شهادةُ المرأة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
ثمة مواردُ لا تصحُّ فيها شهادة المرأة، ومواردُ أخرى لا تصحُّ إلا أنْ تنضمَّ إلى شهادة المرأة شهادةُ الرجل، وثمة مواردُ تكونُ فيها شهادةُ المرأة نافذةٌ ومُثبِتة للقضاء دون الحاجة إلى أنْ تنضمَّ إليها شهادةُ الرجل، وفي الموارد التي يُعتبرُ في شهادة المرأة انضمام شهادةِ الرجل تكون شهادةُ امرأتين في قوَّة شهادة الرجل.
وقد أساءَ البعضُ قراءة هذه الأحكام وفهِم منها إرادةَ الحطِّ من قدْر المرأة في حين أنْ المنتظَر من الباحث الموضوعي الإنصاف والتروِّي وعدم اجتزاء المباني والحكم على كلِّ واحدٍ منها على حدةٍ متجاهلاً وقوعها في إطار منظومةٍ متكاملة يُعبِّر بعضها عن بعض ويتشكَّل مِن مجموعها رؤيةً متكاملة عن موقع المرأة وعن غيرها من القضايا، وقد أوضحنا في بحث القيمومة رؤيةَ الإسلام للمرأة.
خلفيَّات أحكام الشهادة للمرأة:
وهنا نرى من المناسب الوقوف على بعض خلفيَّات هذه الأحكام لتكون قراءتٌها بعد ذلك مُنسجمة مع الإطار العام المُعبِّر عن رؤية الإسلام للمرأة.
النموذج الأول: عدم نفوذ شهادة المرأة في الهلال:
مثلاً عندما يحكم الإسلام بعدم نفوذ شهادة المرأة في الهلال فإنَّ ذلك لا يُعبِّر عن امتهان للمرأة، فليست الشهادةُ منصباً ولا مَغنماً حتى نقول إنَّ المرأة قد حُرمت منها دون الرجل، كما أنَّ رؤية الهلال ليست ملكةً عقليَّة أو نفسيَّة متميِّزة يطمحُ في الاتِّصاف بها كلُّ أحد، فليس على أحدٍ من غضاضة عندما لا يرى الهلال أو لا يتصدَّى لرؤيته رغم قدرتِه على الرؤية، وليست الشهادة برؤية الهلال وساماً حتى يكون عدم قبول دعوى الرؤية حرماناً للواجد لملكة الرؤية.
فالمتعيَّن هو أنَّ منشأ عدم نفوذ شهادة المرأة في رؤية الهلال هو حرصُ الإسلام على ستر المرأة، إذ أنَّ قبول شهادتها يستلزم التصدِّي لأداء الشهادة بعد تحمُّلها، وأداءُ الشهادة معناه الوقوف أمام القُضاة وسؤال القضاة لها عن وقت الرؤية وعن مكانها وعن منزل الهلال وكيفيَّته وعن الزمن الذي استغرقته الرؤية، وسوف يضطرُ القاضي بعد ذلك للسؤال عن المرأة الشاهدة وعن التزامها وسلوكها ليتثبَّت من عدالتها، وكلُّ ذلك ينافي جانب الستر والحجاب الذي حرص الإسلام على التحفُّظ عليه خصوصاً وأنَّه لا ضرورة مُلحَّة ومقتضية لتصدِّي المرأة لهذه المهمَّة بعد أنْ كان من المُمكن تصدِّي الرجال لذلك وكفاية المرأة مؤنة وأعباء هذه المسؤوليَّة التي لا يكشف اناطتها بالرجل عن حظوةٍ زائدة.
وبما بيَّناه يتَّضح أنَّ عدم قبول شهادة المرأة في رؤية الهلال لا يُمثِّل خدشاً في تديُّن المرأة، ولا في عدالتها وصدقِها وإلا لم تُقبل شهادتُها في مواردَ أخرى هي أخـطـر مـن هـذا الـمـورد لارتباطها بحقوق الناس. وينسحب كلُّ ما ذكرناه إلى الشهادة على مثل الـوكـالة والجعالة وما شابَه ذلك من العقود.
النموذج الثاني: عدم نفوذ شهادة المرأة في الطلاق:
هو الطلاق وهو مِن الموارد التي لا تُقبل فيها شهادةُ المرأة، ومنشأ ذلك وملاكُه لا يختلف كثيراً عن المنشأ والملاك في النموذج الأول، فالشهادةُ على الطلاق ليست منصباً ذا شأن ولا مَغنماً ولا يُعبِّر عن ملكةٍ يكون التنكُّر لها إجحافاً، كما لا يُعبِّر عن خدشٍ في العدالة والصدق. ثم إنَّ منافاةُ ذلك للحجاب والستر -بعد عدم الضرورة الملحَّة لتصدِّي المرأة لذلك- قاضٍ بإعفاء المرأة من مسؤوليَّة أداء الشهادة على الطلاق.
نعم هنا خصوصيَّةٌ تقتضي مضافاً لما تقدَّم رجحان إعفاء المرأة من مسؤوليَّة أداء الشهادة على الطلاق، وهو أنَّ مجلس الطلاق -وكذلك مجلس أداء الشهادةِ عليه- مجلسُ حزنٍ وأسى يبعث على الهِّ وتكدُّر الخواطر، ويُحفِّز المشاعر ويُلهبُها ويُحرِّك العواطف التي قد تجنحُ بالمرأة إلى ما يُنافي أُصول الشهادة، وقد تُهيمنُ عليها أحاسيسها المرهفة المناسبة لمقتضى طبيعة تكوينها فتميلُ لجانب المرأة ظنَّاً منها أنَّ ذلك مناسبٌ للعدالة الإنسانيَّة والانتصار للمظلوم، وليس في ذلك خدشٌ لعدالتها وصدقها وإنَّما هي الرقَّة والشفقة التي تحولُ دون رؤية الواقع، فالمشهدُ أقوى مِن أنْ تُقاوِم معه ما يجيشُ به قلبُها من عطفٍ وحنانٍ وشعورٍ بالمأساة، وذلك وإنْ لم يكن حالةً عامة إلا أنَّها غالبة تدعو لملاحظتها عند تشريع الأحكام وسنِّ القوانين.
فالحكمُ بعدم قبول شهادة المرأة على الطلاق لم يكن إلا احتياطاً للقضاء العادل واحترازاً من اعتماد وسائل إثبات يعتريها التردُّد نتيجةَ الشكِّ في التجرُّد عن الدوافع النفسيَّة والعاطفية، ومِن هنا لا تُقبل شهادة ذي العداوة على عدوِّه حتى وإنْ كان عدلاً صالحاً تقيَّاً، وذلك ليس اتِّهاماً لعدالته وصدقِه بمقدار ما هو احترازٌ وحيطة للقضاء مِن أنْ يشوبَه الشكُّ أو أنْ يُشكِّك فيه الخَصم.
ويجري ما ذكرناه على مثل الخُلع والمبارأة والنسب أيضاً، إذ أنَّه عندما يقعُ الشكُّ في انتساب ولدٍ لأبيه فإنَّ مثل هذه القضية المأساويَّة خصوصاً إذا كان المشكوك في نسبِها بنتاً لا حولَ لها ولا قوَّة، مثل هذه القضية تُحفِّز في النفس مشاعرَ العطف ممَّا قد يحولُ دون تحرِّي الواقع والاندفاع نحو الإدلاء بالشهادة لصالح البنت أو الولد انسياقاً مع نداء العاطفة التي قد تُلهبُها مثلُ هذه المشاهد.
شهادةُ امرأتين بشهادةِ رجل في الديون:
وأمَّا الموارد التي تُقبل فيها شهادةُ المرأة وتكون فيها شهادةُ امرأتين بشهادة رجلٍ واحد فهو مثل الديون كما صرَّح بذلك القرآن الكريم، وقد أشار إلى الحكمة مِن ذلك في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾(1).
وسياقُ الآية الشريفة يُعطي أنَّ ذلك كان حياطةً منه تعالى للديون مِن الضياع، حيث أمرت الآية بكتابة عقد المُداينة وأنْ يكون كاتبُ العقد عدلاً، وأنْ يستشهدوا على ذلك شهيدين من الرجال أو امرأتين ورجلاً من العدول، كلُّ ذلك احتياطٌ لأموال الناس عن الضياع.
وليس في اعتبار شهادة امرأتين انتقاصٌ وامتهانٌ للمرأة كما أنَّه ليس قدحاً في صدقِها بعد افتراض عدالتها كما هو واضحٌ من الآية الشريفة، ولو كان اعتبارُ التعدُّد قادحاً في صدق وعدالة المرأة لكان ذلك قادحاً في صدق وعدالة الرجل، إذ يُعتبر في قبول شهادته التعدُّد أيضاً، غايتُه أنَّ الرجل عندما يكون شاهداً فلا يُعتبرُ في قبول شهادته إلا انضمام رجلٍ آخر إليه، أمَّا لو كانت امرأة فلابدَّ وأنْ تنضمَّ إليها امرأةٌ أخرى بالإضافة إلى رجل، وهذا ما قد يُشعِر بعدم مكافئة شهادة المرأة بشهادة الرجل.
وهو وإنْ كان كذلك في مثل هذه الموارد إلا أنَّه لا يعبِّر عن مزيَّةٍ إنسانيَّة أو عقليَّة للرجل لأنَّه نشأ عن خروج ذلك عن اهتمامات المرأة غالباً ممَّا قد يُنتج نسيانها لتحمُّل الشهادة، فالمرأة غالباً ما تكون في شغلٍ عن ذلك بنفسها وبأُسرتها وهو ما قد يُوجب لها النسيان خصوصاً عندما يطولُ أجل المُداينة أو تشتملُ على مجموعةِ من التفاصيل.
على أنَّ الشارع -أساساً- مريدٌ لصرف اهتمامات المرأة عن هذه الأمور المقتضية لحضور مجالس الرجال لتحمُّل الشهادة ولأدائها بعد ذلك، وهو ما يُنافي المبالغة في الستر والحجاب والذي حرص الشارعُ المقدَّس على التأكيد عليه في مواضعَ كثيرة من القرآن والسنَّة الشريفة خصوصاً إذا لم تكن ضرورة ملحَّة تقتضي ذلك كما هو الحال في مثل المقام، حيث يُمكن للرجال القيام بمسئولية التحمُّل والأداء للشهادة.
فعندما يتَّفق عدم وجود رجلٍ له كفاءة لتحمُّل وأداء الشهادة فإنَّ حُرْص الشارع على أنْ لا تكون المرأة وحدَها في مجلس تحمُّل الشهادة وكذلك في مجلس أداء الشهادة فرض أنْ تنضمَّ إليها أخرى، وذلك احترازٌ من عمل الشيطان والذي ينشَطُ في مثل هذه الظروف، بالإضافة إلى أنَّ المرأة قد تضعُف إذا لم يكن معها أُخرى من جنسها تُقوِّي من جأشها.
كلُّ ذلك نشأ عنه الحكم بلزوم التعدُّد في شهادة المرأة، ولعلَّ ثمة ملاكاتٌ أخرى لم نقف عليها، والذي يُهوِّن الخطب أنَّ ذلك هو حكمُ الله عزَّ وجلَّ والذي أخبر عنه القرآن الكريم والسنَّة الشريفة، وهو تعالى الحكيمُ البصير بعبادِه وبما يُصلح شأنهم.
ثم إنَّ هنا مواردَ تنفذُ فيها شهادة المرأة دون الحاجة إلى انضمام شهادة الرجل، وذلك مثل العُذْرة والنفاس وعيوب النساء بل مطلق ما لا يجوز للرجال النظر إليه، وهو يُؤكِّد ما ذكرناه من أنَّ عدم قبول شهادة المرأة في مواردَ أخرى لم ينشأ عن قدحٍ في عدالة وصدقِ المرأة كما لم ينشا عن انتقاصٍ لقدرةِ المرأة على تحمُّل الشهادة وأدائها وإنَّما نشأ عن اعتباراتٍ أخرى أشرنا إلى بعضِها في مطاوي حديثنا.
والحمد لله رب العالمين
مقتبس من كتاب مقالات حول حقوق المرأة
الشيخ محمد صنقور
سبتمبر / 2004م
1- سورة البقرة / 282.