الولايةُ على البِكر
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
ذهب جمعٌ من الفقهاء استناداً إلى بعض الروايات إلى لزوم استئذان الوليِّ في زواج البكر، وأنَّه لا يصحُّ لها الاستقلال في اتِّخاذ قرار الزواج من أحدِ دون مراجعة وليِّها وهو بنظر الأماميَّة الأب أو الجد من جهةِ الاب.
هذا وقد اعتبر البعضُ الحكمَ بلزوم الاستئذان انتقاصاً مِن قدر المرأة وتنكرُّاً لرُشدها وقدرتِها على اتِّخاذ القرار الصائب كما أنَّه ينافي الحريَّة الشخصيَّة التي هي حقٌّ مكفول لكلِّ إنسان حيث يقتضي أنْ لا تكون لأحدٍ سيادة على أحد، وأنَّ لكلِّ إنسانٍ الحقَّ في اتِّخاذ قراراته بمحض اختياره في ما يتَّصل بشؤون الخاصَّة.
شرائط الولاية وحدودها:
وقبل الجواب عن هذا الإشكال لابدَّ من توضيح بعض المسائل:
المسألة الأولى: إنَّه لا يصحُّ تزويج البكر وكذلك الثيِّب دون إذنها ودون إحراز قبولها الكامل بالزواج وبالزوج الذي تقدَّم لخطبتها، وأن لها الحقَّ في رفض الزوج الذي تقدم لخطبتها، وليس لأحدٍ الحقُّ في الضغط عليها من أجل قبول ذلك، فاختيار الزوج والزواج أمرٌ منوطٌ بها أولاً دون الولي، وهذا الحكم اجماعيٌّ بين الفقهاء رضوان الله عليهم، وقد أكَّدت على ذلك السنَّة الشريفة.
المسألة الثانية: إنَّ الولي لو عضلَها ومنعها من التزويج بالكفؤ فإنَّ ولايته تسقطُ بذلك، وعندئذٍ يكون لها الحقُّ في الزواج من الكفؤ الذي تقدَّم لخطبتها دون الحاجة إلى مراجعة وليِّها حتى لو ابدى ممانعة لذلك.
وبتعبير آخر: يشترط في نفوذ ولاية الوليِّ أنْ يكون حريصاً على مصلحة ابنته أمَّا لو كانت قراراته مُعبِّرة عن إرادة الإساءة إلى ابنته أو كانا مفرطاً فيما يُصلح شأنها نتيجةً لسوء تقديره فإنَّ اعتبار إذنه يكون ساقطاً بذلك.
المسألة الثالثة: يشترطُ في نفوذ ولاية الولي أنْ يكون عاقلاً رشيداً، أما لو كان مجنوناً أو سفيهاً فإنَّ اعتبار إذنه في مثل هذا الفرض يكون ساقطاً، كما أنَّه لو كان الوليُّ غائباً أو محبوساً وتعذَّر استئذانه وكانت البنتُ محتاجةً للزواج فإنَّه لا يُعتبرُ حينئذٍ استئذانه، فلها أنْ تتزوج بمَن تشاء دون الحاجة إلى انتظار عودته.
وبما ذكرناه يتَّضح أنَّ اعتبار استئذان الوليِّ في تزويج البكر إنَّما نشأ عن حرص الشريعة على حماية البنت من استغلال بعض الرجال السيئين، إذ قد لا تكون البنت مطَّلعةً على واقعهم نتيجةََ لقصور خبرتها بالرجال، ويُؤكد ذلك ما أوضحناه في المسألة الثانية والثالثة حيث قلنا إنَّ ولاية الوليِّ لا تكون نافذة إلا عندما يكون حريصاً على مصلحة ابنته، ويكون في ذات الوقت رشيداً حسن التقدير للأمور.
ثم إنَّه وبعد اتِّضاح ما ذكرناه نقول: إنَّه إذا ما أريد معالجة هذه القضية والوقوف على أبعادها لابدَّ من الالتفات إلى أمور:
قرار الزواج هو من أخطر القرارات:
الأمر الأول: إنَّ قرار الزواج خصوصاً من جهة المرأة هو من أخطر القرارات التي يتَّخذها الإنسان في حياته، وذلك لما يترتَّب على هذا القرار من آثار تلامس كلَّ خصوصياتها وتظلُّ تُلاحقه طيلة حياته، ولا يسعه التخلُّص منها ولا محو تبعاتها، وحتى الطلاق -والذي هو إنهاء العلاقة الزوجية- فإنَّه أثرٌ من آثار ذلك القرار الصعب، وهو وإنْ أوجب انتهاء العلاقة الزوجيَّة إلا أنَّ ظلال تلك العلاقة يظلُّ مخيِّماً على كلا الطرفين، فثمة أولاد وثمة ذكريات، وثمة علائق أُسريَّة تهاوت وانفصمت، وقلوبٌ بالشحناء امتلأت، فلولا قرار الزواج لكانت تلك العلائق ملتئمة أو أنَّها غير متباينة.
فقرارُ القبول بتأسيس علاقة زوجيَّة يُنتج تحوُّلاً خطيراً في حياة الإنسان، فهو يُسهِمُ إلى حدٍّ بعيد في إعادة صياغة كلٍّ من الطرفين وخصوصاً المرأة، وهذه الصياغة لا تقفُ عند حدِّ البعد النفسي بل تمتدُّ لتستوعبَ كلَّ أبعاد شخصية الإنسان السلوكيَّة والاجتماعيَّة بل وحتى الفكريَّة والدينيَّة، فهي إمَّا أنْ تُنتج الاستقرار أو الاضطراب النفسي، وهي إمَّا أنْ تُنتج الاستقامة أو الانحراف أو التذبذب، كما أنَّها تُلقي بظلالها على موقعه الاجتماعي، وتُؤثر في نشاطه أو خموله، وقد تنحرفُ به عمَّا كان يعتقده ويؤمن به، أو تصحِّح من فكره واعتقاداته، كما أنَّ لها انعكاسات على أُسرته وقرابته.
وليس في ما ذكرناه أدنى مبالغة فكلُّ مَن خَبِرَ العلائق الزوجيَّة وعاش في أوساط المجتمع يعرفُ دقَّة ما ذكرناه.
عالم الرجل وعالم المرأة:
الأمر الثاني: هو أنَّ عالم الرجل يختلفُ عن المرأة، فكلٍّ منهما ملكاته وقرارته وطرائقه في التفكير ومعالجة الأمور، كما أنَّ لكلٍّ منهما حاجاته مِن الآخر، ولذلك يعتبر كلُّ واحد منهما أنَّ علاقته بالآخر ناجحة لو أعتقد إمكانية قدرة الآخر على تلبية حاجاته، فقد يذهلُ عن كلِّ شيءٍ إذا ما وجد في صاحبه ما يصبو إليه، ثم لا يستيقظ إلا على وقع الألم الذي نتج عن إغفاله للصفات الأخرى التي كان ينبغي ملاحظتها حين اتِّخاذ قرار الزواج وعندها لا ينفعُ الندم.
والمرأةُ حين فشلِ العلاقة تكون أكثر تضرُّراً من الرجل كما هو أوضح من أنْ يخفى على أحد، كما أنَّ احتمال خطئها في اتِّخاذ قرار الزواج أكبر خصوصاً إذا كانت بنتاً باكراً لا خبرة لها بالحياة، ولم تخُضْ تجربةً سابقة مع رجل، فهي لا تعرف كيف وما هي تطلُّعاته ومن أيِّ منطلقٍ يتحرَّك وعلى أيِّ أساس يغضب ويرضى، وما هي دوافع سلوكه، وأيُّ شيءٍ يستهويه، وما هي الامور التي تُزعجه.
كما أنَّ المرأة بطبيعتها -وقد أثبتنا ذلك في بحوثٍ سابقة- شديدة العاطفة والانفعال مع ما تُشاهده وتسمعه، ولا يكاد يخلو قرارٌ من قراراتها من التأثر بذلك، فقد تقبل برجلٍ زوجاً لأنَّه أسمعَها كلاما جميلاً أو أسدى إليها معروفاً وتغفل بذلك جميع مناحي شخصية ذلك الرجل، وقد يكون منشأ قبولها به هو أنَّها وجدت فيه ما تصبو إليه من شجاعة أو لباقة أو مكانةٍ اجتماعيَّة وتذهلُ عن أنَّ ثمة صفاتٍ ينبغي توفُّرها في الزوج وأنَّه عندما لا تكون موجودةً فيه فإنَّ حياتها معه سوف تكون جحيماً.
وقد يشتدُّ بها الوجد وتخرج عن سمتها وتفقدُ توازنها لمجرَّد أنَّه راسلها وكتب لها كلاماً غراميَّا يُعبِّر فيه عن إعجابه بها وعشقه، ويصف فيه جمالها وغنوجتها وأنَّه على استعدادٍ للتضحية بكلِّ شيءٍ من أجلها وأنَّ رضاها هو أملُه وبُغيته، وأنَّه لا طعمَ للحياة إلا بوصالها وقربِها منه.
وبذلك تلتهبُ مشاعرها وينتابُها إحساسٌ بالسعادة والخوف من أنْ لا تحظى منه بوصال، وتغفل عن أنَّه قد يكون كاذباً، وقد يكون صادقاً إلا أنَّه واهم وحينما تتكشف له الأمور ويرى غير ما كان يتوهَّم عندها يُصبح وحشاً كاسراً. وقد تكون مشاعره نابعة عن رغبةٍ جنسية جامحة سرعان ما تذوي وتذبُل. على أنَّه لو كان صادقاً وكانت مشاعره أحاسيسه نابعة عن قلبٍ قد استحكم فيه العشق فإنَّ ذلك لا يغفرُ لصفاته السيئة التي قد يكون عليها أو لصفاته التي لا تُلائمها ولا تنسجمُ مع طبائعها.
على أنَّه لابدَّ من التنبيه أنَّ ثمة رجالاً سيئين لا تبدو مخابرهم لا بالتحرِّي والفحص وذلك لقدرتهم على إخفاء معائبهم وسوءاتهم، فهم يظهرون بمظهر المتدينين فإذا ما جدَّ الجدُّ تبيَّن أنَّهم شرُّ خلق الله عزَّ وجلَّ وأجرؤهم على الظلم.
ومن أين للبنت الصغيرة -والتي لا خبرة لها بالرجال- أنْ تتعرَّف على كلِّ هذه الخبايا وهي لم تخُض تجربةً سابقة، مع ما هي عليه من إحساسٍ مرهَف وشعورٍ مفعم بالبراءة والطهارة. وها نحن نقرأ كلَّ يومٍ عمَّا يحدث في العالم خصوصاً في العالم الغربي من استغلال الرجال للعذارى والصغيرات، فكم من رجلٍ سيئ استغلَّ براءة فتاة ولوَّث طهاتها، فحوادثُ الهروب بالفتيات وعمليَّات الإجهاض للأبكار تفوقُ حدَّ التصوُّر حيث إنَّ نسبة الإجهاض في مثل المانيا في هذا العام للفتيات والصغيرات اللواتي لا تتجاوز أعمارهن العشرين أكثر بكثير من نسبة الإجهاض للنساء المتزوِّجات، وهذه نتيجة حتميَّة للحريَّة الشخصية المطلقة التي تكبِّلُ يدَ الاب والقانون و تمنعهم من التدخُّل في مطلق ما يتصل بشؤون الصغار من البنات والأولاد.
الولاية جُعلت لأحرص الناس:
الأمر الثالث: هو أنَّ مَن جُعلت له الولاية في حدودها الضيِّقة التي لا تتجاوز الإذن في زواجٍ قد تمَّت الموافقةُ عليه من قِبل البنت بمحضِ اختيارها، إنَّ مَن جُعلت له الولاية إنَّما هو الأب الذي هو أحرص الناس على مصلحةِ ابنته والتي ربَّاها وغمرها بعطفه وحنانه وضمَّها إلى كنَفِه يذودُ عنها كلَّ مخاطر الحياة ويسهرُ لراحتها وينزعجُ لمجرَّدِ بكائها، ولا يقرُّ له قرار إذا ألمَّ بها مرضٌ أو انتابها حزنٌ أو تعرَّض لها أحدٌ بسوء فهو يُعادي فيها أخصَّ أقربائه، ولا يُبالي أنْ يبذل كلَّ ما عنده ليضمن بذلك سعادتها، ويصونها من كلِّ محذور يخشى وقوعها فيه.
فالولاية إذن لم تُجعل لعدوٍّ يُخشى عليها منه أو لأجنبيٍّ لا يهمُّه إلى ما يؤول إليه حالُها وإنَّما جُعلت لمَن هو على استعدادٍ للتضحية بكلِّ ما عنده من أجل أنْ يضمن لابنته مستقبلاً زاهراً كريماً.
أبعاد جعل الولاية للأب:
من هنا وحينما نقفُ على هذه الأمور الثلاثة موقف إنصاف تتَّضح لنا أبعادُ هذا الحكم المذكور، فحينما نستحضرُ خطورة القرار بقبول الزواج لما يترتَّب عليه من تبعات وآثار، وأنَّ هذه التبعات تُلامس كلَّ خصوصيات المرأة على وجهٍ خاص، ونستحضرُ في ذات الوقت قصور خبرة البنت الباكر بالرجال، وأنَّها لم تخُض معهم تجربةً بهذا الحجم من الحساسيَّة، وأنّ مخابر الرجال متفاوتة، وأنَّه لا يتبيَّن حالهم وواقعهم لمجرَّد ما يظهرُ من سلوكهم، وحينما نستحضرُ بالإضافة إلى كلِّ ما ذكرناه أنَّ المرأة وبحكم طبيعة تكوينها شديدةُ العاطفة خصوصاً في مثل هذه المسألة التي هي ألصقُ شيءٍ بالمشاعر حيث تحرك فيها رغبة جامحة كامنة في أعماق النفس، فهي تطمح أنْ تكون معشوقةً وزوجةً وأُمَّاً وسيدة، وعندئذٍ أليس ثمة من خشية جديَّة في أن يكون هذا القرار الصعب خاطئاً؟ فماذا بعدئذ أليس هو الضياع؟ أليس مِن الأجدى تفادياً لهذا المحذور الخطير أنْ يشارك البنت في هذا القرار مَن هو أحرصُ الناس على مصلحتها، وأعرفُ الناس بطبيعة ابنته ومزاجِها وفي ذات الوقت هو رجلٌ يعرفُ مخابر الرجال، وقد خاض معهم التجربة تلوَ الأخرى.
فليس لاعتبار مشاركة الأب لابنته قرارَ الزواج -بعد ملاحظة الشروط التي ذكرناها في أول البحث- أيُّ انتقاص للمرأة وإنَّما هو حياطة لها وصيانة لمصيرها ومستقبلها من الضياع.
الولاية ورُشد المرأة:
ولو كان اعتبار الولاية في النحو المذكور تنكُّراً لرُشد المرأة وقدرتها على اتِّخاذ القرار الصائب -كما قيل- لكانت الولاية معتبرة حتى بالنسبة للمرأة الثيِّب والتي خاضت تجربةَ الزواج قبل ذلك في حين أنَّ الفقهاء -وتبعاً للسنَّة الشريفة- مٌجمِعون على أنَّه لا ولاية للأب فضلاً عن الآخرين على المرأة الثيِّب وأنَّ لها اختيار من شاءت دون أنْ يكون لأحدٍ المشاركة معها في اتِّخاذ قرار الزواج، وهو ما يُعبِر عن أنَّ اعتبار الولاية على البنت الباكر أنَّما هو لقصور خبرتها بشؤون الزواج، لا أنَّه ناشئ عن عدم أهليتها الذاتيَّة لاتخاذ القرار الصائب، فالبنت البكر أشبهُ شيءٍ بالموظَّف الجديد الذي لم يخُض تجربةً سابقة، فهل أنَّه حينما يُكلَّف أحدٌ بملاحظته فإنَّ له أن ينزعج ويغضب؟ وهل أنَّ ذلك يُعتبر امتهاناً وانتقاصاً لقدرته ولياقته للقيام بوظيفته؟! أليس من الإنصاف أنْ يتفهَّم هذا الموظف مغزى الإجراء الذي يتَّخذه صاحب العمل تجاهه؟ أليس لصاحب العمل الحقُّ في الاحتياط لأمواله وتجارته؟ فإذا كان كذلك فالإسلام حينما فرض الولاية على البنت الباكر أراد أنْ يحتاط لأغراضه السامية والتي يعود نفعُها لنفس البنت.
النصيحة لا تُغني عن جعل الولاية:
قد تقول: إنَّه ولتفادي ما ذُكر من قصور خبرة البنت الباكر بالرجال وشؤون الزواج لا يتعيَّن فرض الولاية عليها، إذ من الممكن معالجة هذه القضية بأسلوبٍ آخر، وهو نصيحة البنت عندما يُخشى عليها من الاختيار غير المناسب.
فإنَّنا نقول: إنَّ هذا الأسلوب لمعالجة هذه القضية غير صحيح، وذلك لأن النصيحة وحدها قد لا تكفي لصرف البنت عمَّا اختارته لو كان الأمر بيدها وحدها، إذ قد لا تستوعبُ ما تسمعه لقصور وعيها عن إدراك ذلك أو لشدَّة رغبتها في الارتباط بمَن تقدَّم لخطبتها أو لشدَّةِ حاجتها إلى الزواج والذي تخشى أن يفوتها لو لم تقبل بهذا الرجل المتقدم لها، أو لسأمها من طبيعة حياتها وترغب في الانتقال إلى حياةٍ أخرى لعلَّها تكون أفضل مما هي عليه. كلُّ ذلك وغيره قد يدعو البنت لتجاوز أبيها لو لم یکن تمام زواجها منوطاً بإذنه بعد قبولها ورضاها التامِّ به.
مسؤوليَّة القرار:
ثم إنَّ هنا أمراً ينبغي التنبيهُ عليه، وهو أنَّ اعتبار مشاركة الأب في قرار القبول بالزواج يُحمِّل الأب مسؤولية هذا القرار، ولذلك يرى نفسه مُلزماً بالوقوف إلى جانب ابنته لو طرأ نزاعٌ بينها وبين زوجها وكان زوجُها ظالما لها في هذا النزاع، فالأب في مثل هذا الظرف لا يُمكنه القول بأنَّ ذلك ما اختارتَه لنفسها فلتعالج مشكلتها وحدها، إذ أنه كان شريكاً معها في قرار القبول، ولذلك فهو يسعى جاهداً لمعالجة المشكلة لا بدافع الأبوة وحسب وإنَّما بدافع الشعور بمسؤوليَّته عمَّا يحدث لابنته نتيجة القرار الذي اتَّخذه معها، وهو ما يدفعه أيضاً لمساندتها لو طلَّقها زوجُها دون أن يكون له معاتبتها وتوبيخها.
على أنَّه لو لم يحدث كلُّ ذلك فإنَّ البنت عندما يكون زواجها برضا أبيها فإنَّها تذهب إلى بيت زوجها عزيزةً كريمة تستشعرُ القوة لمعرفتها بوجود سندٍ يحميها من بخس زوجِها وظلمه -لو اتَّفق ذلك- كما أنَّ ذلك يمنعُ زوجها من استضعافها لمعرفته أنَّه لو تخلَّى عنها فإنَّها لن تضيع وأنَّ وراءها سنداً يذودُ عنها ويحميها لو أساء إليها، وهذا بخلاف ما لو تخلَّت عن أبيها وتجاوزته فإنَّها لن تتمكن من الشكوى إليه لو طرأ ما يدعو لذلك، وقد لا تجدُ منه استجابةً لو تجشَّمت عناء الشكوى إليه، وذلك لسخطِه منها واستشعاره عدم المسؤوليَّة عنها بعد أن خلعت نفسها منه وكابرته ولم تُعِر له ولرأيه اهتماماً.
البُعدُ الأخلاقي:
هذا بالإضافة إلى أنَّ اعتبار الولاية له بُعْدٌ أخلاقي، هو عرفان الجميل الذي أسداهُ الأبُ لابنته طوال حياتها، فقد كان يحرص على رعايتها وتنشئتها، ويجهد في أنْ لا يُصيبها مكروه وأنْ لا يلمُّ بها سوء، وكان يذود عنها الأخطار ويُؤثرها على نفسه وراحته، فهل من الذوق بعد كلِّ ذلك تجاوزه ومكابرته؟ ألا يستحقُّ هذا الرجل الرحيم وساماً هو أنْ تستأذنه ابنتُه للرحيل عنه.
ثم لو تأمَّلنا الأمر جيداً لوجدنا أنَّ اعتبار الولاية يُساهم إلى حدٍّ كبير في توطيد العلائق الأُسرية ليس بين الأب وابنتِه وحسب بل بين الأُسرتين، وذلك لأنَّ الزواج إذا تمَّ بمباركة الأب وهو عميد أُسرة البنت فإنَّ النفوس بذلك الزواج تكون راضية، وهو ما يوثِّق العلاقة بين الزوج وأُسرته وبين أُسرة البنت.
الحريَّة الشخصية واعتبار الولاية:
وأمَّا دعوى أنَّ اعتبار الولاية يُنافي الحريَّة الشخصيَّة والتي هي حقٌّ مكفولٌ لكلِّ إنسان فقد اتَّضح فسادها، فإنَّه ما من أحدٍ ينبغي أنْ يُؤمن باستحقاق الإنسان للحريَّة المطلقة، لأنَّ ذلك ينافي حريَّات الآخرين، كما أنَّه يقتضي استحقاق الإنسان لتجاوز القيم الدينيَّة والإنسانيَّة والتي يُدرك العقل ضرورة الالتزام بها، فإنَّ ثمة براهين عقليَّة محكمة وقطعية دلَّت على لزوم التديُّن بدين الله عزَّ وجل، كما دلَّت على ضرورة الالتزام ببعض القيم
والتي يكون تجاوزها منافياً لإنسانيَّة الإنسان، ولأنَّنا نتحدَّث عن حريَّة الإنسان فهذا يقتضي الحديث عن الحريَّة التي لا تُخرج الإنسان عن حدود الإنسانية.
وبتعبيرٍ آخر: إنَّ الحرية الشخصيَّة حقٌّ مكفول لكلِّ إنسان، وأنَّه لا يسوغ لأحدٍ التنكُّر لهذا الحقِّ إلا أنَّه وحتى لا يكون الحديث عن مفهومٍ عائم يستثمره كلُّ أحد لصالحه وصالح متبنَّياته ويتَّخذ منه وسيلةً للطعن على مَن يختلفُ معه في التوجُّه، فحتى لا يكون الأمر كذلك لا بدَّ من تحديد معالم هذا المفهوم فنقول:
مفهوم الحريَّة الشخصيَّة:
إنَّ مفهوم الحريَّة وإنْ كان واضحاً في الجملة إلا أنَّ حيثياته وقيوده لا تخلو من خفاء وهو مَا قد يُنتج الخطأ في التعاطي مع هذا المفهوم، فأنْ يفعل الإنسان ما يشاء دون الاكتراث بمَن حوله ودون الاهتمام بالمعايير والمُثل التي تفوقُ المشيئة المطلقة أهميةً ليس من الحريَّة التي يعتبرُها العقل حقاً مكفولاً لكلِّ أحد.
فالعقل وإنْ كان يُدرك استحقاق الإنسان لأنْ يكون حرَّاً طليقاً إلا أنَّ ذلك ليس بلا حدود، إذ مع افتراض الإطلاق لهذا الحقِّ تكون للعقل أحكامٌ متباينة ومتضادَّة حيث إنَّ الحرية قد تتقاطع مع حريات الآخرين وقد تتقاطع مع القيم والمُثل التي يُدرك العقل لزوم الاعتناء بها وعدم تجاوزها، وحينئذ لو كان العقل يحكم باستحقاق الإنسان للحريَّة المطلقة فهذا معناه استحقاقه لأنْ يظلم ويتعدَّى على حقوق وحريَّات الآخرين، كما أنَّ استحقاق الحريَّة المطلقة يعني أنَّ للإنسان أنْ يتجاوز كلَّ المُثل والقيم والتي يُدرك العقل أيضاً لزوم التحفُّظ عن تجاوزها.
وهذا هو معنى استلزام القول بالحريَّة المطلقة للتضاد والتبايُّن فيما يحكم به العقل، وهو مستحيل، إذ أنَّ أحكام العقل لابدَّ وأنْ تكون منسجمة ومتناغمة فيما بينها، وهذا ما يُؤكد لزوم تقييد الحرية بما لا ينافي الأمرين المذكورين.
ولتوضيح ذلك أكثر نقول:
إنَّه لا بدَّ لتقرير مفهوم الحريَّة الإنسانيَّة من ملاحظة أمرين:
الأمر الأول: إنَّ الحرية لمَّا كانت حقَّاً مُشاعاً لكلِّ أحد فهذا يعني استحالة استحقاق كلِّ أحد للحريَّة المطلقة، لأنَّ افتراض الإطلاق يُساوق حرمان آخرين مِن هذا الحق، إذ أنَّه يُعطي الشرعيَّة للأقوياء أنْ يتسلَّطوا على الضعفاء، ويُسخِّروهم لمصالحهم الخاصَّة، وهذا هو معنى أنَّ الحرية المطلقة تُنتج حرمان الضعفاء من الحريَّة الشخصيَّة.
ومن هنا لا بدَّ من تقييد هذا الحقِّ حتى لا يُساء استغلاله من قِبل أصحاب النفوذ والقوَّة، ثم إنَّ هذا المقدار من التقييد لا يكفي لمعالجة إشكاليَّة التضاد والتبايُن فيما يحكم به العقل، ولهذا لا بد من ملاحظة الأمر الثاني.
الأمر الثاني: إنَّ البناء على استحقاق الإنسان للحرية المطلقة يستلزم إلغاء كل القيم والمثل الإنسانية، كما يستلزم الإعراض عن أهداف الرسالات السماويَّة واعتبار تعاليمها مجرَّد إرشادات غير مُلزِمة.
فمعنى أنْ يكون للإنسان مطلق الحريَّة فيما يفعل ويُمارس هو أنَّ له أنْ يتجاوز كلَّ الاعتبارات العقلائيَّة والشرعيَّة، فله هو أنْ يكذب إذا لم يكن الكذب في نظره مضرَّاً بالآخرين، وله أن يُمارس الزنا واللواط إذا كان ذلك برضا الطرف الآخر، كما أنَّ له أن يُعاقر الخمر والشراب المُسكر وأنْ يفعل بنفسه ما يشاء حتى الانتحار، وأمَّا تصرفاته في أمواله فهي بلا تخوم ما لم تضر بالآخرين ضرراً مباشراً، فله أنْ يقامرَ بها، وله أن يحتكرها، وله أنْ يبذِّرها، وأمَّا علاقاته فله أنْ يقيمها مع مَن شاء وبأيِّ كيفيَّةٍ شاء، فله أنْ يتزوج بأمِّه وأخته وابنته، أو أنْ يمارس معهن الزنا إذا كان ذلك برضىً منهن، كما أنَّ له أنْ يتزوج برجل مثله.
ثم إنه ليس ملزماً بالنفقة على أولاده وأبويه ورعاية شؤونهم، لأنَّ قيد الحرية هو أنْ لا يُوقع الضرر بالآخرين أمَّا أن يفعل ما فيه نفعهم فهذا ما لا يقتضيه القيد المذكور، ولهذا يكون معنى التكافل والتعاون مساوقاً للسفاهة بنظر أصحاب هذا الاتِّجاه.
فلأنَّ الحرية المطلقة تستلزم كلَّ تلك المحاذير -التي لو سادت مجتمعاً لأوجبت فساده- كان من المبرَّر عقلائيَّاً تقييدها بما يُنتج التناغم بين منحِ الحريَّة للإنسان وبين المٌثل والقيم الدينيَّة والإنسانيَّة.
لا منافاة بين الحرية واعتبار الولاية:
وبما ذكرناه يتضح أن اعتبار الولاية لا ينافي الحرية الإنسانية للبنت الباكر لأن اعتبار الولاية لا يعني أكثر من لزوم مراجعة لأبيها فيما يتَّصل باختيارها، فليس لأبيها أنْ يختار لها زوجا وإنما هي إذا اختارت زوجاً فإنَّ لأبيها الحقَّ في أن لا يقبل به زوجا لابنته على أن يكون عدم القبول مبرَّراً عقلائيَّاً ويكون هذا المبرِّر مناسباً لمصلحة البنت، ولهذا قلنا إنَّه لو منعها من أصل الزواج أو منعها من التزوج بالكفء فإن ولايته تسقط بذلك.
فوظيفة الأب تتمحَّض في مراجعة قرار البنت بالقبول من حيث مناسبته لمصلحتها أو عدم مناسبته، أمَّا لو كان قرارها هو عدم القبول فإنَّه ليس لأبيها الحقُّ في إرغامها على القبول حتى عدم لو رأى أنَّ ذلك مناسبٌ لمصلحتها.
ومن الواضح أنَّ ذلك لا ينافي حريَّة البنت، لأنَّ المنافي للحريَّة هو إرغامها على القبول رغم عدم إرادتها لذلك، وأما منعها من زوجٍ تختاره ويكون ذلك بداعي الحرص على مصلحتها فهو ليس من سلب الحرية الشخصيَّة وإنَّما هو ترشيد لها نظراً لقصور خبرتها، مما قد ينتج الخطأ في التعاطي مع هذا الحقِّ لو كان مطلقاً فقد يحدو بها ذلك إلى أن تتجاوز الخطوط المحرَّمة أو تتنكب الطريق الجادة فينتهي الأمر إلى ضياعها، وذلك هو ما يُبرر جعل النظارة عليها في حدود ما ذكرناه.
ففرقٌ بين تزويج البنت قسراً وبين منعها من الزواج بمَن تختاره رعايةً لمصلحتها، فالأول لا يترك مساحة لحريَّة البنت وأما الثاني فهو يُبقي الخيارات مفتوحة للبنت ولكن مع إعطاء صلاحية للأب في أن يراجع الخيار الذي تتبنَّاه، فإنْ كان منافياً لمصلحتها وإلا كان لها الحريَّة في أن تتبنى خياراً آخر في ضمن خيارات أُخرى كثيرة، فالثاني وإن كان فيه نحو من التقييد للحريَّة إلا أنَّه مبرَّرٌ عقلائياً كما اتضح ذلك مما تقدَّم. فما مِن عاقلٍ يرى أنَّ التقييد سيئ دائماً فها هـم العقلاء يمنعون الأولاد والبنات من المشاركة في الانتخابات إذا كانوا دون السنِّ القانوني ولو بشهرٍ واحد، ويبرِّرون ذلك بقصورهم عن اهليَّة الانتخاب.
فـالـمـوردان وإنْ كان بينهما اختلاف ولكنَّنا أردنا رفع الاستيحاش عن التقييد المذكور بهذا التنظير وإلا فالتقييد المذكور في المثال يحرم مَن هم دون السنِّ القانوني عن أصل الاختيار، وأما مورد الحديث فليس كذلك حيث إنَّ البنت الباكر تختار الزوج الذي تُريده ويتمحض دور الأب في مراقبة ومراجعة قرار البنت فإنْ كان صائباً أمضاه وإلا كان لها اختيار زوجٍ آخر بمحض إرادتها.
وخلاصة القول: إنَّ الحريَّة المطلقة هي المنافية لاعتبار الولاية على البكر إلا أنه ليس في ذلك من بأس، إذ ما من أحدٍ من العقلاء يؤمن باستحقاق الإنسان للحريَّة المطلقة وإلا لكانت كلُّ القوانين مجحفة لحقِّ الإنسان، إذ أنَّ معنى القانون يُساوق الحدَّ من حرية الإنسان، وذلك لأنَّه ما مِن قانون إلا وهو مشتمل على أحكامٍ منافية لإرادة ورغبات بعض المُلزَمين بتطبيقه، ومع ذلك لا يصحُّ نسبة الظلم إلى ذلك القانون لمجرَّد منافاته لرغبات المنتسبين إليه، نعم يمكن وصف بعض القوانين بالظلم لو كانت إمَّا غير مبرَّرة عقلائيَّاً أو لم تكن قائمة على أساسٍ عقلي قطعي، أما لو كانت واجدةً لكلا الشرطين فإنَّ مجرد تقييدها لمساحةٍ من حرية الإنسان لا يُعد ظلماً واقعاً وبنظر العقلاء.
والحمد لله ربِّ العالمين
مقتبس من كتاب مقالات حول حقوق المرأة
الشيخ محمد صنقور
سبتمبر / 2004م