثةٍ عامَّة، أو لا أقلَّ من شعور أهلِ الأرض بذلك التغيُّر الطارئ.
والجواب إنَّه لا يلزم من التوقُّف أو الدوران العكسي حدوثُ كارثةٍ إلا بمشيئة الله تعالى، فإذا شاء تعالى أنْ يُحدِث تغيُّراً في حركة الأرض مع حفظها عن أيِّ كارثة فإنَّ الكارثة لن تقع، فالأرضُ وما حولها إنَّما تسيرُ وِفق إرادته وتدبيره جلَّ وعلا، فإذا اقتضت إرادتُه أنْ لا يترتَّب عن التغيُّر في حركة الأرض أيُّ أثرٍ سيء فإنَّ إرادته ماضية وحكمُه نافذ، وكذلك فإنَّه إذا شاء أنْ لا يشعر بتغيُّر حركتها أحدٌ فإنَّه لن يشعر بذلك مِن أحدٍ، فكما لا نشعرُ بحركة الأرض رغم دوراناها كذلك مِن الممكن أنْ لا نشعر لو حدثَ تغيُّرٌ في جهة دورانها، والمفترض أنَّ الذي وقع كان على سبيل الإعجاز الإلهي، اظهاراً لقدرته واحتجاجاً لنبيِّه (ص) وتكريما لوليِّه (ع).
وخلاصة القول: إنَّ ردَّ الشمس للإمام عليٍّ (ع) لا يلزم منه اختلال النظام الكوني، وغاية ما يلزم من ذلك هو دوران الأرض -لوقت يسير لا يتجاوز مدَّة أداء أربع ركعات -في عكس الاتِّجاه الذي تدور إليه، وبذلك يرجعُ ذلك الجزء من الأرض ليُصبح مقابلاً للشمس فتظهرُ الشمس على ذلك الجزء بعد أن كانت قد غابت عنه، وهذا وإنْ كان مخالفاً لمقتضى طبيعة النظام المقدَّر لحركة الأرض ولكن الذي قدَّر هذا النظام هو مَن قدَّر استبداله لوقتٍ يسير بنظامٍ آخر يحفظُ به الأرض ومَن عليها وفي ذات الوقت يُظهِر لعباده عظيم قدرتِه ويُكرمُ بها مَن ظهرت هذه الآيةُ استجابةً لدعائه.
مقتضيات ظروف الواقعة:
قد يُقال: لو كانت الشمسُ قد ردَّتْ واقعاً لعليٍّ (ع) لشاهد هذه الظاهرة الكونيَّة الكثيرُ من الناس ممَّن هم في ذلك الجزء من الأرض الذي رُدَّت فيه الشمس، وهي مساحةٌ واسعة، فلو وقع ذلك لاستفاض نقلُه مِن قبل الرواة، فكيف لم ينقل هذه الواقعة سوى عددٍ يسيرٍ من الناس رغم أنَّ الدواعي مقتضية لكثرة تناقل هذا الحدث الغريب؟
والجواب:
أولاً: إنَّ وقوع هذه الظاهرة لا يستلزم أنْ يطَّلع عليها الكثيرُ من الناس ممَّن هم في ذلك الجزء من الأرض الذي رُدَّت فيه الشمس، فالوقتُ الذي امتدَّ فيه ظهورُ الشمس بعد غيابها كان يسيراً لا يتجاوز مقدار أداء صلاة العصر كما نصَّت على ذلك الروايات(1)، ولم يكن رجوعُها بعد دخول الليل وظلمة الأُفق ليكون ذلك مُلفتاً بل كان ذلك بُعيد سقوط القرص والذي يكون الأفق في ظرفِه مضيئاً، فمِن الممكن أنْ لا يلتفت لعودة قرص الشمس للظهور بعد سقوطه أكثرُ الناس، ومِن الممكن أنْ يلتفت لذلك آخرون ولكنَّهم لم يقفوا على تفسير ذلك فعبَرتْ هذه الظاهرة من ذاكرتهم بعد أنْ انتهت، فشأنُها شأنُ الكثير من الظواهر الكونية التي يشاهدونها فلا يجدون لها تفسيراً فيُغفلونها، نعم استرعت هذه الظاهرة الغريبة اهتمام مَن هم قريبون من الحدث ومَن نُقل لهم تفسيرُ ما كان قد وقع وهم ليسوا قليلين ولكنَّهم ليسوا من الكثرة بحيث يتعذَّر اخفاؤها بتمادي الزمن هذا اولاً.
وثانياً: إنَّ الدواعي لم تكن مقتضية لكثرة تناقل هذا الحدث بل هي مقتضية للتكتُّم عليه بل ولتكذيبه والتنكُّرِ له أو لا أقلَّ من إغفاله ليُصبحَ بمرور الوقت في طيِّ النسيان، فالمنقبةُ تكشفُ عن تميُّزٍ فاقعٍ لعليِّ بن أبي طالب (ع) ولا يطيبُ لقريش وحلفائها أنْ تُذيع مثل هذه المنقبة -بل وما دونها- بين الناس والأجيال المتعاقبة وقد امتدَّ سلطانُها بعد النبيِّ (ص) قرابة أو ما يزيد على ستة قرون، فكان الرواةُ والمحدِّثون والمؤرِّخون منهم أو ممَّن هم في فلكِهم، وكان الفقهاء والقضاة والخطباء وأئمة الجمعة والجماعات منهم، وكان أميرُ الحاجِّ في المواسم منهم بل وكان المعلِّمون في الكتاتيب منهم، وما كانت تطيبُ نفوس هؤلاء -نظراً للخصومات السياسيَّة والمذهبيَّة- أنْ تشيع بين الناس فضائلُ عليٍّ (ع) وأهل بيته (ع) وكان لهم من السطوة والمال ما يُمكِّنهم من الإخفاء والتعمية على ما يشاؤون إخفاءه والتعمية عليه وما يُمكِّنهم من ترويج ما يشاؤون ترويجَه، وقد أبلى الأمويُّون في ذلك بلاءً عظيماً (2) حيث صارت أزمَّة الأمور بأيديهم بعد ثلاثين سنة من رحيل الرسول الكريم (ص) وامتدَّ سلطانُهم ثمانيةَ عقود، كان عليٌّ (ع) فيها يُلعن على منابر المسلمين في مختلف الحواضر الإسلاميَّة، وقد جهدوا في مدَّة سلطانهم على إخفاء مناقب الإمام عليٍّ (ع) وفضائله، فإذا أعوَزهم المكرُ لجأوا إلى السيف والجلاد حتى قُتل الكثير الكثير من أتباع أهل البيت(ع) تحت كلِّ حجرٍ ومدَر، وبلغ الحالُ بالناس أنَّهم كانوا يخشون على أنفسِهم من تُهمة الانتساب والانتماء لعليٍّ (ع) وأهل بيته (ع) فالناسُ بين حاقدٍ وحاسد حريصٍ على إخفاء كلِّ فضيلة لعليٍّ (ع) وبين مُحبٍّ يخشى على نفسه ومعاشِه من البَوح بفضائل عليٍّ (ع) فدواعي الإخفاء لمناقب عليٍّ (ع) كانت وافرة لدى الفريقين من الناس طيلةَ العهد الأموي والذي امتدَّ لثمانية عقود وهي مدةٌ كافية لضياع واندراس الكثير ممَّا كان يعرفُه الناس من فضائل عليٍّ (ع) وجاء بعد هذا العهد العصيب العهدُ العباسي والذي لم يكن يقلُّ ضراوةً وقسوةً وكيداً وحسداً لأهل البيت (ع) وأتباعهم من العهد الأموي، فالخصومات المذهبيَّة والظروف السياسيَّة والأمنيَّة والتي امتدت لقرونٍ ستة كانت مقتضية للإخفاء وليس الشيوع والظهور.
ثالثاً: رغم الظروف القاسية المليئة بالإرهاب والخصومات المذهبيَّة اقتضت العناية الإلهية أنْ تحتفظ ذاكرةُ المسلمين ومصنَّفاتهم المعتبرة بالكثير من مناقب عليٍّ (ع) وفضائله وإن كان ما ضاعَ واندثرَ أكثرُ ممَّا تمَّ اثباته وتوثيقه.
ومن ذلك حديثُ ردِّ الشمس لعليٍّ (ع) فرغم أنَّ الدواعي كانت مقتضية لخفائه إلا أنَّ ما بقي من أخبار الرواة والمحدِّثين من الفريقين كافٍ للوثوق بوقوعه، فقد استفاض نقلُه من طرقٍ كثيرة متَّصلة بالعهد النبوي وعهد الصحابة والتابعين، وقد ألِّفت الكثيرُ من الرسائل والمصنَّفات لتعدادِ طرق وأسانيد هذا الحديث، ويُمكن الرجوع مثلاً لكتاب الغدير للعلامة الأميني الجزء الثالث(3) للوقوف على ذلك، فقد أحصى في كتابه الكثير من أسماء المصنَّفات والرسائل التي كُتبت لتعداد طُرق حديث ردِّ الشمس وأسماء الرواة للحديث، ورغم كثرة ما أحصاه في كتابه إلا أنَّه لم يستوعب جميع ما تمَّ تصنيفه في ذلك منذ القرن الثالث إلى القرون المتأخِّرة، فدعوى أنَّه لم يَنقل حديث ردِّ الشمس سوى عددٍ يسير نشأت عن عدم المراجعة لمصادر هذا الحديث الشريف.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
13 / شوال / 1443ه
14 / مايو / 2022ه
1- الكافي -الكليني- ج4 / ص562، من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج1 / ص203، خصائص الأئمة -الشريف الرضي- ص56، الإرشاد -المفيد- ج1 / ص346، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص350، قصص الأنبياء -القطب الروندي- ص291.
2- لاحظ مثلاً: ما رواه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب (الاحداث) شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج11 / ص44، 46.
3- لاحظ مثلاً: كتاب الغدير -الأميني- ج3 / ص127، موسوعة الإمام علي (ع) -الريشهري- ج11 / ص93 إلى 97، كتاب رسائل في حديث ردِّ الشمس-الشيخ المحمودي-، شرح إحقاق الحق -المرعشي النجفي- ج5 / ص521، ج16 / ص315، ج20 / ص617، ج21 / ص261، ج23 / ص16، ج30 / ص370، استقصاء المرام -الميلاني- ج1 / ص282.